منذ ستين عاماً انتصر جيش فرانكو الذي ساندته المانيا وايطاليا على الجمهوريين الحمر، مؤيدي "البربرية الشيوعية"، لتغرق اسبانيا في القهر، قبل ان تجف دماء الابرياء من ابنائها، ولا يفيدها ان تبقى على الحياد اثناء الحرب العالمية الثانية، اذ فرضت الامم المتحدة عليها العزلة طوال خمس سنوات 1945-1950 بعد انتصار الحلفاء المتضامنين مع روسيا "الوثنية" المهزومة في الجنوب - الغربي للخريطة الأوروبية قبل ستة عشر عاماً: كان فرانكو يعتبر ان انتصاره في حربه الصليبية ضد الجمهوريين، هو انتصار على الشيوعية الدولية، التي تمثل خطراً على سلام اوروبا وعقائدها الدينية. وانطلاقاً من كل هذه الاعتبارات، يمكن لنا ان نتابع بوضوح قراءة خطاب وزير الخارجية الاسبانية البرتو مارتين ارتاخو الذي ألقاه في البرلمان في الرابع عشر من كانون الاول ديسمبر 1950، بمناسبة التصويت على رفع العزلة عن بلاده في هيئة الأمم - يقع الخطاب في ثلاث وستين صفحة، واصدره مكتب الاعلام الديبلوماسي في وزارة الخارجية في التاريخ ذاته - ويعرض من خلاله الاسباب التي دعت الهيئة الدولية اعتبار نظام فرانكو خطراً على السلام في اوروبا، والمراحل الصعبة التي عاشتها اسبانيا طوال خمس سنوات، وقبل ان يوافق الحلفاء على انضمامها الى هيئة الامم، وقد ربطت الصداقة بينها وبين الولايات المتحدة الاميركية بعد ان صرح الجنرال فرانكو مؤكداً، ان لي هناك من مشاكل بين اسبانيا، وبين الامة العظيمة في أميركا الشمالية، وليس هناك ما يمنع ان تربط الصداقة بين البلدين. وتجدر الاشارة هنا، قبل ان نعرض لقضية العزلة الاسبانية، ان مضمون الخطاب الرسمي مثل التاريخ الرسمي يطرح اكثر من علامة استفهام، وتخضع اخطاره لاكثر من نقاش: ان اسبانيا فرانكو، لا تستطيع ان تفخر بأنها أوجدت النظام الاكثر انسانية الذي عرفته البشرية، لأن الديكتاتورية الفرانكوية سحقت المغلوبين، وقضت عليهم افراداً وجماعات، وحرمت اولادهم دخول المدارس الرسمية والالتحاق بالجيش... الخ. يعتبر ارتاخو في خطابه، ان الوقت قد حان، ليعرف الرأي العام الوطني اسباب الخطأ الذي ارتكبه نصف العالم بحق اسبانيا، ففرض عليها العزلة الديبلوماسية والحصار الاقتصادي طوال خمس سنوات: بالرغم من ان انتصار الحلفاء في ربيع 1945، لم يكن يفرض بالضرورة ان تهمش اسبانيا التي وقفت على الحياد، والتي كانت تريد ان تشارك في اعادة بناء النظام الدولي، لكن المنتصرين وبدافع من روسيا، شاؤوا ان يصنفوا اسبانيا في عداد الدول المهزومة، وان يفرضوا عليها شروطاً سياسية، مقابل انضمامها الى هيئة الامم: ان يكون نظامها ديموقراطياً. ويشير ارتاخو ان اجتماعات يالطا وسان فرانسيسكو، وكذلك اتفاق مؤتمر بوتسدام - 2 آب اغسطس 1945 - أكدت فيه القوى الثلاث المنتصرة انها لن تؤيد انضمام اسبانيا الى هيئة الامم. وبالتالي، كان هناك في الواحد والثلاثين من آب 1945، وبمناسبة مؤتمر باريس، التصريح السادي للدولة السوفياتية، الذي يدعو الا تشارك اسبانيا في بحث قضايا طنجة. وكذلك ايضاً، فان المؤتمر الثلاثي المنعقد في لندن بمشاركة فرنساوبريطانيا العظمى والولايات المتحدة الاميركية - كانت روسيا تخفي لعبتها - اصدر مذكرة في الرابع من آذار مارس 1946، تؤكد فيها ان اسبانيا فرانكو لن تلقى الترحيب في هيئة الامم، ودعت الى وجود حكومة انتقالية في مدريد تشرف على انتخابات جديدة، حتى تعود العلاقات الديبلوماسية بينها وبين اسبانيا. وزادت الضغوط على الحكومة الفرانكوية بعد ذلك، اذ اغلق الفرنسيون حدود البيرينيه مع اسبانيا التي تمثل خطراً على السلام، ونشرت الولايات المتحدة الاميركية "الكتاب الأبيض" الذي يضم بين دفتية الوثائق التي استولى عليها الحلفاء لدى احتلال المانيا، والتي توضح علاقة اسبانيا ببلاد المحور، وثبت عدم وقوفها على الحياد اثناء الحرب. تزامنت الاحداث، وقررت هيئة الامم في خريف 1946، ان اسبانيا تشكل خطراً على سلام العالم، وفرضت عليها العقاب: انسحاب رؤساء البعثات الاجنبية المعتمدين في مدريد، وطرد كل المبعوثين الاسبان من المؤسسات التقنية العالمية، لم يصوت لصالح اسبانيا اذ ذاك، غير ست دول هي: الارجنتين، كوستاريكا، جمهورية الدومينيك، الاكوادور، السلفادور والبيرو. وظل الفاتيكان يقيم علاقات ديبلوماسية مع مدريد، وكذلك البرتغال، ايرلندا الكاثوليكية، والمملكة الهاشمية، التي زار ملكها عبدالله الجنراليسيمو فرانكو، وجال في اسبانيا، حيث استقبل بحفاوة. واضافة الى هذه العزلة الديبلوماسية، يشير ارتاخو الى الحصار الاقتصادي المميت الذي فرض على اسبانيا التي نقل ذهبها الى روسيا في أواخر الحرب الاهلية، والتي كانت تعاني في آخر ايام الحرب العالمية الثانية، من الخلل في ميزانها التجاري، ومن استحالة استيراد مواد أولى صناعية. كان الاقتصاد الاسباني منهاراً، وبالرغم من ذلك حرمها الحلفاء المنتصرون - وبضغط من روسيا - الاستفادة من خطة مارشال، التي تخصص مساعدة اقتصادية كريمة، تقدمها اميركا لأوروبا، لتمكنها من التغلب على البؤس الذي تعيشه في نهاية الحرب المساعدة كانت عشرة ملايين دولار. ونتيجة لهذا الحصار الاقتصادي، غابت المنتوجات الاسبانية عن اسواق ايطاليا، وانكلترا، وبلجيكا، وفرنسا طبعاً. كذلك ايضاً، رُفض طلب اسبانيا في الحصول على اعتمادات دولية تساعدها على تحريك اقتصادها. وترافقت كل هذه الضغوط بحملات اعلامية، - كانت روسيا قائد الاوركسترا فيها - في الصحافة العالمية، والاذاعات والسينما، "لتشويه صورة اسبانيا"، وكانت تقدم النظام الحاكم مثالاً للظلم والشراسة، وتذكر بالزنزانات المليئة بالسجناء السياسيين، وبالمعتقلات، وتحول المجرمين الى ضحايا النظام اللاانساني، طبعاً لم تكن تلك الوقائع تهمة. ويشير ارتاخو في خطابه، منتقلاً الى مرحلة الرد الشعبي على كل هذا الظلم، الى ان الاسبانيين اظهروا في تلك الظروف العصيبة تكاملاً مع رئيس البلاد، الجنراليسيمو فرانكو، رمز الشرف الوطني، ومثال التجسيد للروح الوطنية... وازاء الظلم اللاحق بها، اعترضت اسبانيا على مجريات الامور، وبعثت برسائل الى حكومات الحلفاء، تعلن فيها ان نظامها السياسي يرتبط بسيادتها، وأصدرت كتيباً ترد فيه على ادعاءات "الكتاب الابيض" وتوضح ان ليس هناك ما تخافه، وتذكر بما قاله تشرشل في 1940، من انه يهدف لتحتل اسبانيا في المستقبل موقعاً من حقها، كقوة عظيمة متوسطية، وكعضو بارز في العائلة الاوروبية المسيحية. ازاء الظلم اللاحق بها، لم تقف اسبانيا مكتوفة، وظلت تفعل ديبلوماسيتها، واستطاعت ان تخرق الحصار الاقتصادي، وعقدت اتفاقات تجارية ثنائية مع بريطانيا التي تحاربها سياسياً وديبلوماسياً، كما مع ايطاليا وسويسرا وبلجيكا، وهولندا والدانمارك، والسويد، وايسلاندا، وايرلندا واليونان. واستطاعت كذلك ان تعقد اتفاقات مع فرنسا ذاتها في اوائل 1948، وقد ادركت ان سياستها العدائية تجاه اسبانيا لا تجدي نفعاً. وحذت المانيا حذو جيرانها ايضاً، الذين بدأوا يتحررون من الضغط الروسي عليهم. ولم تنقذ كل هذه الجهود اسبانيا من ازمتها الاقتصادية، بالرغم من ان تجارتها مع بلدان اميركا اللاتينية لم تتوقف، فواجهت في خريف 1949، وضعاً اقتصادياً خطيراً، لانها اضطرت ان تعتمد على سحب الذهب الاحتياطي. ويوضح ارتاخو وهو يعرض في خطابه هذه التطورات، ان اسبانيا دفعت غالياً ثمن "حربها الصليبية" ضد الحمر، ويشير الى ان العالم الكاثوليكي وقف الى جانبها في محنتها، وكان هناك في اوروبا كتّاب وعلماء مسيحيون، ظلوا يدافعون عنها في خريطة من عدم التفهم "لحقيقتها". ولم ينسَ ارتاخو وهو يستعرض مراحل سنوات العزلة الخمس، من ان يشيد بالصداقة الاسبانية - العربية، التي شكلت مع الاخوة اللاتينية - الاميركية، الجناحين اللذين استطاعت اسبانيا بواسطتهما من ان تحلق من جديد، وقبل ان تنتصر في معاركها الديبلوماسية الطويلة، التي جعلت العالم يتفهم واقعها، ويكتشف ان "الشيوعية البربرية" هي الخطر الاكبر على أوروبا والعالم. وقد ازداد تدريجاً عدد الاصوات المؤيدة لإنضمامها الى هيئة الأمم. وفي النهاية، بعد ان صارت اسبانيا فرانكو عضواً في هيئة الامم، فتحت أمامها آفاق بعيدة، فأعلن الحلفاء - ما عدا روسيا طبعاً - انهم سيرسلون بعثات ديبلوماسية الى مدريد، وسمح للاسبانيين بالعمل في المؤسسات الدولية، ومنحت اسبانيا تسهيلات في القروض، ومنحتها اميركا قرضاً قيمته اثنان وستون مليون دولار، فتحررت من الضائقة الاقتصادية، وصارت تعقد الاتفاقات التجارية كما تريد، ليتجاوز الشعب آلام خمس سنوات من العزلة، فرضتها عليه سياسة هيئة الامم، لتعاقب فرانكو بضغط من روسيا والحلفاء، على حملته الصليبية ضد الحمر...