حظيت قضية "العائدون من ألبانيا" التي ينتظر المتهمون فيها الآن الأحكام التي ستصدرها في حقهم المحكمة العسكرية العليا في غضون أيام باهتمام بالغ في الأوساط السياسية والأمنية والإعلامية، ربما لكونها واحدة من أكبر قضايا العنف منذ قضية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات العام 1981، أو لأنها تضم للمرة الأولى متهمين محسوبين على تنظيم "القاعدة" الذي يقوده اسامة بن لادن، الى جانب زملائهم من اعضاء "جماعة الجهاد" التي يقودها الدكتور أيمن الظواهري. غير أن المؤكد أن الاعترافات التي أدلى بها متهمون في القضية، تسلمتهم مصر خلال الشهور الماضية من دول عدة، كشفت تفاصيل دقيقة ومعلومات خطيرة عن نشاط "الاصوليين المصريين" في دول عدة، وحقائق عن مسيرة الأفغان العرب على الأراضي الباكستانية والأفغانية قبل أن ينطلقوا ويتشتتوا ويتفرقوا على قارات الدنيا. وتنشر "الحياة" بدءاً من اليوم في أربع حلقات روايات أدلى بها أربعة متهمين رئيسيين في القضية، تضع القارئ أمام رؤية شاملة لنشاط "الأصوليين المصريين" في الخارج، وتكشف حقائق عن سنوات السفر والترحال و"الجهاد". لم يكمل خالد السيد ابو الدهب العاشرة من عمره عندما اسقطت اسرائيل العام 1971 طائرة ركاب مدنية كانت في طريقها من ليبيا الى مصر وعلى متنها 156 شخصا بينهم مذيعة التلفزيون سلوى حجازي ووالده قائد الطائرة علي محمد ابو الدهب. ظلت الحادثة في ذاكرة الطفل خالد حتى كبر وربما كانت السبب في ان يغير طريقه من دراسة الطب ليكون مسؤولا عن محطة جماعة "الجهاد" في اميركا ثم ينتهي به المقام في سجن طرة حيث ينتظر الحكم في قضية "العائدون من البانيا". اعتقل ابو الدهب داخل مصر في 27 تشرين الاول اكتوبر الماضي وهو في طريقه الى المطار عائدا الى اميركا بعد زيارة قام بها لأهله في مدينة الاسكندرية. وامام المحققين روى وقائع رحلته مع جماعة "الجهاد": "تعرفت على علي ابو السعود في منطقة ابو قير في الاسكندرية العام 1984. كنت وقتها طالبا في كلية الطب وشعرت بعدم رضائه عن نظام الحكم في مصر وحين اعلنت نقابة الاطباء عن تنظيم رحلات للراغبين في السفر الى افغانستان فاتحته في الامر لكنه اقترح عليّ التمهل في الامر. وفي العام التالي سافر ابو السعود الى اميركا وظل على اتصال مستمر بي وطلبت منه ان يرسل لي كتباً ومجلات عن دراسة الطيران فاستجاب للطلب. وعلمت ان كلفة تعلم الطيران في اميركا بسيطة ولا تتجاوز ثلاثة الاف دولار فقررت السفر الى هناك. وحصلت على تذكرة طائرة مجانية من شركة مصر للطيران لان والدي مات شهيدا اثناء عمله في الشركة. وفي مطار هوزيه في ولاية كاليفورنيا وجدت ابو السعود وزوجته الاميركية ليندا في انتظاري. واصطحباني الى شقتهما التي أقمت فيها ثلاثة اسابيع. وبعدها تعرفت على تريسا زوجتي الاولى وهي اميركية من اصل بولندي وتزوجتها. وأقمت في شقتها غير ان خلافات دبت بيننا بعد شهر حين حملت من دون علمي فانفصلنا". وكأي مصري مغترب غيّر ابو الدهب عمله اكثر من مرة فهو عمل اولا في مطعم ثم تركه بعد اسبوعين. وفكر في العودة الى مصر لشعوره بالاهانة لكن القدر جعله يعمل في شركة للكومبيوتر فشعر بالاستقرار. ومهد عمله له الطريق لفتح قنوات مع الاسلاميين العرب الذين سبقوه الى هناك. "بدأت في التردد على مسجد النور في منطقة سانتا كلارا القريبة من سان فرانسيسكوا وتعرفت هناك على مسلمين من جنسيات مختلفة". وازدادت المشاكل مع زوجته الاولى بعد ان انجبت ابنه آدم بسبب الخلاف على حضانته. وعن وقائع رحلته الى افغانستان قال: "في مطلع 1990 ابلغني ابو السعود انه على علاقة بالمصريين الموجودين في افغانستان فطلبت منه التوجه الى هناك لمساعدة المجاهدين إلا انه اشترط عليّ ان اتعلم الطيران الشراعي قبل الذهاب الى هناك حتى اساعد المجاهدين بشيء يفيدهم. وبالفعل تعلمت الطيران لمدة شهرين في احد المعاهد الخاصة. واثناءها سبقني ابو السعود الى افغانستان ولحقت به واصطحبت معي نموذجا لطائرة شراعية عبارة عن جناحين بعرض 14 الى 16 متراً وطول مترين. وحتى يتمكن مستخدمها من الطيران بها لابد ان يقفز من مكان عال مع ضرورة وجود تيارات هوائية صاعدة ومستمرة ويمكن لمستخدم النموذج التحكم في الاتجاهات يمينا ويسارا عن طريق مثلث موجود تحت الجناحين فاذا وجه المثلث جهة اليمين يتجه مستخدم الطائرة الى اليسار والعكس صحيح". وسرد ابو الدهب تفاصيل الرحلة واسماء الاشخاص الذين التقاهم في باكستان ثم افغانستان والاماكن التي تنقل بينها لاختيارالانسب منها لتدريب عناصر "الجهاد" على استخدام النموذج الشراعي. واضاف: "اخترنا منطقة جبلية على هيئة حدوة الحصان داخل افغانستان وطلب مني القيادي عبدالعزيز موسى الجمل تدريب ثلاثة من عناصر التنظيم على الطيران، واسماؤهم الحركية هي اشرف وايمن وابو الفضل وحاولت في البداية ان اطير بالنموذج من ارتفاع 40 متراً لكني سقطت لتغير التيارات الهوائية وكانت الارض غير مستوية أو صالحة للهبوط. فقمت بتدريب الثلاثة لمدة ثلاثة أسابيع على الطيران من ارتفاع عشرة امتار حتى لا يصابوا اذا سقطوا، ولكن في المرة الاخيرة حاول اشرف الطيران من ارتفاع 30 مترا لكنه لم يتحكم في النموذج واصطدم احد الجناحين بالجبل وكسر وسقط ولم يعد النموذج صالحا للاستخدام". وعاد أبو الدهب إلى أميركا بعد أن كلف من قادة التنظيم بتلقي وتحويل المكالمات منهم الى العناصر الموجودة في مصر ودول أخرى استغلالاً لتلك الخدمة الموجودة في نظام الهواتف في أميركا وتغلباً على قيام مصر بوضع ضوابط على الاتصالات مع الدول التي يرجح وجود قادة التنظيمات فيها. وبرر قيامه بذلك الدور قائلاً: "كنت أعتقد أن أعضاء الجهاد ممن عاشوا لفترة في باكستانوافغانستان غير قادرين على العودة الى مصر فكانت هذه الاتصالات للتسهيل عليهم كي يجدوا مكاناً آمناً للعيش فيه، وحيث إن ذلك كان من الممكن أن يحدث لي إذا كنت سافرت الى هناك العام 1985 فوجدت أن من واجبي أن أساعدهم بأي وسيلة ليتمكنوا من العيش في مكان أمين". وتابع: "تطورت مساعدتي للتنظيم من مساعدات هاتفية الى مساعدات مالية اذ كنت أجمع التبرعات والزكاة وارسلها الى الجهة التي يحددها قادة التنظيم، وأنا حولت مبالغ من اميركا قدرها نحو عشرة آلاف دولار الى اليمن وباكستان والى مصر والأردن والسودان على أرقام حسابات موجودة في تلك الدول، وأما بالنسبة لنقل جوازات السفر والأوراق فكانت ترسل لي عن طريق التنظيم من باكستان واليمن والسودان بالبريد السريع ثم أقوم بارسالها مرة أخرى للأفراد المطلوب تسليمهم إياها". بعد أن انتهى المحققون من سماع أقوال أبو الدهب سألوه السؤال التقليدي الأخير: هل لديك أقوال أخرى؟ وكانت إجابته: "أريد أن أوضح أن "جماعة الجهاد" وثقت بي بناء على ثقة أبو السعود فيّ. وحتى العام 1995 لم أكن أعلم أن تلك الجماعة قامت بأعمال إرهابية داخل مصر، وأنا انقطعت عنه منذ ذلك التاريخ. وأنا مواطن صالح ومن أسرة طيبة، وأمي هي الأم المثالية لمصر لعام 1990 وأبي شهيد، ولحسن نيتي ترددت على مصر أعوام 95 و96 و1997 بجواز سفري المصري وكنت أخطط للإقامة الدائمة في بلدي، وعدم درايتي بالقانون هو الذي جعلني أقوم بما قمت به".