يقول المثل الشعبي السوداني: "الدنيا دولاب دوار، يوم في العالي ويوم في الواطي". وقد اثبتت الأيام مدى صحة هذه الكلمات. ولعل انصع دليل على صدقها الطريقة التي مالت بها كفة الجنوبيين في التنافس الشمالي/ الجنوبي على عقل وقلب وجيب اميركا. كان التعليم نادراً في جنوب السودان في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن الميلادي، وتفشى الجهل والتخلف لدرجة ان البريطانيين الشريك الأكبر في الحكم الثنائي لجأوا الى اقامة "حاجز واقٍ" هو قانون المناطق المغلقة لعام 1922 لحماية الجنوبيين المستضعفين من تأثير وتغول الشماليين الأكثر تقدماً واستنارة. وعندما غيرت بريطانيا توجهاتها عام 1947 وآثرت ان تهيئ جزئي البلاد للاستمرار كوحدة واحدة في دولة واحدة بدلاً عن افكار فصل الجنوب وضمه للأقاليم الافريقية المتاخمة كان الجنوب يقوده زعماء القبائل اشباه الأميين بينما كانت قيادات الشمال متميزة يتصدرها قضاة وأساتذة كليات ومحامون واداريون على قدر كبير من الكفاءة، درسوا في السودان او تخرجوا في بيروت او القاهرة. أرسل الشماليون الوفود الى مصر والى بريطانيا والى هيئة الأممالمتحدة في نيويورك وبلغ من استهانتهم بالجنوبيين أن عقدوا "اتفاقية الأحزاب" وكانت من اهم خطى تقرير المصير ووقعوا عليها في الخرطوم عام 1953 مع الصاغ صلاح سالم ممثلاً للحكومة المصرية من دون ان يستشيروا الجنوبيين او يشركوهم في المفاوضات او يدعوهم لحضور التوقيع من باب العلم بالشيء! فالجنوب كان اشبه بحقيبة يرفعها الشماليون ويحطونها حيثما يشاؤون. ثم دارت دورة الدولاب الدوار. تضاءل تدريجاً دور وموقع المثقفين في قمة الاحزاب الشمالية الكبرى، وهجرها كثيرون الى تنظيمات التطرف الديني او اليساري في الوقت الذي ازداد فيه التعليم لدى الجنوبيين حتى ان القيادات القبلية "المسكينة" تلاشت من الساحة وحلت محلها قيادات تجمع بين التعليم والجذور القبلية المتينة: مثلاً، الدكتور جون قرنق، على رغم انه ليس ابن شيخ قبيلة الا انه ينتمي الى الدينكا، اكبر قبائل الجنوب، وهي ذات تقاليد عسكرية قوية، الدكتور فرانسيس دينق: وزير الدولة والسفير سابقاً في عهد نميري وهو ابن ناظر قبيلة من الدينكا المتاخمين للشمال، الدكتور رياك مشار المحاضر السابق في كلية الهندسة جامعة الخرطوم وهو ابن احد زعماء قبيلة النوير ثاني اكبر قبائل الجنوب/ الدكتور لام اكول المحاضر السابق في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم وهو ابن احد زعماء قبيلة الشلك الكبرى على النيل الابيض. ولجأ هؤلاء الى استراتيجية لخصها الوزير السابق بونا ملوال وهو اكثر اعداء الثقافة العربية الاسلامية في السودان صراحة بقوله: "لقد تعلمنا من اليهود والفلسطينيين". ويقصد بذلك محاولة التأثير على السياسة المحلية عن طريق المفتاح الاميركي. بكلمات اخرى: السعي لتوظيف السياسة الاميركية لتنفيذ المصالح الجنوبية على طريقه "الذيل يحرك رأس الهر" التي أفلحت فيها الحركة الصهيونية. وهذا طموح جامح لأن الحركة الصهيونية لديها عضلات اقتصادية جبارة تجعل السياسيين يتبارون لخطب ودها، ولديها آلة اعلامية وفنية تجعل معظم السياسيين يتفادون إغضابها. وهذه اسلحة لا يملكها السودانيون الجنوبيون. صحيح انهم تغلغلوا في بعض مراكز الأبحاث والجامعات الاميركية التي تؤثر على مواقع صناعة الرأي الرسمي في اميركا، اما الادعاء بأنهم سوف يحددون السياسة الاميركية تجاه السودان بالقدر الذي يؤثر به اللوبي الصهيوني في المواقف الاميركية تجاه الصراع العربي - الصهيوني فانه يمثل حلماً لا علاقة له بالواقع، بالذات في مواجهة أذكى مناورات الحكومة السودانية التي تنفذ تعليمات صندوق النقد الدولي. بحذافيرها على رغم كل السباب الذي تكيله علناً للغرب وهيمنته. بيد ان الجنوبيين بذلوا محاولات جادة وأحرزوا نجاحاً ملموساً يمكن ايجازه في التالي: اولاً: استخدموا عن طريق مؤيديهم الترغيب لإجبار بعض المثقفين الشماليين المقيمين في الولايات الماتحدة على التبرؤ من الوشائج العربية. الخطوة التالية ان يقول الشمالي: لا شأن لنا بالصراع الفلسطيني أو مصير القدس. ثانياً: ساهموا عام 1992 في تأسيس "لجنة الشرق الأوسط المسيحية" بالتعاون مع: هيئة الاقباط الاميركيين/ المنظمة اللبنانية الدولية/ المؤتمر الوطني الأشوري. وأفلحوا في دفع منظمة التضامن المسيحي ومقرها جنيف الى التحرك النشط وارسال الوفود الى داخل جنوب السودان. ثالثاً: وصلوا الى الكونغرس عبر جماعات الضغط الانجيلية، وبفضل "التحالف للدفاع عن حقوق الانسان في الدول الاسلامية" الذي يضم اكثر من ستين منظمة أفلحت في تقديم عشرات نعم، عشرات التشريعات المتعلقة بجنوب السودان. رابعاً: كثفوا نشر انصاف الحقائق والمعلومات المحرَّفة عن السودان. وأفضل مثل لذلك ان البروفسور العربي/ الاميركي وليد فارس استشهد في بحث اكاديمي نشره في دورية "ميدل ايست كورترلي" المحكمة عدد اذار/ مارس 1998 بكلمات السوداني الجنوبي اوغسطين لادو التي وردت في بحث قدمه في جامعة كولومبيا في نيويورك وقال فيه: "تقوم الميليشيات المسلحة ومعظمها من ميليشيات الجبهة الاسلامية القومية بغارات على القرى فتقتل الشيوخ وكل من يحاول حماية المساكن، ثم تجمع الباقين أساساً النساء والأطفال وتقودهم الى "قطارات رقيق" تنقلهم الى شمال السودان حيث يباعون للنخاسين الذين يبيعونهم للعمل في المزارع او للخدمة في المنازل. ويصدر بعض الأرقاء الى بلدان الشرق الأوسط الاخرى بما في ذلك السعودية وليبيا وربما الامارات العربية المتحدة". لو ان مثل هذا الافتراء المحض نُشر في صحيفة شعبية رخيصة لوجدنا بعض العذر للناشر. اما ان نطالعه في دورية جامعية كبرى فإن ذلك يدل على مدى نجاح حملة الانتحال والتزوير العلني للحقائق! انتقد الكثيرون ومنهم كاتب هذه الكلمات سياسات التطرف الديني الحاكم في السودان. انتقدنا تقويض الديموقراطية ومحاربة الآداب والفنون وانتهاك حقوق الانسان وممارسة التعذيب واحتضان الارهاب واستعداء الجيران والدول العظمى. لكننا نعلم علم اليقين ان السودان ليست فيه "قطارات رقيق" تحمل الجنوبيين الى الدول العربية المجاورة. ومن المحقق حسبما تثبت تقارير منظمات حقوق الانسان المحايدة ان انتهاكات الحقوق حدثت من جانبي النزاع المسلح في السودان. فأيدي الحركة الشعبية لتحرير السودان ملطخة بالدماء، وبعض مقاتليها دُربوا في كوبا ورجعوا لينشروا الخراب في الريف. المحزن بحق هو ان يجهل الكثيرون في الولاياتالمتحدة الفرق بين حكومة السودان ذات المواقف السياسية المتشنجة في عدائها للغرب وسعيها للقمع في الجنوب وبين التيارات الشمالية التي تمثل الوجه المشرق المتسامح للثقافة العربية الاسلامية في السودان. واقع الحال ان التطرف الديني الحاكم في السودان يمثل اقلية معزولة ليس لديها تفويض غير السلاح الذي استولت به على السلطة وقهرت به الشماليين المسلمين كما قهرت به غير المسلمين في البلاد. الا ان تشبث المتطرفين بالسلطة يتيح للجنوبيين فرصة ذهبية لنشر الافتراءات التي تجد آذاناً صاغية. وهكذا يبدو وكأن كفة الجنوبيين ستظل راجحة في الولاياتالمتحدة. فقد انقلبت معادلة الأربعينات والخمسينات، ولا عجب، فالدنيا دولاب دوار كما يقول المثل الشعبي "يوم في العالي ويوم في الواطي". * كاتب سوداني.