منذ افتتاحه في تشرين الاولاكتوبر الماضي، يجذب الموسم اللبناني في "معهد العالم العربي" في بباريس جمهوراً كبيراً واهتماماً واسعاً لنشاطاته المختلفة: المعرض الأثري ، الحفلات الموسيقية، لقاءات "خميس المعهد" الندوات، السينما، المسرح.... وشمل البرنامج المسرحي الذي قدّم أخيراً خمسة عروض ثلاثة منها للمخرج روجيه وهي: "حزيران والكافرات" نص ناديا تويني و"حدود قانا" اخراج مشهور مصطفى، "جنينة الصنائع"، و"زواريب" نص رفيق علي أحمد وتمثيله، اما العرض الاخير فهو "المقسم 19" اخراج ربيع مروة. ولمناسبة وجوده في باريس، كان لقاؤنا مع روجيه عسّاف، الذي يحضر بقوة في البرنامج، حول عمله المسرحي الماضي والحاضر وهو من الناشطين في الحياة المسرحية اللبنانية منذ أكثر من ثلاثين سنة. في ما يلي نص الحوار: في إطار الموسم اللبناني الذي ينظّمه "معهد العالم العربي"، عُرضت في البرنامج المسرحي الذي ضمّ خمسة أعمال مسرحية ثلاثة من إخراجك. هل هذا نوع من التكريم لك؟ - لا أعتقد ، بل كانت صدفة. أتيت مع فرقتي بعمل واحد الذي هو "جنينة الصنائع"، ورفيق علي أحمد وهو وجه مهم من الحياة المسرحية اللبنانية أتى بمسرحيته "زواريب" التي كنت عملت معه على اخراجها، و"مؤسسة ناديا تويني" اشتركت أيضاً وكنت الذي نقل "حزيران والكافرات" الى المسرح. ولكن، يشعر المرء بأن البرنامج محدود وهناك تقصير بالنسبة لمخرجين آخرين؟ - لا شك في ذلك. إنني لست مرتاحا لهذا الوضع واعتقد بأنه كان يجب اعطاء الفرصة لكل الاشخاص الذين من حقهم ان يمثلوا لبنان في أن يكونوا موجودين هنا. كان يجب ان تكون المشاركة أكبر. مع نصّ "حزيران والكافرات"، لناديا تويني، عدت الى العمل باللغة الفرنسية على الرغم من أنك كنت ابتعدت عن الاعمال الفرنسية منذ فترة وأخذت موقفا من ذلك. كيف تفسّر هذه العودة؟ - ليس هناك أي عودة. كل سنة، تقدّم "مؤسسة ناديا تويني" عملا في ذكرى الشاعرة الراحلة. طُلب مني أن أقوم بهذا العمل تنفيذا لرغبة معيّنة فكانت مبادرة اشتركت فيها. ولكنك كنت انقطعت عن التمثيل باللغة الفرنسية أو عن إخراج أي عمل بالفرنسية؟ - إلا أنك نسيت عملين: مسرحية "مذكرات أيوب" التي عرضت بالعربية في بيروت سنة 1993 تُرجمت الى الفرنسية وقُدّمت في باريس. وفي سنة 1996، قمت بعمل آخر، بالفرنسية،اسمه "سمر" عُرض في مهرجان لبنان في "بيت ثقافات العالم". هذه ليست مشكلة كبرى. بالطبع، يقتضي الأساس في العمل ومتابعة المسيرة المسرحية وتطوير علاقتنا بالتعبير وبالمسرح ان نشتغل باللغة العربية. إنه أمر ثابت ومستمر من دون أي إنقطاع ولكنه لا يمنع تقديم عمل باللغة الفرنسية عندما تقتضي الحاجة. المسرحية التي عرضتها في الصيف الماضي في لبنان، "الميسان"، كنت قدّمتها في الستينات باللغة الفرنسية. واليوم ترجع بها باللغة العربية؟ - كلا. إنها مسرحية كلاسيكية اسبانية كنت اشتغلت عليها سنة 1967، بالفرنسية، حسب النص الاصلي. ولكن "الميسان" في اعداد جديد كلياً، ينطلق من المسرحية الاسبانية بالذات وإنما في اتجاه مختلف تماماً. المسرحية جديدة والنصّ كذلك. إن عدنا الى الوراء قليلاً وسألتك عن تجرية الحكواتي: ماذا بقي منها؟ وهل بيان الحكواتي الذي اطلقته في الثمانينات ما زال قائماً؟ - في النقاط الأساسية، في الجوهر، نعم وسأفّسر لك كيف. طبعا، الظروف تتغيّر والصيغة التي كانت منسجمة مع المرحلة التي عملت فيها مسرح الحكواتي تغيّرت. ولكن، ما الذي بقي؟ في المنهج، بقي أمران كانا ركيزة عمل مسرح الحكواتي: أولا، الاستناد الى حكايات من الواقع المُعاش، الحكايات الحقيقية، وثانيا الاستناد على العمل الجماعي بالمعنى الذي كان موجودا في الحكواتي أي العمل الذي يجمع الناس بعضهم مع بعض ويجمعهم بالواقع. وهنالك جانب من العمل مستمرّ وموجود دائما، في الحكواتي وخارج الحكواتي، وهو علاقة الممثل بالعمل وبطريقة التمثيل، أي أن يعبّر الممثل بصدق إنطلاقاً من شخصيته الحقيقية على المسرح. ما الذي تغيّر؟ في مسرح الحكواتي، كانت الحكاية توحّد كل الناس حولها، الممثلين والجمهور على السواء. كنّا، على خشبة المسرح وفي القاعة، نحتفل بالأشياء التي تجمعنا في القناعات والمعاناة والرفض والأحلام وفي الأمل... لأن المرحلة كانت تقتضي ذلك: قضية الجنوب والقضية الفلسطينية كانتا من العناصر الموحدة. أما اليوم، فالوضع يختلف تماما. مجتمعنا ونحن - كل واحد منّا - يعيش حالة تمزّق وضياع. الوحدة مفقودة والتناغم بين الممثلين ومع الواقع ومع الجمهور مفقود ايضاً. فالمسرح أصبح مكاناً للتعبير عن التناقضات من اجل مواجهة تناقضات كي تنتج نوعاً من التوحيد. نتوحّد في العمل المشترك قليلاً ولكن العمل لم يعد متماسكا معنوياً. قد يكون متماسكاً فنيّاً ولكنه، في الفكر والتعبير، أصبح العكس. بدل أن تكون الحكاية محور العمل وقطب كل المجهود وكل الاحتفال، أصبحت الحكاية خارج العمل تقريباً والأشخاص على المسرح يعانون من عدم انسجامهم، حتى مع الحكاية . وأنت، مع أي مسرح ترتاح؟ - لا أعمل مسرحاً كي أرتاح. المسرح أداة، ونستعمل المسرح كما نشعر بأنه يلزم أن نستعمله. لا يهمني أي مسرح أنا وليس عندي الهمّ بأن أشتغل مسرحا معيّنا وأن أؤسّس مدرسة وأن أرتاح في شكل مسرحي معيّن. ما هو همّك إذا؟ - الهم هو العلاقة الصادقة مع الناس ومع الواقع. يجب أن يبقى المسرح مكاناً للتساؤل، للبحث عن الهوية، عن الحقيقة، وهذا البحث، بشكل إضطراري، هو بحث متقلّب وقلق ومضطّرب لأن الواقع هكذا والحىاة هكذا. لا يمكننا أن نرتاح في صيغة واحدة وأن نقلّد أنفسنا باستمرار. عن ماذا كنت تبحث، وهل تفتش عن شيء ما لم تجده؟ - كل ما بحثنا، وكل ما وجدنا بأن الأمور غير ثابتة ونهائية. البحث، في نهاية الأمر، هو طريقة للبقاء، ثم توجد أشياء ليست بإرادتنا، كل محيطنا تغيّر. القضايا التي كانت هاجسا أساسيا في حياتنا، أين أصبحت اليوم؟ وهل المسرح الذي تعمل فيه حاليا يشكّل جواباً؟ - كلا، لا يشكّل جواباً وإنما تجرية صادقة. وكي لا أبقى في العموميات، سأفسّر أكثر: أصبح تكوين الفرقة واختيار المواضيع يتمّان بشكل إرادي من أجل تجميع عناصر تأتي من أطراف مخالفة من بيروت ومن لبنان، من طوائف مختلفة أو من قناعات مختلفة، من مسيحيين ومسلمين وعلمانيين وملحدين، من مناطق مختلفة ومن علاقة مع لبنان تختلف من شخص الى آخر. وهذه الاختلافات والخلافات نواجهها في العمل وهي جزء من العمل كي نمارس قناعة مهمة وقوية بالنسبة لي وهي ان لبنان مجتمع لا يستطيع أن تعيش إلا إذا خضنا معركة أسمّيها "معركة التعايش" اللبنانيون يعيشون وضع تجزئة ومن الضروري جدا ان يواجهوا هذه الحقيقة وأن يلتقوا ويشتموا بعضهم البعض وأن يقولوا بأنهم يكرهون بعضهم، وأن يعبّروا، في نهاية الأمر، عن إرادتهم للعيش مع بعضهم. الحقد موجود ويجب ان نعبّر عنه كي نتجاوزه. المسرح نموذج للمحتمل وللمستطاع، والمثير جدا هو أن هؤلاء الأشخاص الذين اجتمعوا كي يقوموا بعمل مشترك استطاعوا أن يصلوا الى هذا العمل بالرغم من الفروق العميقة الموجودة بينهم. لا يمكنني القول بأن العلاقات بينهم أصبحت مثالية ولكنها تطورت تطورا ايجابيا. لماذا؟ لأن هناك إنتاجا مشتركا مبنيا على حقيقة وليس على كذب. أعتقد أن الأمر ممكن ولكننا لا نعطي الشباب فرصة كي يخوضوا هذه التجربة. لا توجد أماكن للإختلاط والحوار. مع إقفال "مسرح بيروت"، كيف ترى وضع المسرح في لبنان؟ - سيّء جداً. وإقفال "مسرح بيروت" دلالة سلبية لأنه من الأماكن النادرة التي كان يمكن أن يكون فيها تعبيراً حرّاً والتقاءً مختلطاً. هذه الأماكن مهددة في ان تزول وتنقرض. وأنت كيف تشتغل؟ أين تشتغل؟ - لا أعرف. يجب ان أخلق مكانا وإنما وحدي لا أستطيع أن أقوم بذلك. التضامن مفقود وكل واحد يعمل وحده. ولكن، ربّما الحاجة قد تولّد تحرّكا وتضامنا من أجل أمر يبدو بسيطا جدا وبديهيا وهو إيجاد مكان للتعبير