لماذا لا يطلب دين الانسان من دين الجماعة التي يولد وينشأ فيها الانسان ولا من تراثها الفكري والحضاري؟ ولا يطلب من أي دين آخر؟ ولا من اي تراث فكري او حضاري معروف؟ ولا حتى من تراث امة المسلمين؟ ولماذا يجب ان يطلب دين الانسان من خارج ذلك كله؟ من خارج دين تلك الجماعة؟ ومن خارج تراثها؟ ومن خارج دين كل جماعة اخرى؟ ومن خارج كل تراث فكري وحضاري معروف؟ هذه هي القضية الكبرى التي قذف بها القرآن الكريم في بيان المرجع الذي يطلب منه دين الانسان، وفي بيان ما هو الدين. هل دين الانسان في دين الجماعة او الجماعات المتوارث؟ وهل هو في تراث فكري او حضاري معروف؟ أم انه مطلب للانسان الفرد؟ ومن اين يطلبه؟ وكيف يطلبه؟ هل الدين نظام جاهز ومعروف تتوارثه الجماعة او الجماعات جيلا عن جيل؟ أم انه مطلب يتجدد بمجيء كل انسان فرد الى هذه الحياة؟ ومن اين يأخذه الانسان الفرد؟ هل يأخذه من ابويه ومن الجماعة التي يولد وينشأ فيها؟ من مؤسساتها ومن آداب هذه المؤسسات ورجالها المكلفين بنقله والمحافظة عليه او بتطويره؟ وهل يأخذه من التراث البشري الديني والفكري والحضاري؟ ام عليه ان يطلبه من مرجع آخر غير هذه المراجع كلها؟ وما هو هذا المرجع؟ وكيف يوظفه في طلب الدين المطلوب؟ هذه الاسئلة وامثالها تمثل القضية الكبرى التي قذف بها القرآن في مسيرة الفكر، الديني وغيره، وفي مسيرة الحضارة البشرية في بيان طلب الدين، وفي بيان "ما هو الدين؟". وغيّر بها ما هو الدين في حياة الانسان؟ وما هي مقاصده ووظائفه في هذه الحياة؟ وفي حياة مجتمع هذا الانسان؟ كما غيّر بها مواقف هذا الانسان من كل ما هو متوارث في تراث الجماعة التي يولد وينشأ فيها، وفي تراث الحضارة البشرية ان كان دينياً او فكرياً او أخلاقياً او اجتماعياً، او كان تربوياً او سياسياً او اقتصادياً او غيره. فاذ جعل القرآن الكريم الدين مطلباً يطلبه الانسان من خارج كل تراث، جعل كل ما هو متوارث موضوع فحص جديد ومراجعة من المنظور الجديد الذي يمثل النظرة الى الانسان في هذا الدين. الدين الذي نزل به القرآن الكريم مطلب. وهو مطلب يطالب الانسان الفرد بطلبه من خارج كل تراث معروف. هذه خصائص انفرد بها الدين في الاسلام. وسنعود اليها معتمدين على القرآن والسنّة في بيانها. اما في هذا القسم التمهيدي فسنكتفي بالاشارة الى اهم هذه الخصائص لرسم صورة كلية وعامة لما هو الدين كما يراه الاسلام. نزل القرآن على مجتمع من المشركين فكان الفصل بين الشرك والتوحيد هو القضية، وكان التوحيد هو المطلب. وكان الانسان في مكة في الفترة المكية من تنزيل القرآن هو المطالب بهذا الفصل وبهذا المطلب. ولا فرق في ذلك بين الذكر والانثى، او بين السيد والعبد، او الغني والفقير، او العربي والعجمي، او بين القارئ والامي. فكل انسان من هؤلاء كان مطالباً بهذا الفصل وبهذا المطلب. وهو مطلب ينتهي بنظرة جديدة الى الكون والى كل ما فيه، وبنظرة جديدة الى الانسان، والى نظرة جديدة الى العلم الذي احتكم اليه في عمليات الفصل بين الشرك والتوحيد، والذي يتوجه به الى طلب التوحيد. وهو مطلب يقوم على ثورة على تراث الجماعة المتوارث في عقيدة الشرك وعلى مواجهة ومصادمة بين الانسان وبين القوى التي تحرص على المحافظة على عقيدة الجماعة وتراثها. فهل يملك هذا الانسان الرغبة في النظر المطلوب، والقدرة على النظر والتمييز بعد نظرة الشرك الى الكون والى الانسان والى العالم وبين نظرة التوحيد اليها؟ وهل يملك الشجاعة في مخالفة الجماعة وفي تحمل عواقب الخروج على سلطانها عليه وعن دينها؟ ما هو هذا الانسان الذي يطالب بهذا المنظر وبهذه الشجاعة؟ وهل يختلف الانسان في مجتمع المشركين في مكة عن الانسان في مجتمع آخر؟ وهل يختلف ما يطلب من الانسان في مكة عما يطلب من الانسان في مجتمع آخر وفي زمان آخر؟ وهنا يستوقفنا حرص القرآن الكريم على تعريف ما هو الانسان في كل انسان. لماذا هذا الحرص؟ وما الحكمة فيه؟ وكيف ينعكس في سائر القرآن؟ وما الذي يحمله هذا التعريف في تكليف الانسان بوقفة مثلى وقفة الانسان في مكة في المنظر المطلوب وفي الشجاعة على المخالفة في سبيل طلب الحق؟ نجد ان القرآن في تعريفه لما هو الانسان قد جرّد هذا التعريف من كل الاختلافات الظاهرة او المتوارثة بين البشر، فقد جرّد هذا التعريف من الاختلافات في الجنس وفي العرق وفي اللون وفي اللسان. والاختلافات المتوارثة في الدين وفي البيئة الحضارية والعمرانية. ومن جهة اخرى يبين القرآن الخصائص المشتركة بين الانسان وكل انسان آخر: الاصل الواحد، والتكاثر الواحد، والتسوية الواحدة، والفطرة الواحدة. وان الله تعالى "نفخ فيه من روحه"، وجعل له "السمع والابصار والافئدة"، والارادة الواحدة لعله يكون من الشاكرين. السجدة 9. وهذا الانسان الواحد في كل انسان هو الانسان الذي خاطبه القرآن في مكة وفي المدينة بعدها، وهو الانسان الذي يخاطبه في كل مجتمع وفي كل زمان. يخاطب فيه شوقه الفطري الى معرفة الله تعالى، وقدراته المعرفية في تجسيد هذه الرغبة بمعرفة آيات الله تعالى في خلق الانسان وفي خلق الكون وكل شيء فيه، ويخاطب فيه الارادة لعله يكون من الشاكرين لله تعالى على نعمه في خلقه وفي تسخير كل شيء له. فالانسان، كما يراه القرآن، يراه بمعزل عن هوية الجماعة التي يولد وينشأ فيها، وبمعزل عن تصورها الى ما هو الانسان. يراه خارج هوية الجماعة وخارج تصورها له. ووعي الانسان بما هو وبما فيه من قوى قطرية، معرفية وروحية وارادية، هو البداية في مراجعة تراث الجماعة ومراجعة نظامها في الحياة ومراجعة سلطاتها وسلطات مؤسساتها عليه، وهو البداية في التوجه الى معرفة الله تعالى بتشغيل هذه القوى في معرفة آيات الله في خلق الانسان وفي خلق الكون وكل شيء فيه. وكما يعزل القرآن الانسان عن هوية الجماعة وعن تصورها الى ما هو الانسان، فكذلك يعزل موضوع العلم الذي يحتكم اليه في الفصل بين تراث الجماعة وبين التوحيد الذي يدعو اليه القرآن، والذي يتوجه به الانسان الى معرفة الله تعالى. نقل القرآن موضوع هذا العلم من "علم" الجماعة المتوارث الى ما هو خارج هذا "العلم"، الى علم الحقيقة في آيات الله في الخلق، في حقيقة الانسان وفي حقيقة الكون وكل ما فيه. ودعا الانسان الى تشغيل قواه الفطرية في معرفة حقيقة الانسان وحقيقة الكون وما فيه من اشياء وطلباً لمعرفة الله تعالى. الانسان كما هو ومن خارج التصورات المتوارثة، وآيات الله تعالى في الخلق، وايضاً من خارج التصورات المتوارثة لها، هذه هي المعطيات الاولية في طلب معرفة الله تعالى وفي طلب الدين - دين الانسان. وهذه المعطيات لها وجودها الذاتي والموضوعي، وهي موجودة في كل انسان وامام كل انسان. وهذه المعطيات هي الاصول الاولية التي يطلب بها هذا الدين ويقوم عليها. فوعي الانسان بما يأتي به من قوى فطرية، عرفية وروحية وارادية، وتشغيل هذه القوى في معرفة آيات الله تعالى في خلق الانسان وفي خلق الكون وكل شيء فيه، هو منهج القرآن في طلب معرفة الله تعالى وفي طلب الدين الذي يرضاه الله للانسان. والاصل الأم في هذا المنهج هو في قدرات الانسان المعرفية على كشف الحقيقة في حقيقة الانسان وفي حقيقة كل شيء، وفي قدراته على الاستدلال بهذه المعرفة في طلب معرفة الله تعالى. والدين الذي نزل به القرآن يقوم اصلاً على هذا المنهج في معرفة الحقيقة. ويلازم هذا المنهج في المعرفة ادراك الانسان لما انعم الله به عليه في خلقه كما خلقه، ولما انعم الله به عليه لحياته ولبقائه، فيكون من "الشاكرين" لله تعالى بالتعبد له كما أمر. والدين الذي نزل به القرآن نظام في طلب المعرفة يلازمه نظام في التعبد شكراً لله تعالى. وبهذا المنهج في طلب المعرفة وفي التعبد تغير مفهوم الدين تغيراً كلياً عما كان متوارثاً في الاديان الاخرى. وصار من اهم مقاصده تنمية قوى الانسان المعرفية والروحية بتشغيلها في معرفة الحقيقة في آيات الله تعالى، وتنمية قواه الارادية بتشغيلها في الشكر لله وفي التعبد لله تعالى. وسنرى بشيء من التفصيل فيما بعد ان ما يطالب به هذا الدين يتواءم تواؤماً تاماً مع حاجات قوى الانسان الفطرية، المعرفية والروحية والارادية، في النمو السليم والى اقصى ما فيها من طاقات، وهذا هو دليل محبة الله للانسان ورحمته به. وهذا الدين الذي يقوم على النظر في حقيقة الكون وفي حقيقة كل شيء فيه، وعلى معرفة الانسان كما هو في حقيقته، وعلى الشجاعة الاخلاقية في مخالفة الجماعة في طلبه، لا ينحصر طلبه بنخبة معينة من الناس يدعي اهلها ان الانسان العادي من عامة الناس لا يملك القدرة على مثل هذا النظر وعلى مثل هذه المعرفة، ولا يملك الشجاعة في الاستقلال عن سلطان الجماعة، بل يشمل كل انسان بالغ عاقل، العادي والعالم والأمّي والقارئ. يفضّل القرآن الكريم العلماء على غيرهم، ولكنه لم يجعل القدرة على النظر وعلى التمييز بين ما هو باطل وما هو حق، والقدرة على معرفة ما في هذا الكون من اشياء واحداث، وعلى معرفة الانسان، حكراً على العلماء كما فعلت الفلسفة. وكان من بعض آثار الفلسفة استبعاد عامة الناس من الفئة القادرة على النظر استعلاءً عليهم، فتكونت بهذه النظرة "كنيسة" فكرية في موازاة الكنيسة الكهنوتية، وصار الانسان العادي من عامة الناس عالة على الكنيستين في فكره وفي عقيدته، وتعود على مدى قرون طويلة على طلب "الفكر السليم" والعقيدة "السليمة" من اهل تينك الكنيستين، وفي المقابل تعود اهل الكنيستين على ان يكونوا هم المرجع لأفكار ولعقيدة عامة الناس. ونزل القرآن الكريم لتثبيت ثقة كل انسان من عامة الناس او من غيرهم بقواه الفطرية، المعرضة وغيرها، بمطالبته بأن يكون هو شخصياً المكلّف بتشغيل هذه القوى في معرفة آيات الله تعالى في حقيقة الانسان وفي حقيقة الكون وحقيقة كل ما فيه من اشياء وسنن، وان يكون هو المسؤول عن حصيلة ما يتوصل اليه وعن فعل ذلك في نفسه. طلب منه ان يسأل "اهل الذكر" في سعيه الى طلب الحق، ولكنه ألح عليه على انه هو في النهاية المسؤول مسؤولية شخصية عما يلتزم به من افكار وعقيدة، حرّر الاسلام الانسان من سلطان الكنيستين الفكرية والكهنوتية، وبهذا كان هو المحطة الحاسمة في بناء عهد جديد في التحرر الفكري والعقائدي في مسيرة الحضارة البشرية. والقرآن في حرصه على بيان ان الانسان لا يعرف كما هو في حقيقته بنسبه او بهويته العرقية او اللونية او اللسانية…، وفي حرصه على بيان الخصائص المشتركة والموجودة في كل انسان، وفي حرصه على بيان ان نظام الحياة او الدين في لغة القرآن الذي يصلح للانسان اكثر من غيره لا يطلب من تراث الجماعة التي يولد وينشأ فيها الانسان، ويطلب من خارج كل تراث بتشغيل قوى الانسان الفطرية في معرفة حقيقة الانسان وحقيقة كل شيء… اراد بهذا الحرص كله تحرير الانسان مما يتولد فيه من عصبيات بفعل النظم الاجتماعية او الاديان التي تجعل من الهوية القبلية او العرقية او غيرها الاصل في بناء نظام الحياة او الدين. وأراد له ان يخترق هذه الهويات القبلية والعرقية وغيرها، وان يتجاوزها وان يدخل في ما يجمعه مع كل انسان آخر في امة تقوم على عالمية الانسان، وعلى ما في كل انسان من طاقات فطرية. والدين او نظام الحياة الكلي الذي يريده القرآن للانسان هو دين الانسان الموجود في كل انسان وليس دين جماعة معينة من الجماعات العرقية او اللونية او اللسانية او القومية او غيرها والتي تعزل نفسها وتعزل الانسان فيها عن الجماعات البشرية الاخرى. هذا مع العلم بأن القرآن يؤكد انه لم يكن في مشيئة الله تعالى ان يكون الناس كلهم امة واحدة، حتى ولو كانت امة من المسلمين. والظاهر انه اراد تعالى ان يكون في تعدد الامم تنوع في مجالات ظهور طاقات في الانسان لا تظهر كلها في امة من المسلمين. واخيراً، وبالنسبة الى الفكر الاسلامي، يجب ان نميز بين دعوة الانسان الى الاسلام اي قبل اسلام هذا الانسان، وبين ما يطالبه به الاسلام بعد اسلامه. فتنزيل القرآن قام على هذا التمييز. والقرآن الذي خاطب الانسان قبل اسلام هذا الانسان هو القرآن الذي يغلب عليه بيان الاصول الاولية التي يقوم عليها الدين، وبيان منهج القرآن في دعوة الانسان الى الاسلام. وهذا القرآن في بيان نظرة الاسلام الى الانسان وفي بيان نظرته الى العلم والى التوحيد قد جعل هذه الاصول الثلاثة الاصول الثابتة في بيان ما هو الاسلام، وجعل كل اصل منها موضوعاً للكشف عنه بالعلم الذي لا نهاية له ما دام الانسان على هذه الارض. هذا العلم العلوم الفلكية التي تكشف عن مظاهر التوحيد في الكون، والعلوم الطبيعية وعلوم الاحياء في مختلف مجالاتها واختصاصاتها هو ما تحمله نظرة القرآن الى الانسان والى آيات الله موضوع العلم والى التوحيد، وهو ما تقتضيه لتعميق اسلام الانسان لله تعالى. جعل القرآن الانسان الفرد قبل اسلامه موضوع الدعوة، ليصير هذا الفرد بعد اسلامه وبعد ما يحدث فيه في قواه الفطرية، المعرفية والروحية والارادية، بفعل طلب اسلامه لله تعالى، هو المشارك في تغيير واقع المجتمع الذي يولد وينشأ الى واقع يتواءم في اهدافه وطموحاته مع حاجات الانسان الفطرية، وليكون ايضاً هو المرجع في بناء وتطوير العلوم التي تكشف عن حقيقة الانسان وعن حقيقة آيات الله تعالى في الكوت وفي كل شيء فيه، والمرجع في بناء وتطوير النظم الاجتماعية والتربوية التي تضمن للانسان خير مصير لقواه الفطرية، وفي بناء النظام السياسي الاقتصادي الذي يضمن له المشاركة في تطوير الواقع الذي يعيش فيه، ويضمن له سلامة اسلامه وما يقتضيه اسلامه من حقوق وواجبات.