1 - الصيغة واحدة في طلب الدين: هذه الصيغة التي نزل بها القرآن الكريم في طلب نظام الحياة أو الدين في لغة الإسلام الذي يصلح للإنسان صيغة واحدة لكل مجتمع ولكل جيل ولكل عصر، قديماً كان أو حديثاً، بدائياً كان أو متقدماً. وتقوم هذه الصيغة أصلاً على أن الإنسان الفرد في كل مجتمع وفي كل جيل وفي كل عصر هو المسؤول مسؤولية فردية وشخصية عن طلب النظام أو الدين المطلوب. هذا الإنسان الفرد كما يُعرّفه القرآن لا يعرف كما هو في حقيقته بأي من الاختلافات الظاهرة بين البشر، ويعرف بما يأتي به في لحظة الولادة بفطرة خاصة بالإنسان ومجموعة من القوى المعرفية والروحية والإرادية سنعود الى تعريف القرآن لما هو الإنسان قريباً. وفي هذه الصيغة جعل القرآن هذا التعريف المرجع في طلب نظام الحياة، أو الدين الذي يصلح للإنسان. فلا يطلب هذا النظام المطلوب من واحد أو أكثر من الاختلافات الظاهرة بين البشر. وبالتالي لا يطلب من عقيدة أو حضارة تقوم على التمييز بين البشر لاختلاف في الجنس الذكورة والأنوثة، أو في العرق أو في اللون أو في اللسان. ولأن النظام المطلوب يطلب بتشغيل قوى الإنسان المعرفية والروحية والإرادية في معرفة حقيقة آيات الله تعالى في حقيقة الإنسان وفي حقيقة الكون وكل شيء فيه، فلا يطلب النظام أو الدين المطلوب من تراث ديني أو حضاري جاهز ومتوارث ومعروف. القرآن الكريم بالتعريف الذي جاء به لما هو الإنسان وبالصيغة التي يتضمنها هذا التعريف في طلب نظام الحياة الذي يصلح للإنسان كان مقصده انتشال الإنسان من فعل تراث الجماعة التي يولد وينشأ فيها ومن فعل كل تراث آخر في تشكيل قواه المعرفية وفي تشكيل قيمه واتجاهاته نحو نفسه ونحو غيره من الناس، وكان مقصده من جهة أخرى التدرج به الى وعيه بأهمية وجود قواه الفطرية في نفسه، والى اكتساب ثقته بها بتشغيلها بما تحب أن تنشغل به فطرياً - أي في معرفة الحقيقة في الإنسان وفي كل شيء طلباً لمعرفة خالق هذه الحقيقة والإيمان به والإسلام له تعالى. أراد أن ينتشله من فعل العقائد والحضارات التي تنكر أن الإنسان واحد في كل إنسان، وتنكر أن هذا الإنسان يملك الرغبة في معرفة هذا الكون ومعرفة خالقه، والقدرة على تجسيد هذه الرغبة بما يأتي به من قوى معرفية وروحية وإرادية بنفسه ولنفسه، وتحرص من جهة أخرى على تثبيت وصايتها عليه بتثبيت سلطان تراثها ومؤسساتها ورجالها في نقل عقائدها وحضارتها اليه، وبحرصها على رصد أفكاره وسلوكه وعلى محاسبته إذا هو خرج عما تريده منه. 2 - ينشأ الإنسان في واقع ديني وحضاري ليس من صنعه هو. ومصيره في هذا الواقع واحد من بديلين. فإما أن يطلب هذا المصير، أو نظام الحياة الذي يظن أنه يصلح له من بين ما في الواقع الذي ينشأ فيه عن عقائد وأفكار وقيم واتجاهات، ويسكت عن سلطان ما في هذا الواقع من تراث ومؤسسات تدعي الأبوة والوصاية عليه، ويرضى لنفسه بذلك. وإما أن يقف خارج هذا الواقع وخارج كل ما هو متوارث فيه من عقائد وحضارة ومؤسسات... فيطلب النظام المطلوب بوعيه بما يأتي به من قوى فطرية في نفسه، وبتشغيل هذه القوى في معرفة استجابة لرغبته الفطرية في معرفة هذا الكون وكل شيء فيه بما فيها الإنسان وفي معرفة من أوجده ومن يدبر أمره. وبكلام آخر، هل يطلب النظام المطلوب الدين من داخل المتوارث في المجتمع وفي العالم، أم من خارجه؟ وما هي آثار الواحد من البديلين في تشكيل قواه الفطرية وتنميتها؟ وأيهما الأحسن له؟ وفي التصدي لهذه القضية في اختيار أحد البديلين، لا فرق في ذلك بين انسان وانسان يعيش في هذا العصر أو في غيره، أو يعيش في مجتمع متقدم أو غيره، القضية واحدة في كل مجتمع وفي كل عصر، والإنسان كما يراه الإسلام مطالب بالفصل فيها بنفسه ولنفسه، وحرية الإنسان الحقيقية هي في تحرره من سلطان البيئة التي ينشأ فيها وبين سلطان وصاية الجماعة عليه، يطلب نظام الحياة أو الدين بمعرفته لآيات الله تعالى في الإنسان وفي الكون وفي كل شيء فيه طلباً لمعرفة الله والإسلام له تعالى. 3 - وينشأ الإنسان كما ينشأ كل إنسان في كل مجتمع على تعظيم ما تعظمه الجماعة أو المجتمع التي ينشأ فيها. اليهودي يعظم ما يعظمه اليهود، والأميركي ما يعظمه الأميركيون، والعربي ما يعظمه العرب... وهكذا، فاليهودي يلتقط في طلبه لنظام الحياة الدين الذي يريده لنفسه من تراث ما يعظمه اليهود ويستبطنه في نفسه، ويظهر في اتجاهاته وقيمه نحو اليهود من جهة ونحو غير اليهود من جهة أخرى. وهكذا يفعل الأميركي والعربي وغيرهما. كان هذا التعظيم لما تعظمه الجماعة من أكبر العقبات في استجابة الناس في مختلف الأقوام الى الرسل الذين أرسلهم الله تعالى الى تلك الأقوام، كان هو ما ثار عليه ابراهيم عليه السلام في تعبّد قومه للشمس وللقمر ولغيرها من القوى الكونية والطبيعية وتعظيمهم لها بأنها آلهة. وفي هذه الحالات التي ذكرها القرآن كان بيان حقيقة ما تعظمه الجماعة هو ما يمكن أن يتحرر به الإنسان من ذلك التراث في التعظيم، ويستوقفنا القرآن في حالة ابراهيم عليه السلام للنظر في "ما هي الإلهية" وفي "من هو الإله"؟ في سورة الأنعام لبيان المنهج في طلب معرفة الحقيقة، ولبيان أهمية معرفة الحقيقة في عمليات تحرر الإنسان مما يعظمه التراث الذي ينشأ فيه. وفي مخاطبة أهل مكة يكرر القرآن ذكر قصص الأولين في سور كثيرة في الأعراف والشعراء وغيرها كأمثلة لتعوّد الناس على تعظيم الآباء وعلى تعظيم الملأ في مجتمعات هؤلاء الأولين، ليبين أن الإنسان في طلب الدين أو نظام الحياة الذي يصلح له، عليه أن يقف وينظر في سلطان هؤلاء الآباء وذلك الملأ عليه التحرر منه في طلب الدين، ولطلبه بنفسه ولنفسه بالمنهج الذي بيّنه له القرآن. ويستخدم القرآن عبارة "الآباء" للدلالة على أن تراث الجماعة التي ينشأ فيها الإنسان تراث حيّ بوجود الآباء وبحرصهم على توريثه لأبنائهم. ويحذر أجيال الأبناء من أن ما يريده لهم آباؤهم قد يكون هو الحجاب الذي يحجبهم عن طلب الوعي بما جعل الله فيهم من قوى فطرية، معرفية وغيرها، ومن تشغيل هذه القوى في طلب معرفة آيات الله تعالى في خلقه طلباً للدين الذي يريده الله للإنسان. ويقول تعالى: "وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أَوَلو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون" البقرة 170، والمائدة 104 وغيرها. 4 - النشأة على تعظيم ما يعظمه الآباء وما يعظمه الملأ السادة والمترفون أصحاب السلطة في المجتمع هي من أكبر العقبات في تحرر الإنسان من سلطان تراث الجماعة عليه. وأكبر مشكلة يمكن أن يواجهها الإنسان في حياته هي في حاجته الى رعاية الآباء والملأ في مراحل طفولته عندما يكون عالة عليهم، وعندما تكون قواه الفطرية لا تزال في مراحل نموها ولم تستقل بعد لإدراك ما يفعله الآباء والمجتمع بها وفي تشكلها. ولذلك كان نضج قوى الإنسان الفطرية بيولوجياً في مرحلة البلوغ هو ما يؤهل الإنسان للاستقلال في النظر في المنهج الذي يمكن أن يتحرر به من فعل ما تركه الآباء والملأ في تشكيل قواه الفطرية، المعرفية والروحية والإرادية، ولذلك جعل الإسلام البلوغ وسلامة قوى الإنسان العقلية الشرط لتكليف الإنسان بطلب الدين الذي يصلح للإنسان. وهذا الدين ليكون هو الدين المطلوب، فلا بد وأن يكون ما يطالب الإنسان به هو ما يضمن للإنسان خير مصير لقواه الفطرية، ويضمن له خير تشغيل لها على مدى حياته، فهذا الإنسان من خلق الله والوحي من عند الله والتوأمة بين حاجات الإنسان وبين ما يطالب به الوحي، هي المحك في صلاحية دين معين للإنسان، والإسلام لله تعالى بالمنهج الذي وضعه القرآن هو ما يصدق عليه هذا الشرط. هذا الدين والمنهج الذي يقوم عليه في طلب الحقيقة هو المرجح للنظر في ما تعوّد الناس في المجتمع على تعظيمه من أفكار وحضارات وأجيال وغيرها. ومن دون هذا المرجع يبقى الإنسان مقلداً لما يسود في المجتمع من المسلمات ومتأثراً بها في تشكيل قيمه واتجاهاته، وتبقى الأمة التي يعيش فيها هذا الإنسان أسيرة لهذه المُسلمات الى أن يتيسر لها معرفتها كما هي في حقيقتها. 5 - ويسود المجتمع العربي في هذا العصر تعظيم الحضارة الغربية وتعظيم أميركا، وتعظيم العروبة وتعظيم الجيل الأول من السلف الصالح، وغير ذلك. ولا يتحرر العرب من هذا التعظيم إلا بمعرفة هذه الأشياء كما هي في حقيقتها. فالحضارة الغربية مثلاً لا تعرف كما هي في حقيقتها بما أنجزته من علوم وتكنولوجيا، بل تعرف بفعل أساطيرها الدينية، وخاصة أسطورة عقدة "الشعب المختار" في تكوين نظرة أهلها الى أنفسهم وفي تكوين اتجاهاتهم نحو الآخرين. كتبوا التاريخ وكأنه من صنعهم، وسكتوا عن فضل غيرهم عليهم في بناء وتطور الحضارة الحديثة، وخصوصاً فضل الإسلام والمسلمين. فالأصول التي انطلقت منها الحضارة الحديثة في تحرير الإنسان من سلطان الجماعة الكنيسة وسلطان الملوك، وفي الاعتراف للإنسان بأنه يملك القدرة على كشف الحقيقة، وفي أن هذه الحقيقة موجودة خارج التراث اليهودي المسيحي في حقيقة الكون وكل شيء فيه، هذه الأصول هي الأصول التي قام عليها طلب الدين في الإسلام. وبفعل ما يتولد من عقدة الشعب المختار "من استعلاء على الغير ومن رفع الإنسانية عنهم رخّص اليهود والغربيون لأنفسهم إبادة الآخرين أو استعبادهم والتحكم بهم. هذا ولقد كشفت قضية فلسطين عن أن هذه العقدة لا تزال قوية فعّالة في سلوك اليهود نحو غير اليهود وفي سلوك الغربيين نحو غير الغربيين، وعن أن اليهود والغربيين لم يعترفوا بعد بأن الإنسان الذي كشف عنه القرآن هو الإنسان في كل إنسان، وما زالوا في أسر عقدة "المختار". والوجه الآخر للتعظيم هو تصغير للنفس مضعضع ثقة الإنسان بقواه المعرفية والإرادية في تغيير أوضاعه، وقد يضعضع ثقة الأمة بخير نظام عرفه الإنسان. فتعظيم العروبة معناه تصغير لنفوس المسلمين وعودة الى أسطورة العرق اليهودية. وتعظيم السلف الأول تصغير للإنسان في كل جيل من بعدهم، وأن الإنسان في جيلنا هذا وفي كل جيل في المستقبل يختلف نوعياً وفي فطرته عن الأنسان في الجيل الأول، والمسلم الذي لا يقدر أهل الجيل الأول حق قدرهم لا يدرك شدة المعاناة التي عاناها الإنسان في ذلك الجيل في التحول من عالم الشرك الذي نشأوا فيه وألفوه الى عالم التوحيد الجديد، وشدة المعاناة في التحول من العصبية القبلية التي كانت تضمن لهم أمنهم وعزتهم الى عالمية الإنسان التي جمعت بينهم في أخوّة جديدة، ولا يدرك أن جهادهم بأنفسهم وبأموالهم هو ما قام عليه وجود هذه الأمة. أما أن يطلب هذا المسلم إسلامه لله تعالى من إسلام الجيل الأول أو من جيل آخر فهو جهل بالإسلام الذي نزل به القرآن والذي بيّنه الرسول ص، وان يظهر ان ما كان في استطاعتهم فوق استطاعته ومتعذر عليه فهو أخطر ما يمكن أن تصاب به الأمة في تصغيرها لنفسها. فحرية الإنسان كما يراها الإسلام هي في وعيه بالفطرة التي فطر عليها، وفي تشغيل قواه الفطرية في معرفة الحقيقة في آيات الله تعالى طلباً لمعرفة الله والإسلام له وحده تعالى، ومن هذا المنظور تحرره من تعظيم ما يعظمه البشر بمعرفته كما هو في حقيقته، وتوجهه الى الله بالمعرفة وبالتعبد له تعالى. 6 - من مظاهر الإعجاز في القرآن والإعجاز الفكري لا يقل أهمية عن الإعجاز البياتي إن لم يكن هو الأهم، تعدد السبل في دعوة الإنسان الى الإسلام لله تعالى، فإن كانت الغاية التدرج بالإنسان الى وعيه بأهمية وجود قواه الفطرية في نفسه والى انشغاله بمعرفة آيات الله في خلق الإنسان وفي خلق كل شيء طلباً لمعرفة خالقها والإيمان به والإسلام له تعالى. فكيف يستنهض هذا الإنسان من غفلته لفعل الواقع الذي ينشأ فيه في تشكيل قواه الفطرية وفي تشكيل قيمه واتجاهاته نحو نفسه ونحو الأشياء ومطالب المعيشة، ونحو جماعته ونحو غيرها...؟ التحولات ضخمة وتشمل كل جانب من جوانب شخصيته، وهو نفسه المطالب بها شخصياً، وكل هذه التحولات المطلوبة موجودة بالقوة في الفطرة التي فطره الله عليها. وهذا التعدد في سبل دعوة الإنسان الى الإسلام لله تعالى في القرآن يدعو الى الدراسة. فهو يكشف عن سبل استنهاض الإنسان للتدرج به الى الغاية التي يرجوها له القرآن، ابتداء بإثارته وإثارة الرغبة فيه في وقفة تساؤل جدي حول أهميته في الخلق وحول أهمية هذه الحياة والغاية منها، ويكشف هذا التعدد عن تدريبه على التقاط منهج متين للنظر في هذه التساؤلات فدعوته الى الفصل بين الشرك والتوحيد هي من وجه آخر تدريب على الفصل بين الحق والباطل وعلى التمييز بينهما بالاحتكام الى معرفة الحقيقة في حقيقة الإنسان وفي حقيقة آيات الله تعالى بالخلق، وبالتوجه في معرفة الحق. ودعوته الى أن الإنسان فيه لا يعرف بالاختلافات الظاهرة والحضارية بين البشرية، ويعرف بما هو بخصائص واحدة في كل إنسان وواحدة في كل جماعة من الجماعات البشرية، ترويض على الثقة بما أنعم الله عليه من قوى معرفية وروحية وإرادية في طلب الدين أو نظام الحياة الذي يقوم على تشغيل هذه القوى في طلب معرفة آيات الله في خلقه، وترويض على تعزيز الشجاعة اللازمة في نفسه في مخالفة تراث الجماعة التي تنشأ فيها، وترويض على استئصال العصبيات القبلية والشعوبية وغيرها من نفسه، وترويض على رؤية عالمية الإنسان في نفسه وفي كل إنسان آخر، وعلى التخلق بقيم هذه العالمية. وفي دعوة القرآن له الى معرفة آيات الله تعالى في الإنسان وفي الكون يريد له القرآن أن يرى أن هذه الآيات نِعم أَنعم الله عليه بها، وأنه تعالى سخّرها له لعلّه بهذه المعرفة يكون من الشاكرين لله تعالى ومتعبداً له حمداً له على هذه النعم. هذا واشتملت هذه السبل المتعددة في دعوة الإنسان الى الإسلام لله تعالى على غير هذه، ذكر منها القرآن قصص الأولين والصعوبات في تجاوز سلطان الآباء وسلطان الملأ في الاستجابة الى دعوة رسل تلك الأقوام الى التوحيد، وذكر نماذج من البشر في تاريخ الإنسان، منهم من استكبر واستعلى ومنهم من اهتدى. وجعل رسل الله الى الناس في مختلف الأقوام ومختلف العصور هم أعلام البشرية في النظر وفي الفكر وفي العمل. وبيّن منهج ابراهيم في إسلامه "لفاطر السموات والأرض"، ولماذا جعله "إماماً للناس". ومن بين ما بيّنه أنه حتى رسول من عند ليس له أن يعلم الغيب في لقاء موسى بالعبد الصالح في سورة الكهف، وبالتالي ليس له أن يحكم إلا على ما يراه أو يدركه في الظاهر، وذكر عيسى عليه السلام لهدم العقيدة العرقية في اليهودية. وأخيراً جعل محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم الرسل والأنبياء لأنه صحح برسالته ما كان قد دخل في رسالات الله الى الناس من أباطيل، واستكمل بها الأصول التي يقوم عليها الدين كله والمنهج الذي يطلب به، فجعل رسالته "... كافة للناس" وجعله الأسوة لكل إنسان في كل جيل وفي كل مكان، من دون أن يجعله "وكيلاً" عن الإنسان أو "حفيظاً" على دينه تأكيداً لتكليف الفرد نفسه بطلب الدين واحتراماً لما في الفرد من قوى فطرية. وكذلك بيّن القرآن للإنسان أن الإسلام لله تعالى غير خاص بالإنسان، بل أن السموات والأرض وكل ما فيها في وجودها وفي سلوكها تسجد لله تعالى وتسبّح بحمده إسلاماً له تعالى، وان الكون كله واحد وتحكمه سنن واحدة. وأن إسلام الإنسان لله تعالى إسلام عن وعي وعن علم وعن إرادة. وأنه "لا إكراه في الدين" لأن الدين الذي يطالب به القرآن هو ما يتواءم في ما يطالب به مع خير نمو لقوى الإنسان الفطرية تواؤماً تاماً. وهذه السبل المتعددة في دعوة الإنسان الى الإسلام لله تعالى وغيرها لم تذكره هنا، لا تختلف في جوهرها من مكان الى مكان أو من جيل الى جيل وان اختلفت في تفاصيل تاريخية. فالتحولات المطلوبة من كل إنسان في كل مكان وزمان ضخمة وفي غاية الصعوبة في تحقيقها، وخصوصاً في المجتمع الحديث الذي يظن أهله بفعل فلسفة ضالة في التاريخ سنعود الى النظر فيها عند النظر في علاقاتنا بالحضارة الغربية أنهم هم الأقرب من عصور سابقة الى معرفة الحق بفضل سُنّّة في التطور الحضاري. 7 - وباختصار، حاولنا أن نبين أن منهج القرآن في دعوة الإنسان الى الإسلام لله تعالى هو خير منهج يمكن أن يرعاه في طلب نظام الحياة أي الدين ويضمن له حسن المصير لقواه المعرفية والروحية والإرادية، ويضمن له بالتالي التحرر من كل سلطان ما عدا سلطان الحق عليه. هذا المنهج هو منهج المناهج كلها، الفلسفية والفكرية والعلمية في طلب الحق ومعرفة الحقيقة، وهو أيضاً منهج المناهج كلها في طلب القيم الإنسانية الأخلاقية والاجتماعية والجمالية، وهو منهج المناهج كلها في دراسة الواقع وفي تغييره وتطويره، وفي دراسة مختلف الأديان والحضارات والحكم عليها من منظور حاجات الإنسان الفطرية في النمو السليم، وهو أيضاً المرجع لبناء النظم التربوية والسياسية والاقتصادية التي تضمن للإنسان في المجتمع خير نمو لقواه المعرفية والروحية والإرادية، وتضمن له المشاركة في بناء وفي تطور نظام اجتماعي يقوم على أساس أن الإنسان واحد في كل إنسان. 8 - جعل الإسلام الإنسان الفرد موضوع التحولات اللازمة لطلب نظام الحياة أي الدين الذي يصلح للمجتمع وللبشر أيضاً، ليصير هذا الفرد الوحدة الأساسية في بناء مجتمع غايته نمو ما جعل الله في الإنسان من قوى فطرية نمواً سليماً ومتكاملاً والى أقصى ما فيها من طاقات. ووجود أمة المسلمين، بخلاف وجود الجماعات الدينية والحضارية الأخرى، هو حصيلة إسلام الأفراد لله تعالى. الفرد هو الذي يتوصل الى "أشهد" في قول: "أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"، صيغت هذه الشهادة بصيغة المتكلم المفرد للدلالة على أن طلب الإسلام لله عمل فردي وشخصي ويقوم به الفرد بنفسه ولنفسه، ويلتقي مع من أسلم لله مثله في أمة جديدة ليس لها مثيل بين الأمم، خالية من كل العصبيات الموجودة في غيرها من الجماعات البشرية والأمم، ويدخلها الإنسان بنفسه ولنفسه عند شهادته الفردية الشخصية في قوله "أشهد...". وفي المقابل، لا يتم لليهودي الإيمان بالله في العقيدة اليهودية إلا بالوجود السابق لشعب اليهود وبالشروط التي تشترطها أمة اليهود، وكذلك لا يتم للمسيحي إلا بالوجود السابق لشعب الكنيسة وبالشروط التي تشترطها الكنيسة. وبقاء اليهودي في اليهودية والمسيحي في المسيحية مرهون بطاعته للمؤسسة الدينية في كل منهما. فلا اليهودي ولا المسيحي يتوصل الى الإيمان بالله بنفسه ولنفسه، فلا يطالب كما يطالب الإنسان الذي يتم له إسلامه لله تعالى بتشغيل قواه المعرفية في طلب العلم الذي يكشف له عن حقيقة آيات الله تعالى في الإنسان وفي الكون. بل يُطالب في كل من العقيدتين بالإيمان بما تنكره قواه المعرفية. وسنرى أن هذه الفروق في طلب الإيمان بالله بين الإسلام من جهة واليهودية والمسيحية من جهة أخرى عند النظر في علاقاتنا بالحضارة الغربية قد تولد منها فروق كبيرة في ما هو الدين، وما هو الإنسان وما هو العلم؟ وفروق كبيرة في القيم الإنسانية التي تتولد من هذه الفروق، فسنرى مثلاً أن الأصل الأم في طلب حقوق الإنسان هو في الاعتراف له كما اعترف له الإسلام بأنه يملك القدرات الشخصية لمعرفة الحقيقة ولمعرفة الله تعالى بهذه المعرفة، وأن الأبوية التي تقوم عليها اليهودية والمسيحية تحقير للإنسان ولقواه المعرفية. وسنرى كذلك أن مبدأ الإسلام في أن الإنسان واحد في كل إنسان هو الأصل الأم في استئصال العصبيات بين الناس في مختلف الجماعات البشرية، وأن عقدة "الشعب المختار" في التراث اليهودي والمسيحي هي المسؤولة عن العنصرية التي تميز بين اليهود وغير اليهود، وتميز في الغرب بين الغربي وغير الغربي. وأن اليهودي كاذب والأميركي كاذب عندما يدعي أنه نصير الديموقراطية ونصير حقوق الإنسان.