يعتمد الاقتصاد العراقي على ريع النفط، وكلما زاد هذا الريع تقل القطاعات الانتاجية الوطنية ويزيد الاعتماد على هذه المادة. وبعد تسلم حزب البعث السلطة في العراق عام 1968، اصبحت الظاهرة الابرز في الاقتصاد العراقي هي سيطرة الدولة على المرافق الاقتصادية تحت عنوان الاشتراكية، ما ادى الى محدودية التنوع في الاقتصاد. والى جانب هذه الظاهرة الاساسية، هناك ظاهرة اخرى تتجلى في عسكرة الاقتصاد التي بدأت في شكل ضخم جدا بعد زيادة عائدات النفط في 1975 - 1976 وتفاقمت خلال الحرب العراقية - الايرانية واصبحت تبتلع الجزء الاعظم من الواردات. وبلغت مداخيل العراق منذ استلام البعث الحكم وحتى حرب الخليج نحو 200 بليون دولار، وسجل فائضا قبل الحرب بلغ 35 بليون دولار. لكن الحرب انتهت بديون قدرها العراق رسميا بپ47 بليون دولار وبفائدة سنوية تبلغ ثمانية في المئة، وهي تساوي اليوم 90 بليون دولار. وذهب الجزء الاكبر من هذه الاموال، حسب التأكيدات الرسمية العراقية، الى التسليح، اذ اعترفت الحكومة بأن ثمن الاسلحة المستوردة التي دمرت في الحرب العراقية - الايرانية بلغ 100 بليون دولار. وانقلب الاقتصاد العراقي من اقتصاد ريعي انتاجي الى اقتصاد ريعي عسكري، ما يعني ان عملية افقار مستمرة تجري، ترتب عليها ان دخل الفرد العراقي بعد الحرب، وعلى رغم استمرار عائدات النفط، اصبح بدولارات عام 1980 اي قبل الحرب مع ايران نصف ما كان عليه. اما الضربة القاصمة الاخرى للاقتصاد فهي الحظر النفطي الذي يجعل الاقتصاد العراقي مشلولاً، لأن امكانات الانتاج الذاتية في العراق محدودة، وهي تعتمد على الاستيراد من الخارج. فالصناعة المحلية معتمدة على استيراد المواد الاولية والمكائن شبه المصنعة وبراءات الاختراع... الخ. كما تعتمد الزراعة على استيراد المواد الكيماوية والمكائن الزراعية وغيرها، وكل ذلك كان يمول بأموال النفط، وعندما انقطعت اموال النفط انهار الاقتصاد. ويبلغ دخل الفرد العراقي اليوم عشر ما كان عليه عام 1980 ويبلغ 400 دولار في مقابل 4000 دولار قبل الحرب مع ايران، كما ان النظام، وبدل ان يوظف المبالغ التي يجنيها من تهريب المواد او تجارة الحدود في قضايا تنموية او اقتصادية، فانه يوظفها في قضايا امنية. واضافة الى ذلك، برزت ظاهرة اخرى هي نشوء طبقة جديدة مرتبطة بالسلطة السياسية بدأت تجمع ثروات طائلة من خلال التهريب والتعامل بالعملة الاجنبية. انهيار النظام النقدي ويعاني الاقتصاد العراقي من ظاهرة تدهور قيمة العملة، اذ يساوي الدولار الاميركي 1700 - 1800 دينار، في مقابل 3.2 دولار للدينار قبل الحرب مع ايران. وهذه المشكلة ليست ناجمة عن المقاطعة الاقتصادية وحدها، ولكنها جاءت ايضا من عدم وجود قواعد وضوابط لتنظيم تداول العملة واصدارها. فالعراق بلد فيه تراث وقواعد وقوانين في مسائل التنظيم الاقتصادي، وحسب قانون المصرف المركزي لا يجوز طبع دينار واحد من دون ان تكون 700 فلس من هذا الدينار موجودة بعملة اجنبية او ذهب الدينار يساوي 1000 فلس. كما ان وزير المال ومحافظ المصرف المركزي مسؤولان بموجب القانون عن كل دينار او عملة صعبة تخرج من الخزينة. اما الان، فقد اصبحت المضاربات بالعملة امرا عاديا، ولم يعد اصدار العملة من مسؤولية المصرف المركزي كما لم يعد الصرف من الموازنة من مسؤولية وزارة المال. لهذا السبب تُسجل ظاهرة غريبة وهي انه في الوقت الذي يصرف الدولار في بغداد بما بين 1500 و1700 دينار، فانه يصرف في منطقة كردستان العراق بپ20 - 25 دينارا، وسبب ذلك انه لا توجد مضاربات مثل تلك الموجودة في بغداد، حيث يسيطر افراد العائلة الحاكمة على المضاربات. كذلك يعاني الاقتصاد العراقي من ظاهرة انسحاق الطبقة الوسطى التي كانت المرجع الحقيقي للتراكم، لذلك انتهت العملية الانتاجية والاقتصاد العراقي اليوم الى حالة شلل، اضافة الى مسألة الديون التي تشكل عبئاً ثقيلاً وهاجساً للمستقبل، اذ ان العراق مدين بما لا يقل عن 80 الى 90 بليون دولار عدا مديونيته لدول الخليج. اصلاح المنشآت النفطية ويعاني الاقتصاد العراقي من تدمير البنية التحتية، التي يتم اصلاح بعض اجزائها باستخدام اجزاء اخرى، اي ان المهندسين العراقيين يصلحون محطات توليد الكهرباء، مثلاً، باستخدام ادوات احتياطية من مشاريع اخرى، وهذا ما حدث لمصفى الدورة الذي اعيد اصلاحه باستخدام اجزاء احتياطية من مصانع اخرى. وتقدر القيمة الاستبدالية الحقيقية بما لا يقل عن 200 بليون دولار، وبالتالي فان كلفة اعادتها من جديد ستكون كبيرة جداً. واذا اخذنا مثلا واحدا تتضح الصورة، فبسبب قصف المنشآت النفطية اثناء الحرب واغلاق الآبار انخفض انتاج العراق من النفط من 3.5 مليون برميل الى 2.4 مليون برميل. ويحتاج العراق حتى يعود الى انتاج معدلات ما قبل الحرب الى ما لا يقل عن خمسة بلايين دولار لاصلاح الابار والمنشآت النفطية. كما ان اصلاح الكهرباء والمواصلات يحتاج الى عشرات الملايين من الدولارات. عبء التعويضات ويعاني الاقتصاد العراقي ايضا من عبء التعويضات. اذ بموجب اتفاق النفط مقابل الغذاء، تذهب 30 في المئة من عائدات النفط المسموح بتصديره الى التعويضات. ومن جهة اخرى، سمحت الاممالمتحدة للعراق تصدير ما قيمته 5.2 بليون دولار كل ستة اشهر من النفط. ولكن بسبب انخفاض اسعار النفط العالمية، لا يستطيع العراق شراء ما يحتاجه كما لا يستطيع ان يصدر ويبيع نفطا بما يعادل هذا المبلغ. ويعني ذلك عملياً ان العائدات العراقية لا تبلغ الخمسة بلايين دولار سنوياً بسبب اشكالات عدة، اولها ان ليست لدى العراق القدرة على زيادة صادراته لتعويض الفارق، لأن صناعة النفط متضررة والاممالمتحدة سمحت له بپ300 مليون دولار فقط لاصلاحها، والثاني ان ما من ادارة صحيحة يمكنها استغلال هذه البلايين الخمسة، لان الحكومة بواسطة البطاقة التموينية وبواسطة السيطرة على السوق وعلى توزيع هذه المواد لم تمكن المواطن العراقي من زيادة قوته الشرائية. وكان من المتوقع ان يتنفس المواطن العراقي قليلاً، ولكن لم يحدث ذلك بسبب سيطرة الحكومة ولأن البطاقة التموينية اصبحت أداة رعب وتحكم بيد الحكومة اذ تقرر لمن تمنحها وممن تسحبها حسب الموقف السياسي للمواطن. من هذه الناحية يبدو الحصار سلاحاً بيد النظام، وهذه واحدة من الاسباب التي تفسر كيف استطاعت الحكومة العراقية على رغم كل هذا الانهيار ان تحافظ على بقائها. * رئيس "المركز الدولي لأبحاث الطاقة" في لندن، نائب الامين العام ل "اوبك" سابقاً.