جاء الاستطلاع الذي أجرته "الحياة" مع عدد من مثقفي البلدان العربية سورية، لبنان، الاردن، مصر، حول معنى قيام الدولة الفلسطينية، وأثرها على السياسات العربية، وعلى شكل تعاطيهم مع القضايا التي يتناولونها في أعمالهم، ليكشف حالة الاغتراب في مجتمعاتنا، بين المثقف وبين السياسة، باعتبارها حالة وعي وفعل، وليؤكد التقصير في التحضير للاستحقاقات السياسية، وليبيّن الفجوة التي فرضتها الجغرافيا السياسية، بين المثقفين، في تلمسهم للقضايا. بداية، طرحت "الحياة" سؤالها بصيغة عامة، ثم كان لاختيارها مجموعة مختلفة في اختصاصها ودرجة تعاطيها مع الشأن السياسي، أثره على مستوى الأجوبة. وبغض النظر عن التفاصيل، فقد عبر المثقفون العرب، في إجابتهم المنشورة 25-29/1/99، عن تأييدهم بشكل عام، لقيام دولة فلسطينية، ولكن هذا التأييد ارتبط ببعض التشكك بامكانية قيام هذه الدولة ومقوماتها وانعكاساتها، بالنظر للممانعة الاسرائىلية، أو بسبب ضعف قدراتها، أو بنتيجة المخاوف الناجمة عن المحاولات الاسرائىلية لتوظيفها. وقد أكدت هذه الاجابات على ان قيام هذه الدولة ليس نهاية المطاف، لا بالنسبة لحقوق الشعب الفلسطيني، ولا بالنسبة لقضايا الصراع العربي - الاسرائىلي. الملاحظة الاساسية هنا ان معظم الاجابات لم يتضمن الحديث عن المسؤولية العربية تجاه قضية قيام الدولة الفلسطينية، وكأن هذه الدولة التي يجري انتزاعها بفعل عملية صراعية معقدة وطويلة الأمد ضد المشروع الصهيوني، هي قضية عادية، تخص الشعب الفلسطيني وحده! والاسئلة التي تطرح نفسها هنا هي انه اذا كانت اسرائيل تعمل على عرقلة قيام هذه الدولة، أو تحد من حجمها وقدراتها وعناصر سيادتها، في حال اضطرت للسماح بقيامها، واذا كانت تحاول توظيفها أو احتواءها، أفلا يعني ذلك منطقياً وسياسياً ان ثمة مسؤولية عربية تجاه مقاومة هذه المحاولات الرامية الى اجهاض قيام هذه الدولة، وبالتالي تجاه تمكين الفلسطينيين من مواجهة محاولات التوظيف والاحتواء والاضعاف الاسرائىلية، وذلك عبر الاحتضان العربي لدولتهم الوليدة، وتعزيز قدراتها ومرتكزاتها السياسية والاقتصادية والقانونية، واعتبار كل ذلك مصلحة عربية. الملاحظة الاساسية الثانية، تتعلق بتبسيط مسألة الكيانية والدولة الفلسطينية. فبعض الإجابات اعتبر هذه الدولة مجرد دولة تضاف للدول القائمة، وربما اضافة سلبية لها، أو انها ليست الدولة المتخيلة التي حلموا بها، بدعوى ظواهر الفساد والتسلط، في حين تلمست اجابات اخرى أهمية هذه القضية للصراع ضد المشروع الصهيوني، في بعديه الفلسطيني والعربي، بحكم الخلفية الثقافية والمهنية لاصحابها، الذين رأوا في قيام الدولة الفلسطينية، تحديداً لحدود اسرائيل وتوسعيتها، واجباراً لها على الاعتراف بالفلسطينيين، التي عملت طويلاً على إنكار وجودهم أو تغييبهم. وفي الواقع بدت دوماً مسألة الكيانية الفلسطينية، إشكالية مؤرقة في الفكر السياسي العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً. وتنبع هذه الاشكالية من حقيقة الطابع القومي للقضية الفلسطينية، ومن الدور السياسي - الوظيفي لاسرائيل، التي قامت في جانب أساسي منها لخدمة المشاريع الغربية للهيمنة على المنطقة العربية، وبقدرات تؤهلها لمواجهة الحالة العربية وليس فلسطين والفلسطينيين فحسب. ولكن على رغم أهمية هذه الحقيقة ودلالاتها، فإن الشعب الفلسطيني حين حرم من وطنه، حرم ايضاً من هويته الوطنية، في مرحلة ترسّخ الدولة القطرية. وبناء عليه لم يجر تمثّل الفلسطينيين كشعب عربي في مناطق اللجوء، حيناً بسبب التخوف عليهم من الاندماج في الاقطار التي يقيمون فيها، مما قد ينسيهم قضيتهم، وهو ما يعتبر خدمة مجانية لعدوهم الذي يعمل على الغائهم" وحيناً آخر، بسبب التخوف منهم باعتبارهم يحملون "جرثومة" التغيير وعدم الاستقرار وتغيير المعادلات الديموغرافية. وقد ساعد على هذا وذاك طبيعة التكوّن التاريخي للدولة القطرية العربية، وضعف مبناها ومستوى تطورها: الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، الوطني والقومي، وتعثر تجربة بناء الدولة الحديثة. ويوضح الاستطلاع هذه الاشكالية، فثمة من يطالب الفلسطينيين بتجاهل قضية الدولة بدعوى تعارضها مع البعد القومي، وبقائهم قوميين خلّصاً في الحالة القطرية التي تصفعهم كل يوم، وثمة من يعتبر قيام دولتهم مساهمة في تحقيق الاستقرار في بعض البلدان العربية، وهذا ما عكسته معظم اجابات المثقفين اللبنانيينوالاردنيين التي تمحورت اجاباتهم حول هواجس الوجود الفلسطيني، فرأت في الدولة الفلسطينية تبديداً لاخطار التوطين في لبنان، وتقويضاً لمشاريع الوطن البديل في الاردن، وهما بلدان عربيان. وللحقيقة فثمة تناقض في الممارسة السياسية للنظام القطري العربي، فهو من الجوانب الحياتية اليومية والشكلية، يصر على عدم تمثّل الفلسطينيين وهذا ليس له علاقة بفزاعة التوطين المرفوضة بحجة مصلحة القضية، ومن الجهة المقابلة يعمل على تهميش أو مصادرة البعد الفلسطيني من الناحية السياسية. ولعل التجربة الكيانية المهيضة، المتمثلة بحكومة عموم فلسطين، التي لم يسمح لها بادارة المناطق غير المغتصبة من فلسطين في العام 1948، ولا حتى بمجرد اصدار جوازات سفر للحفاظ على هوية الفلسطينيين، ومن ثم تجارب الهيمنة على مساراتهم السياسية لاغراض قطرية ضيقة، والتي انعكست في شكل ممارسات غير لائقة، تجاههم" عززت من شعورهم بان قيام دولة لهم، قد يصحح وضعاً تاريخياً أجحف بحقهم في مرحلة بدايات تشكل الدولة القطرية العربية. وقد يساهم برفع الغبن المفروض عليهم، كما قد يقلل التخوف الزائد عليهم أو منهم، في زمن ازدهار الدولة القطرية، وانحسار العمل العربي بمعناه ومبناه الثقافي والسياسي. مع ذلك ينبغي التأكيد هنا على ان غالبية الفلسطينيين يطمحون الى تمثل جدي ومسؤول من العرب لقضيتهم، فهم اصحاب مصلحة حقيقية في انفتاح مسار التطور القومي، فهم قوميون بالفطرة وبالضرورة، وكانوا وما زالوا من رواد الحركات القومية، ومن رواد دعاة العمل العربي المشترك، ولكن ثقل الواقع القطري الذي يحيط بهم، ليس مجرد حالة نظرية، فهو حالة سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية، ويخشى انه بات حالة ثقافية، وهذه الحالة بالنسبة للفلسطينيين لها نتائج مركبة على اوضاعهم وعلى وعيهم لذاتهم وقدرتهم على مواجهة عدوهم. وعليه فقد بقي الفلسطينيون في منزلة بين منزلتين، فلم يجر التعامل معهم باعتبارهم اصحاب هوية مستقلة، أسوة بغيرهم من الشعوب العربية، التي حققت دولتها القطرية الخاصة، وعلى الأغلب لم يجر التعامل معهم باعتبارهم من اهل البلد برغم انتمائهم العربي، فهم غالباً شيء شاذ أو فائض أو في حالة ضيافة ينبغي ان يشكروا المضيفين عليها. وحتى الآن، وفي عصر العولمة، ثمة دول عربية، لا تسمح لحامل الوثيقة بدخول أراضيها، في حين ان دولاً أوروبية تسمح بذلك!، وما ينطبق على التنقل والإقامة ينطبق على العمل والدراسة ومختلف شؤون الحياة الانسانية البسيطة. وهذه المسائل التي قد تبدو غير ملحوظة، أو ثانوية بالنسبة لبعض المثقفين العرب، هي مسائل باتت في صميم حياة الفلسطينيين وتشكل وعيهم لذاتهم، ومصدر قلق وجودي دائم لهم" وربما هي من العوامل التي تفسر التفاف غالبيتهم حول منظمة التحرير، وقيادتها، رغم مآخذهم الكثيرة المهمة عليها، وهذا ما يفسر ايضاً النظرة المزدوجة للفلسطينيين في مناطق اللجوء، تجاه عملية التسوية، فهم يرفضونها لمظالمها، بحقهم، وفي نفس الوقت تراهم يعتقدون ان هذه التسوية المجحفة، قد تحسن من اوضاعهم. ولكن بمعزل عن ذلك، ومن ناحية وطنية وقومية، معاً، فان غياب الفلسطينيين يعني غياب فلسطين وبالتالي حضور اسرائيل، لذلك فان قيام الدولة الفلسطينية هو تعبير عن حضور الفلسطينيين كشعب وكحقيقة سياسية، وهو محصلة ومصلحة للنضال الفلسطيني والعربي، بعد نصف قرن من محاولات الإلغاء والتغييب الاسرائىلية. وهو تعبير عن اخفاق المشروع الصهيوني في احد جوانبه وواقع يتم فرضه على اسرائيل، وذلك بغض النظر عن حجم الدولة، وقدراتها، فهي قوية بدلالاتها السياسية، وبامتداداتها العربية، وما مسألة السيادة الا مسألة نسبية في مرحلة العولمة، فضلاً عن كونها مسألة صراعية تاريخية. وبالطبع فان مناقشة هذه المسألة هنا لا يتناول المآخذ على تفرد القيادة الفلسطينية، وكيفية توظيف القرار المستقل وسلبياته. فهذه مسألة مختلفة. وهي مثل تفرد أي دولة عربية بقراراتها، بدعوى السيادة الوطنية، برغم مضار ذلك على القضية القومية، والوضع الفلسطيني. اما الحديث عن هذه الدولة ليست الدولة الحلم، فهذه هي الحقيقة المرة، التي يجب وعيها، للانتقال من الدولة المتخيلة الى الدولة الواقعية، الناتجة عن موازين القوى والاوضاع العربية والدولية غير المواتية. وظواهر الفساد وتعثر المسار الديموقراطي، لا تعني الغاء الدولة، والا لتطلب الامر الغاء عديد من الدول!، فهذه القضايا خاضعة لعملية التطور ذاتها، وكل هذه المخاوف تستدعي بذل جهود مضاعفة من اجل قيام الدولة وتحصينها وتطويرها. بمعنى آخر، من حق المثقفين العرب ان يحلموا بدولة فلسطينية خالية من الشوائب، تليق بهذه القضية التي شكلت هاجساً لهم ومحوراً لحياتهم، ولكن من الواجب عليهم ان يقدروا تعقيدات هذه القضية، فالدولة التي ستعوضهم عن خيبات أملهم بمحاولات التحديث والتغيير في اقطارهم، لن تكون موجودة، لان الدولة الفلسطينية لن تأتي كناتج لعملية تحرير، وانما كناتج لعملية تسوية يجري فرضها في ظروف غير مواتية. ويبدو ان التاريخ يعيد نفسه، ففي مراحل صعود الثورة الفلسطينية، ظن كثير من المثقفين بانها ستكون طليعة الثورة العربية!، وانها مسؤولة عن التغيير في العالم العربي، وهذا النمط من التفكير الذي هو شكل من اشكال التعويض عن القصور والعجز، أدى الى الضرر بالثورة وبالقضية الفلسطينية، وحملها أكثر مما تحتمل. وبالمقابل عندما انتكست الثورة، حملت الثورة والقضية أوزار المرحلة السياسية الماضية. باختصار الدولة المفترضة ستكون دولة عادية، بل انها ستتعرض لتحديات ولمحاولات اختراق عديدة، وهذه الدولة لن تكون استثناء في الوضع العربي بل جزءاً من النظام العربي تؤثر وتتأثر به، تتطور بتطوره، وتتأخر بتأخره، وبقدر ما يجري تعزيز مرتكزاتها واحتضانها عربياً، بقدر ما يتم تمكينها من مواجهة محاولات الاختراق والتوظيف الاسرائىلية، وهذه مسؤولية مشتركة فلسطينية وعربية. اخيراً فان عملية التسوية وقيام الدولة الفلسطينية، ستساهم بشكل أو بآخر في تغيير وتعديل أولويات عمل المثقفين والسياسيين، كما أشارت الى ذلك بعض الإجابات، والصراع سيستمر ولكن اشكاله ستتغير، وستكون اكثر شمولاً بدلاً من اقتصاره على البعد العسكري، بحيث يصبح صراعاً ضد التخلف والفقر والتسلط ومن اجل الحديث والديموقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية، وهذا بحد ذاته عودة الى اصل الاشياء، فالصراع ضد المشروع الصهيوني بابعاده ووظائفه المختلفة، هو صراع متعدد الاشكال والمستويات، وهو بالتأكيد لم يبدأ بالصراع العسكري، وليس بالضرورة ان ينتهي به. اخيراً لعل الفلسطينيين الذين كانوا عرباً اكثر وفلسطينيين أقل طوال هذا القرن، بالفطرة وبالضرورة، باتوا اليوم، بحكم المتغيرات الدولية والعربية، وبسبب خيبات الامل، فلسطينيون اكثر بتعبير الياس صنبر، والمسؤول عن ذلك اكثر من غيره هو النظام القطري العربي. * كاتب فلسطيني