لا شك في أن انضمام محطات فضائية عربية تتمتع بقدر من الاستقلالية الى منظومة الأقمار العربية يمثل قفزة نوعية ويرسم نقطة تحول جوهرية اشراقية في مسيرة الاعلام العربي. ففيما تحبو العديد من المحطات الرسمية في عصر ما قبل التلفاز الملون فتبث اعلامها المرسوم ضمن لونين، أسود التنديد وأبيض الاشادة تجرأت شبه المستقلة منها على اقتحام عصر الاعلام الملون بأطياف عصرية. وفي غياب اعلام مقروء عانى ولا يزال من مقص رقيب يقطع الأوراق وحسيب يمنع الأرزاق ويقزم هامش الحرية، استفردت تلك المحطات بميدان الاعلام الجماهيري المهموم باحباطاته وانتكاساته. العجز الفاضح للسياسات العربية في أن تلبي الحد الأدنى من طموحات شعوبها في إعادة اللحمة الى جسد الأمة العربية المثخن بالجراح والاخفاق الواضح في وقف الغطرسة العدوانية من استمراريتها في محو حروف الكرامة العربية كان من أهم مسببات اللجوء الى الدين كملجأ أخير ومنبع لا ينضب في بعث أمل استعادة بعض من كرامة مهدورة وكبرياء مستباح. فلا عجب أن تركزت البرامج الفضائية على هذين المحورين على رغم تباينها ما بين لونين، صارخ ونفر يتمثل في صراخ عربي هائج وهادئ مثمر ضمن حوار عصري ناضج. هيمنة هذين المحورين واستمرارية الدين والسياسة في الاستحواذ على غالبية اهتمامات برامج الندوات واللقاءات الدورية لم يتح المجال لبحث مشاكل واهتمامات أخرى لا تقل أهمية عنها في الحقول الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. فالأمية الثقافية المستشرية حتى بين شرائح المتعلمين مهدت السبيل لبروز حركات متطرفة شكلت تهديداً على الاستقرار وخطراً على تعايش الطوائف والأديان. والبطالة مشكلة اجتماعية تداهم معظم الشعوب العربية بكل أخطارها وتداعياتها المستقبلية. ولا غرابة في مدى ما استحوذ النفط من اهتمام وما استقطبت الندوات واللقاءات الفضائية الأخيرة من تجاوب جماهيري متلهف على استجلاء أسباب التدهور الحاضر واستشراف ما يلف المستقبل من غموض هاجس مسهر. ذلك لا يعني ان كل الطروحات من خلال تلك البرامج الفضائية يمكن تصنيفها بالايجابية والموضوعية. تلك بعض العثرات التي يمكن القول إن لا بد منها حتى نصل الى احترام عقول المشاهدين وطرح ما يعيد اللحمة لا ما يؤجج الفتنة. فحرية الرأي وشفافية المعلومات هدف عصري حضاري لا يجوز استغلالها بأسلوب ماضوي ينتهج التجريح والتلميح أسلوباً لاستقطاب اعلامي خطابي هادم لا باني في مرحلة أحوج ما تكون الأمة فيها الى إعادة اللحمة والصفاء والوئام وبث روح المحبة والسلام بين شعوب لعبت بها الأهواء وشرذمتها الخلافات السياسية والمذهبية والايديولوجية. الرياض - يوسف بن عبدالرحمن الذكير