الكتاب: السيرتان المؤلف: سليم بركات الناشر: دار الجديد - بيروت ثمة شيء غامض يلفُّك، من امام ومن خلف، عن يمينك، وعن يسارك، روح كاملة في غموضها الاعلى، وسحرها العفوي المجنون، ستملأ خلاياك وأنت تسوح في هذا الكتاب الغريب، فليس ثمة من شاطئ، وليس ثمة من يد تسحبك جثة من وسط المياه، كل ما في الامر هذه المرة، انك ترى الصور من زاوية الشعر، ومن زاوية الشعر وحده، فيما تتراكم الحكايات والذكريات والمشاهد والشخصيات التي لا تستطيع يد الامساك بجوهرها الزئبقي داخلك، لتصبح، بعد صفحات تعد على الاصابع، مشحوناً بروح كاملة، تحتل جسداً اسمه سليم بركات. سليم بركات حين يكتب عن طفولته، وعن صباه، لا يشبه احداً، هو لا يشبه سوى نفسه فقط، وحتى هذه، يكتنفها الغموض في أحايين عدة، حين كان طفلاً بلا طفولة، وصبياً بلا صبا غائر الروح، والايام كعهدها، تمر أسفل عينيه المحدقتين سريعة ومتلاحقة، لها رنين ايقاعي كجرس في عنق قط، والعينان لا تدع الايام تمر بلا استيقاف، تعقبه الاسئلة وعلامات التعجب، بل يشبه الامر مخزناً هائلاً من الذكريات الاولية للعين، الذكريات التي طالها سن القلم، فبدأ النزيف المر. هنا، في "الجندب الحديدي" او "السيرة الناقصة لطفل لم ير إلا ارضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي ايها القطا"، التي صدرت طبعتها الاولى عام 1980 في بيروت، يثبّت بركات شبح طفولته، جازماً بحسرة شيخ: "كل طفولة ميثاق ممزق، كل طفولة محنة"، عبر خمسة فواصل متتالية متعاقبة، تشبه الحركات الموسيقية في سيمفونية مطموسة معالمها، تُفتتح بمدخل عفوي، يوقفنا على بوابة المنفصلات الخمسة في السيرة الناقصة: "العنف الهندسي" "في ارتطام الجهات"، "في الحريق وفي الصيد"، "في انهيار بري÷ا" و"في الثلج والخراب". ومن ثم، نصبح قادرين على تلمس نموذج مثالي للسيرة الذاتية، عبر وشائجها القوية بالرواية، لا سيما في هندستها او انطلاقها من حدث فاصل، ذو سمة روائية صريحة، ويبرع سليم بركات في جمع خطوط وخيوط الالتقاء والتنافر في نسيج سيرته، او في تلك الكثافة اللغوية والمجازية اللتين تسمان عمله الروائي في مجمله، خصوصاً ان المادة التي يشتغل عليها بركات في سيرته، هي نفسها المادة التي تكوّن محور اعماله الروائية والشعرية، الاراضي الكردية المحصورة بين شمال سورية والعراق والحدود التركية. أهي ملهاة ام مأساة، ما يربطنا ويشدنا بهذا/ ولهذا الشعر السردي المنغّم، الحاد والرهيف في الآن نفسه، أهي نكتة مبكية، ام دمعة مضحكة، ما نسمع وما نرى؟ الشعر القاطع الباتر، اللامع كحد موسى، حين يفرح بانعكاس نقط الدم الحمراء في بريقها على الجلد، اي علامة استفهام تقف قوية امام اسئلة سليم بركات الالف، واي قدرة تتحمل كل هذا القهر الذي تحمله؟ ليس ثمة إجابة، فالقهر والخراب المأسوي اللذين يهدف بركات الى التعبير عنهما في سيرتيه، يتخلّقان اساساً عبر نص ادبي، يتخذ تكأة روائية كدعامة رئيسية لصيرورته ودوامه، ومن ثم يصير السؤال بحجم الخراب: ما الذي يجعل هذا الكتاب بجزئيه سيرة ذاتية وليس عملاً روائياً؟ أهي الاشارة التي يخدعنا بها بركات على الغلاف، فتقودنا بدورها الى حيث يشاء، ام هذا التواطؤ المكتوم والفرح بيني كقارئ جائع الى خرابات الروح، وبين بركات الحكّاء الذي ثقُلت على كفيه الجروح والانهيارات، فتهاوت لامعة كحبات الندى من بين اصابعه؟ اياً تكن الاجابة، فالامر ليس مهماً الى هذه الدرجة، الاهم هو الكتابة، تلك التي تبدأ من صرخة المدرسين في صفوف التلاميذ الصغار مثل فراخ الاوز، حين كانوا واقفين على طرفي الشارع كسطور الكتابة: "انتبهوا، لوّحوا بأيديكم حين يمر الرئيس"، ويمر الرئيس، فتتهاوى الصفوف الهندسية، الى كتل سوداء متدحرجة من لحم التلاميذ، وتصطدم الاجساد والارجل النحيفة بطفولة سليم بركات، ليبدأ من هنا العنف الهندسي في مدينة صغيرة قرب جبال طوروس، الذي يصفه كاتبنا فيقول: "كان عنف الفرح الرسمي عنفا يفوق طاقة طفل لا رسمي، ومع ذلك كان عليّ أن أتحمله في خضوع ساحق، وان اصير عنيفاً بدوري، عنيفاً الى درجة تفوق طاقة طفل". هذا العنف الذي يتدرج حتى يصل الى ذروته، بعد ما ضيّق كل شيء حول طفولة بركات الغير موجودة أصلاً، ليصبح اكثر قسوة وعلواً وهديراً: "أنت كردي، الاكراد خطرون، ممنوع ان تتحدث بالكردية في المدرسة"، ومن ثم يبدأ وعي جديد، الكراهية سلفاً لا لشيء الا لأنك كردي!. إنه "التاريخ حين ينفق كمشمشة"، والغضب حين يقول كلمته بعنف. فاللغة لدى "سليم بركات" او "سلو.. سليمو، با÷ي غزو، ابن الملا بركات"، تظل هي السطح الذي يشف فيظهر ما تحت العمق، وهي المرايات التي تنعكس من فوقها الوجوه والحكايات، وإن اتحدث في هاته المرايا عدة تقنيات، من سرد وشعر وحكي وقص، تلفها جميعاً سخرية حادة ومأسوية، يسبر "بركات" عبرها الطفولة المحنة، والصبا الملهاة، ليصبح التاريخ الشخصي ليس اكثر من تأريخ لوطن وعِرق تشعبت به الارض، ونفته الثقافات. وإذا كان "بركات" افتتح سيرته الاولى بنزيف اوّلي: "طفولتك حرة منك لأنها يقين نفسها، وانت جهالة الوقت المنحدر اليه بلا طفولة، فانتظرها، طفولتك، قدر ما تستطيع اجلها قدر ما تستطيع، موّه الطريق اليك كي لا تصل، ابقها في المتاهة لانك لن تُمتحن بإرثها بعد الآن: لقد تقوّض الابدي". فإنه يبدأ سيرته الثانية بپ"إيذان" مبدئي، ونفير هادر: "لست اغويكم، المكان يُغري لتكونوا لائقين به، فاشعلوا حروبكم قبل ان يشعل الآخرون حروبهم، واتبعوني!". إن "سلو.. سليمو، با÷ي غزو، ابن الملا بركات"، استطاع ان يحرر فينا كل طفولتنا المغدورة، وكل صبانا المغتال، عبر هذا التداعي السردي الذي اتخذه وسيلة لحفر هذه المحنة، وهذه الملهاة، استطاع ان يبني ببراعة قالباً جديدآً، لا هو بالسيرة، ولا هو بالرواية، لكنه شعر يقف على برزخ بين البرزخين، لغة اشبه ما تكون بمجمع ابداعي مكثف، لغة لا تختصر كينونتها في نوع بعينه، بل عبر انواع وانماط متفارقة ومتشابكة في الآن عينه.