حين قال الشاعر "وما آفة الأخبار إلا رواتها" لم يجانب الحقيقة في تشخيصه لمكمن الداء في الخبر. فالناقل وظيفته في الأصل مجرد الإيصال، أي أنه مجرد وسيلة، والوسيلة ليس مطلوبا منها أن تتجاوز دورها وتصبح الوعاء والمحتوى، الناقل والمنقول، فتفقد قيمتها كوسيلة. وهي التهمة التي توجه باستمرار لوسائل الإعلام . لأنها لم تعد آفة بل صارت أساسا ومقوما من ضرورات الإعلام في العصر الحديث. فأن تتهم صحيفة أو قناة تلفزيونية ونحوها بعدم الصدق والحياد معناه أنها صاحبة هوية وموقف وإرادة، وليست كغيرها مسلوبة الوعي والشجاعة، لتتدخل في مضمون ما تنشره حتى لو كان سيعود بالوبال عليها في المدى الطويل. ومن هذا المبرر السابق تدخل كل الآفات والعلل في جسد الوسيلة الإعلامية، لتمسخه جسدا مفعما بغريزة إلحاق الأذى بالذات قبل الغير. وإذا كان ماسبق هو الرأي الشائع تجاه الإعلام ، فإنه رأي مبني في الغالب ضمن إطار الانطباعات والظنون والقناعات الشخصية غير المنضبطة بإطار العلم والموضوعية، خصوصا في العالم العربي الذي تتحكم أبواقه الإعلامية في صياغة وعي شعوبه وفق القوالب المناسبة . أما البحث العلمي والتدقيق في حقول الأدب والفكر والفن فمعدوم تماما، نظرا للسمعة الطيبة التي تحيط بالقيمين على تدبير شؤونها وترفعهم عن مواضع الشك وسوء الظن في حقيقة ما يفعلون حتى صار ذلك عرفا متبعا. لكن الدراسة العلمية المحكمة التي قام بإعدادها أخيرا الدكتور سليمان بن جازع الشمري أستاذ قسم الإعلام في جامعة الملك سعود في الرياض بعنوان "الدراسات والردود النقدية الأدبية في الصحافة السعودية تحليل مضمون التغطية الصحافية في صحيفتي المدينةوالرياض خلال عشرة أعوام من 1401ه - 1410 تعتبر خرقا لهذه القاعدة المتبعة في التعاطي مع الخطابات الفكرية والأدبية، حيث "الردود والدراسات النقدية أصبحت الحارس القائم على نقد العمل الأدبي وتقويمه". مع أن الباحث الإعلامي يستطيع أن يقوم ب "تحليل مضامين جميع النتاج الثقافي والأدبي والديني والسياسي..." ويترجم ذلك إلى "أرقام تعكس موقف الصحف" وقياس تأثير مساهمتها في تغطية تلك المضامين على القارئ. الباحث سليمان الشمري جعل من الدراسات والردود النقدية أو المعارك الأدبية مدخلا لذلك التحليل. وحتى يكون تحليله موضوعيا حدد له إطارا زمنيا وإطارا مكانيا، الأول: اختير لأنه يمثل "مرحلة الطفرة الاقتصادية العامة في المملكة" التي انعكست على حركة الطبع والإنتاج الثقافي "حيث تعد هذه الفترة العصر الذهبي... فالكتب بدأت تأخذ طريقها إلى المطابع، والنقاد والدارسون بدؤوا يقوّمون ذلك النتاج الجديد والمتنوع عبر الملاحق الأدبية". أما الثاني، وهو اختيار صحيفتي الرياضوالمدينة: فنظرا ل "قوة الملحق الأدبي" فيهما حيث تصدر المدينة ملحق الأربعاء والرياض ملحق الخميس. هدف الدراسة كما يقول الشمري ليس متابعة المعارك الأدبية وإحصاءها وإنما "معرفة طبيعة تعامل الصحف السعودية بشكل عام مع الردود النقدية سواء أكانت تحمل الطابع النقدي الإيجابي أم السلبي أم المحايد" وأيضا ليس تقويم المعنى الأدبي للنص تحديدا لما فيه من قيم عقلية وفنية.. وإنما "معرفة مدى تركيز هذه الدراسات والردود النقدية... ومعرفة طبيعة تركيز الردود أو الدراسات النقدية على النص أو على شخصية الكاتب أو على الطرفين معا ومعرفة موقف الناقد من النص ومن صاحب النص من خلال التزامه بالموضوعية" كذلك "التعرف على طبيعة التغطية الصحافية للصحف السعودية كما وكيفا للردود والدراسات النقدية، أي أن نعرف مقدار أو نسبة التغطية والمساحة للموضوعات الأدبية المنقودة المقومة وأن نعرف كيفا حجم السلبية أو الإيجابية أو الحيادية التي تركها النقاد والأدباء خلال فترة الدراسة للتعرف على مقاصد الكتاب من خلال الكلمات والجمل التي تعبر عن أفكارهم ومفاهيمهم للمادة اللفظية أي أسلوب الكلمة المستخدمة". هذا الهدف الذي يجاهد للتمحور حول طبيعة التغطية الصحافية للردود والدراسات النقدية لايلبث أن ينفلت إلى طبيعة المضامين نفسها التي أخرجها من دائرته. وبتعبير آخر يسعى الباحث إلى معرفة دور الصحيفة من خلال معرفة دور الصحافي في المقالات والردود النقدية لكنه يجد نفسه منزلقا إلى دور الكاتب أو الناقد وما تركه من أثر. وهو تذبذب يدل إلى ضعف ومحدودية الدور الذي تقوم به الصحيفة في الحوار الدائر بين الأطراف المتصارعة. ولذلك فالأجدى تلمس أهداف الدراسة من خلال استعراض اسئلتها السبعة التي تحاول الإجابة عليها، ووتتمثل في محاولة التعرف على: طبيعة العمل المنقود كتاب، مقالة، محاضرة، عمل مترجم، سرقة أدبية، رد على مقالة سابقة. وجنسية صاحب العمل النقود سعودي، عربي، أجنبي. و اهتمام المقالة النقدية بالنص، شخصية الكاتب، شخصية الكاتب والنص. والموضوعات التي ركزت عليها المقالات النقدية الشعر التقليدي، الشعر الحديث/ الحر، الرواية، النظريات النقدية، القصة القصيرة، الحداثة، المسرحيات، موضوعات فلسفية، اللغة والأدب. وموقف الناقد من النص وموقفه من صاحب النص إيجابي جدا، إيجابي، سلبي جدا، سلبي، محايد. واهتمام الصحيفة بالموضوع من حيث العنوان مثير جدا، مثير، غير مثير، عادي، إبراز الموضوع مثير جدا، مثير، غير مثير، عادي، المساحة المخصصة للمقالة النقدية صفحة كاملة، ثلاثة أرباع الصفحة، نصف صفحة، ربع صفحة، عمودان، عمود. الباعث لفكرة الدراسة يضيء أيضا جانبا من أهدافها، إذ يذكر الباحث أنها انبعثت من "قراءة مقالين لعلمين من أعلام الحركة الأدبية في المملكة هما الدكتور عبدالله الغدامي والدكتور حسن الهويمل" ويورد مقتطفات من المقالتين تدلل على تجاوز موضوعية العلم والحوار إلى ذاتية الموقف الشخصي من الآخر بوصفه إنسانا: فمن مقالة الغذامي التي نشرت في صحفية الرياض في 17/سبتمر/1992 بعنوان "والهويمل إذا أهمل": "يندب حظه، يلطم وجهه، ويشق جيبه، سمع ما هو فوق طاقته وفوق تصوراته وفوق قدراته، إنه لم يزل يحفظ دروس معلميه عن أقسام الآداب، صح النوم يا دكتور أين أنت من أطروحات البرتو إيكو... إن بحوثي المنشورة بالعربية التي تجيدها - وإن كنت تلحن فيها كثيرا كما لاحظ عليك الجميع في إدارتك للجلسات -، وهذه فروق بين رجال تبني وهويمل يهدم. هل يقرأ الرجل مثلما يقرأ سائر البشر؟ أي هل يفتح كلتا عينيه ويفتح عقله أمام المقروء؟". ومن مقالة الهويمل في الصحيفة نفسها "حاذقون في تشكيل الساحة الملائمة لهم وحاذقون في جر قدم الخصوم...، القمامات الفنية البنيوية، يكون في بعض مواقفه مستخذيا مستكينا يتسلل لواذا ويتوارى من القوم بدافع من سوء فعلته ويتمترس وراء مخدوعيه يدافع عن نفسه بأقلامهم... استفزز عصابتك، وهات ما عندك فأنا لست بحاجة إلى إنسانيتك وعطفك ورأفتك...". وفي المبحث الثاني من الدراسة يستشف الشمري موقف عدد من اساتذة النقد الأدبي في جامعة الملك سعود حول المعارك الأدبية وأسبابها عموما خصوصا هذه المعركة بين الغذامي والهويمل وموقف الصحافة منها. إذ تزخر ذاكرة الوسط الثقافي في السعودية بعدد من المعارك الأدبية ، ومنها الخلاف حول حركة الجيم في جدةالمدينة، هل هي جُدة أم جَدة، أم جِدة؟ حيث نشبت أطرف وأشهر معركة أدبية بين الشيخ حمد الجاسر الذي كان يرى فتح الجيم أو كسرها، والشيخ عبدالقدوس الأنصاري الذي ألف كتاب "الأجوبة المعدة في وجوب ضم جيم جدة" الدكتور صالح الغامدي قال إن المناظرات والمعارك الأدبية برغم بعض تجاوزاتها "أدت دورا رئيسيا وبالغ الأثر في إذ كاء جذوة الأدب والفكر في مجتمعنا السعودي" مرجعا إياها إلى سببين متلازمين في الغالب: موضوعي يتمثل في نشدان الحقيقة وآخر شخصي يتجلي في حب الشهرة. أما الصحف فتتحمل جزءا من المسؤولية بافتعالها بعض المعارك بين الأدباء بقصد الكسب المادي، وانحيازها إلى طرف دون آخر. بينما الدكتور سعد البازعي يرى إنها - التجاوزات في المناظرات - ظاهرة موجودة في كل المجتمعات، ولكن لايعني هذا قبولها. ومن جهة أخرى يلاحظ البازعي أن الإسفاف في الحوار ليس مرتبطا بالانحدار الأخلاقي والثقافي والاجتماعي للشخص، بل إن بعض من يسفون "من أكثر المثقفين علما وأدبا في الحالات العادية، أناس طيبون ينقلبون في لحظة إلى وحوش متدنية التعامل وضيعة اللغة... ولعل تفسيرا أكثر منطقية يكمن في الوضع العام للمجتمع، حيث تعمل الذات الجمعية واللاشعور في تحريك كوامن لاتخصنا كأشخاص بقدر ماهي أرث نشترك فيه مع الآخرين" ويأسف البازعي على وضع الصحافيين المتدني في الملاحق الأدبية حيث يعتبرون افتعال المعارك والخصومات الأدبية محركا للساحة الأدبية وهذا سبب من أسباب التخلف. في المبحث الثالث تتوصل الدراسة التي أجريت على 588 موضوعا أدبيا من المواد المنشورة في فترة العشر سنوات في الملحقين ، إلى أن أكثر من 50 في المئة من المقالات المنشورة عبارة عن تحليلات ودراسات نقدية للكتب الأدبية بينما بلغت نسبة الردود النقدية على المقالات 33.8 في المئة مع التنبيه إلى أن الكتب التي عرضت مضامينها دون تقييم استبعدت من الدراسة. أما التدفق المعلوماتي فكان شاملا حيث بلغت نسبة مقالات الأدب واللغة 19.7 في المئة، والشعر التقليدي 14.8، والشعر الحديث 14.6، القصة قصيرة 26.9، والرواية 11.9، والمدارس النقدية 5.6، والحداثة 4.8، والمسرحيات 1.7. كما تبين أن نسبة 63 في المئة من أصحاب الأعمال المقّيمة سعوديون، و34 عرب، و2.2 أجانب. وأما نسبة المقالات التي ظهر فيها الاهتمام بشخص الكاتب والنص معا فبلغت 54 في المئة، والاهتمام بالنص 44، والاهتمام بشخص الكاتب 1.9.. وفي ما يتعلق بموقف الناقد من النص تبين أن نسبة 41.3 في المئة من المقالات كانت المواقف فيها إيجابية، و40.5 محايدة، و2.16 سلبية، و1.5 إيجابية جدا ومثلها سلبية جدا. وأما موقف الناقد من صاحب النص فتبين أن نسبة 63.6 في المئة كانت محايدة، و25.9 إيجابية، 8.7 سلبية، و1.2 إيجابية جدا، و.6 سلبية جدا. ومن ناحية اهتمام الصحيفة بالعنوان توصلت الدراسة إلى أن نسبة نسبة 71 في المئة من المقالات كان اهتمام الصحيفة بعناوينها عاديا، ونال المثير 28.2، والمثير جدا3.، وغير المثير .3. أما اهتمام الصحيفة بإبراز الموضوع فنالت نسبة 77.7 في المئة من المقالات اهتماما عاديا، و21.9 اهتماما مثيرا، و2. اهتماما مثيرا جدا، و2. غير مثير. ومن جهة المساحة التي تحتلها المقالة في الصحيفة كشفت الدراسة أن نسبة 38.1 من عدد المقالات نشرت على نصف صفحة، و36.4 على ربع صفحة، و11.7 على ثلاثة أرباع الصفحة، و7.1 على صفحة كاملة، و6.6 على عمودين. ويخرج الباحث بعد هذه النتائج بعدد من التوصيات أهمها أن المعارك الأدبية في الصحافة السعودية مثلها مثل المعارك التي كانت سائدة في أوائل القرن في مصر وغيرها من البلاد العربية ليست سوى انعكاس للصراع الأيديولوجي بين دعاة الأدب الإسلامي وبين دعاة الحداثة، ولكن العامل السياسي كما يرى الباحث كان الحاسم في تحقيق التوازن بينهما بحيث لا يكسب طرف الطرف الآخر. وهو مايعني أن الصحافة الأدبية في السعودية حافظت على خصائص الثقافة العربية الأصيلة وفي الوقت نفسه فتحت الأبواب على مصراعيها للمدارس النقدية الحديثة. كما يشير الباحث إلى أن الشللية التي كانت تسيطر على الملاحق الأدبية عامل قد يسهم في اكتساح فئة للأخرى، كما أن الشللية ساهمت في تكريس ظاهرة كيل المديح والثناء لمن ينتمي إليها بغض النظر عن جودة عمله. وترى الدراسة أن الملاحق الأدبية لم تضف على المقالات التقويمية لنتاجات الآخرين صفة إثارة القضايا والتركيز على المعارك الأدبية، بل كان هدفها النشر والتشجيع ولكن بشيء من المجاملة. ويوصي الباحث في ضوء النتائج السابقة بدراسة للفترة اللاحقة لفترة الدراسة، وذلك للوقوف على ما آلت إليه الحال في العشرة أعوام الأخيرة: أي هل سنفقد المعارك الأدبية في الصحف والملاحق الأدبية؟ ومن الطرف الذي كسب في معركة الحداثة والتقليد؟ وهل تغير موقف الصحف من قضايا الإثارة؟ وهل اخترقت دائرة الشللية المسيطرة على الملاحق؟ ثم ماذا يكمن وراء توحيد الاتجاه في الملحق الأدبي؟ ثم يخصص الباحث ثلثي الدراسة التي تقع في 180 صفحة للمبحث الرابع ، وفيه يسرد المقالات والردود التي نشرت في الملحقين عام 1408ه أثناء: "معركة البنيوية" تلك التي يعتبرها الباحث نموذجا للمعركة الأدبية والتي أهدى لفارسيها الدراسة "أهدي هذه الدراسة إلى من قدموا أقوى معركة فكرية أدبية خلال فترة هذه الدراسة: الأستاذ المفكر الراحل أحمد الشيباني. الدكتور عبدالله محمد الغذامي". وفي تلك المعركة اشترك الشاعر سعيد مصلح السريحي وأحمد الشامي، بعد أن أشعل نارها كتاب الغذامي "الخطييئة والتكفير" الذي صدر عام 1985، لتدخل الحركة الأدبية في السعودية مرحلة جديدة من اللغة النقدية لم تكن معروفة من قبل.