يميل قارىء الرواية المصرية الى أن يرسم خارطة لها أو يعيّن تاريخاً يرتّب كتّابها فيه تبعاً لزمنهم ولمواقعهم في الكتابة. وقد ظلت هذه المحاولات متضاربة فالخارطة التي يرسمها قارىء، أو ناقد، تختلف عن تلك التي يرسمها قراء ونقاد آخرون. نيل نجيب محفوظ جائزة نوبل جعل محاولة كتابة تأريخ واحد لتلك الرواية ضرورياً إذ توافرت له، على الأقل، نقطة تحديد مؤكدة. الرواية المصرية تبدأ زمنياً مع محمد حسين هيكل لكنها تبدأ فعلياً مع نجيب محفوظ. كل من سبق محفوظ ينتمي الى التاريخ المدرسي لتلك الرواية بينما التأريخ الفعلي، المستمر، يبدأ معه. ومن بعده هناك تسابق تملأ حلبته أهواء وأمزجة حيث لا يتفق ناقدان إلا على التسميات العريضة. لكن الروائيين موجودون جميعاً على الحلبة وان حاول كل تصنيفهم وترتيبهم بحسب ما يهوى ويرغب. فتحي غانم يبدو كأنه مستعص على الإندراج في أي من التصنيفات. كأنه، في الرواية المصرية، محصّن بانفراده مغلق الأبواب على ما قد يتّصل به أو يتقرّب اليه. والأمزجة المتقلبة المتغيّرة تقسم الزمن الى حقب أدبية فيرتفع اسم كاتب في وقت ما، أو ترتفع تجربته بعد أن كانت مغفلة مهملة. روايات فتحي غانم قليلة الاستجابة الى تلك الأمزجة لكونها لا تقترح غلبة جانب في الكتابة على ما عداه من الجوانب، في روايتيه "الأفيال" و"زينب والعرش" تبدو الكتابة مشركة كل عناصرها المتألفة منها. فالعمل الروائي، بحسب فتحي غنم، هو عمل بنائي وعمارته مكوّنة من أكثر المواد صلابة وقوّة. في "الأفيال" قرأناه وهو يجمع تلك العناصر جمعاً حتى بات يصعب أن نقول مثلاً أنه يتميز بخلق الأمكنة غير الواقعية، أو يتميز بفصل الأزمنة بعضها عن بعض، أو بأنه كاتب سياسي، أو بكونه غائصاً في تحليل مأساة بطله الفردية. الأفيال هي كل ذلك معاً حتى ليخال لقارئها، إذ يتذكرها بعد انقضاء وقت على قراءته لها، أنه يستعيد مشاهد ليوسف، شخصية الرواية الأساسية، ومشاهد أخرى للأمكنة التي يضيع بينها، هكذا في نوع من الانفصال بين المكان ووجود بطلنا فيه. تميل الروايات عادة الى أن تتميّز بأن تتسمى بإسم كأن يقال مثلاً بأن هذه رواية المكان والمتاهة وهذه رواية الحنين وتلك رواية الخرافة إلخ... وتوغل فيه. ومن يتابع الكتابة الجديدة في الرواية والقصة المصريتين يجد أن الوقت الآن هو لرواية الاعتراف التي قوامها الشجاعة في الكشف عن خصوصيات الجسد والنفس، ولهذا الاتجاه أسلوبه أيضاً ولغته اللذان نجدهما شاملين للكتابات الجديدة. فتحي غانم يبدو كما لو أنه لم يكن ينتظر أتباعاً يتأثّرون به. كان يعلم أن الرواية المتسعة، العريضة، لا بحجمها لكن باتساع عالمها، قلما تلقى مريدين وأتباعاً. سمة هؤلاء، حين يكونون جمهرة، هي التعجل والاندفاع نحو ما يستدرج أو يخلب. رواية فتحي غانم مكتوبة لمرحلة تخطّت حبّ الأدب والولع به. إنها عمل بنائي محكم ينبغي، لاحتذائه، الوصول اليه أو بلوغه بالدأت واتساع التجربة وشمولها لعوالم مختلفة. لا أعرف ان كان لروائي آخر هو غالب هلسا أثر في كتّاب الرواية من بعده. هو أيضاً، في ما أحسب، لم يسع الى اثارة الأهواء السهلة ولم يقل ان الكتابة هي هنا، في هذا الحيّز الضيّق دون سواه. هنا كاتب حقيقي وكبير، يقول قارىء غالب هلسا كلما انتهى من قراءة رواية له، ولا يسعى القارىء بعد ذلك الى أن يضع كاتب هذه الروايات في ترتيب أو تصنيف. هكذا حال فتحي غانم، الروائي الحقيقي المؤثر الكِبَرَ على الخفّة أو الفتنة، لكننا نقول، برغم ذلك، ان في ذلك فتنة ربما اختص بها جيل سبقنا.