وجه كبير من الشبه بين الصورة التلفزيونية لعبدالله أوجلان المخفور والمعصوب العينيين في أيدي قوات الأمن التركية، وبين صورة الزعيم السابق لحزب الرفاه التركي نجم الدين أربكان وهو يخرج من رئاسة الوزراء محروماً من ممارسة العمل السياسي اضافة الى حزبه قبل بضعة أشهر. ولئن كان دور عسكر تركيا في الصورة الأولى أكثر وضوحاً وبروزاً، فإن دورهم من وراء الكواليس في اسقاط حكومة نجم الدين أربكان لم يكن ليخفى لأنه تجاوز الأسس الديموقراطية وجافى حدود المنطق والمعقول. وعلى الرغم من الخلاف الواضح بين النضال السياسي لحزب الرفاه "الفضيلة" الآن للوصول الى الحكم، وبين أسلوب العنف والقوة الذي ينتهجه حزب العمال الكردستاني للحصول على حقوق سياسية للأكراد، إلا أن العقلية التي تتعامل مع هذين المطلبين الديموقراطية والحقوق السياسية هي عقلية استئصالية واحدة ساهمت عبر سياساتها المتشددة في دفع حزب العمال الكردستاني الى حمل السلاح للتعبير عن المطالب السياسية للأكراد والتي كان يمكن تحقيقها من خلال حكم ذاتي لهم ضمن الدولة التركية. ويخشى أن تدفع هذه العقلية المتشددة الى تشدد مقابل لدى اسلاميي تركيا الذين حرصوا حتى الآن وعلى الرغم مما تعرضوا له من ظلم المؤسسة العسكرية المهيمنة على تجنب تعريض تركيا لكوابيس العنف الأعمى التي تعصف بالجزائر. وفي الحالتين فإن المصالح الشخصية لجنرالات تركيا تكاد تكون هي الموجه الأساس للموقف التركي، فاستمرار الحرب مع الأكراد يؤمن مصالح حيوية لقادة الجيش من خلال ما تتيحه هذه المسألة من تنشيط تجارة السلاح اضافة الى تعزيز دور الجنرالات في الحياة السياسية التركية، ولا تختلف أهداف التصدي للاسلاميين والحيلولة دون وصولهم للحكم عن ذلك، فالاسلاميون أثبتوا فاعلية في البرلمان التركي في التصدي للفساد الذي يجد رعاية ومرتعاً خصباً في الأوساط العسكرية كما في السياسية. كما أن توجهات الاسلاميين السياسية ستضعف نفوذ الجنرالات من خلال نزع فتيل التوتر مع الدول العربية المجاورة وعلى الأخص سورية وايجاد حل سياسي مناسب للمشكلة الكردية كما كان يبشر أربكان. من زاوية أخرى فإن تأكيدات حزب الرفاه، والفضيلة من بعده بالالتزام، بمبادئ الديموقراطية لم تكن لتنجح في ثني العسكر عن مخططاتهم لعزل الاسلاميين وحرمانهم من المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية التركية، تماماً كما أن مبادرات الزعيم الكردي عبدالله أوجلان لوقف اطلاق النار وتخليه عن مطلب انفصال الأكراد عن تركيا وقصر هذه المطالبة بالحكم الذاتي، لم تنفع في منع استمرار التصعيد العسكري ضد حزب العمال الكردستاني وملاحقته على كل الأصعدة، بل ان ممارسات الجيش التركي لم تميز بين مقاتلين مسلحين ومدنيين عزل، لأن عقلية الاستئصال التي تهيمن على قادة هذا الجيش لم تأبه لقيمة الانسان وحقوقه الأساسية ولا للقوانين الدولية، واستمرت مع هذا باتهام حزب العمال الكردستاني بالارهاب في محاولة للتغطية على ممارساتها التي تسهم في اذكاء وتعزيز نقمة الأكراد على الدولة التركية وتدفع حزب العمال الكردستاني للقيام بأعمال يصنف بعضها في خانة الارهاب. اعتقال عبدالله أوجلان لم ينه ولن ينهي المشكلة الكردية، بل سيشعل حدة الصراع ويدفع ببعض الأكراد للقيام بأعمال يائسة تزيد من حدة دورة العنف. وعلى نفس المنوال فإن حظر حزب الرفاه واستمرار التضييق على حزب الفضيلة لم يضعف شعبية الاسلاميين في الشارع التركي، بل على العكس من ذلك سيزيد من أسهمهم في الانتخابات القادمة سواء أكانت بلدية أم نيابية. فماذا سيفعل جنرالات تركيا هذه المرة؟! هل سيلجأون الى حل حزب الفضيلة الجديد ومحاكمة قياداته ورموزه؟! أم سيلجأون وفقاً لما يجري تداوله الآن الى تغيير قوانين الانتخابات لكي تحول دون وصول الاسلاميين مرة ثانية الى الحكم؟! حتى الآن لا توجد مؤشرات على أن الجنرالات الذين تهيمن عليهم فكرة الأتاتوركية التي تمزج بين القومية التركية المتطرفة والمبادئ العلمانية ويضعون مصالحهم الذاتية الشخصية في قمة أولوياتهم، مستعدين لتغيير سياساتهم ومواقفهم سواء نحو الاسلاميين أو تجاه المشكلة الكردية. ومما يزيد في تعقيد المشكلة ان هؤلاء وجدوا في تحالفهم مع اميركا واسرائيل غطاء مناسباً لمواقفهم المتشددة حتى وان كانت منافية لمبادئ الديموقراطية التي يؤمن بها حلفاؤهم. ها هي تركيا تنضم الى الدولة العبرية كدولتين تحظيان بالدعم والتأييد الأميركي بصرف النظر عن مواقفهما المناقضة لحقوق الانسان والموغلة في تجاوز المبادئ الديموقراطية في تأكيد واضح على أن المصلحة السياسية في العلاقات الدولية أصبحت فوق كل اعتبار أخلاقي أو حتى التزام بالمبادئ والقوانين الدولية؟ لكن السؤال المطروح هنا هو: هل ستمنح الولاياتالمتحدة لجنرالات تركيا غطاء بحجم وقوة الغطاء الذي تمنحه لاسرائيل حتى لو أدى ذلك الى وضع علاقاتها السياسية مع محيط تركيا الأوروبي على المحك؟ الجواب يعتمد في جزء منه على موقف أوروبا نفسها التي أظهرت ضعفاً وتخاذلاً في دعم قضية الأكراد على الرغم من أن تأثيراتها السلبية كانت في عقر دارها. أما الجزء الآخر للجواب فيعتمد على طبيعة الوضع في العراق وتطور عملية التسوية في المنطقة العربية ومدى مشاركة سورية فيها. وبمعنى آخر، فإن العلاقة التحالفية التركية مع أميركا واسرائيل ستكون عرضة للتغيرات الاقليمية في المنطقة، بينما يصنف التحالف الأميركي - الاسرائيلي في خانة التحالف الاستراتيجي... فهل يعي جنرالات تركيا هذه الحقيقة قبل فوات الأوان؟! * كاتب فلسطيني.