أريد أن أحذر من الفتنة الكبرى التي يندفع إليها العالم العربي فيقضي على نفسه بنفسه لمصلحة أعدائه وخصومه، ويصبح هو نفسه القاتل والقتيل، كما قالت العرب في حرب داحس والغبراء. فبدلاً من أن يلملم جراحه ويتأمل عقلاؤه مواطن الخلل من دون انفعال، تتجمع سحابات الغضب هنا وهناك، فيلتهم الحريق المنطقة بأسرها، ونصبح كما أصبح أصحاب عليّ كرم الله وجهه الذين "لم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد". فالثابت الذي لا خلاف عليه أن القيادة العراقية، سواء بسبب سوء تقديرها، أو لمصالح خاصة لا علاقة لها البتة بالمصلحة العراقية أو المصلحة العربية، دفعت الشعب العراقي ومن ورائه المنطقة والعالم الإسلامي كله إلى كارثة الصدام العراقي - الإيراني في حرب لم يستفد منها غير المتربصين بهذه الأمة من داخلها أو من خارجها. ثم لم يكد العالم العربي والإسلامي يستجمع أنفاسه، حتى وقع العراق في فخ غزوه للكويت، فحطم البيت العربي وضيّع الحقوق الفلسطينية، وأتاح لإسرائيل أن تستأسد في المنطقة، وأن يستهين الكل بالعرب جميعاً. وكانت تلك هي بداية الفتنة التي أصبحت الآن فتنة كبرى. أما أنها فتنة بمجرد الغزو ثم التحرير بالقوة وتبعاتها، فلأن العقل العربي والعالم العربي انقسم انقساماً حاداً بين أمرين كان يجب الفصل بينهما، وهما إما تحرير الكويت مقابل تحطيم العراق واستمرار الوجود العسكري الأميركي وتمام الانحياز الأميركي لإسرائيل، وتبرير تسوية المشكلة الفلسطينية بأي ثمن، بل يفضل تسويتها بثمن بخس نكاية في ضلال قيادتها وبعض شعبها خلال الغزو العراقي للكويت، أو ترك العراق في الكويت، وهو قادر بعد ذلك على تحقيق "الوحدة" ولو بالقسر مع الكويت ومن يراه مناسباً من دول الخليج ما دام هذا العمل هو القربان الضروري لإنشاء قيادة عسكرية عربية قوية تناهض إسرائيل بعدما زيّن الوهم للعراق وبعض العرب أن العراق أخضع إيران وأمّن البوابة الشرقية للمنطقة العربية، ونشر الأمن والأطمئنان في ربوع الشاطئ العربي من الخليج، وعزّ على فريق من السياسيين والمفكرين العرب الذين اختلطت الأمور في أذهانهم أن يفصل المؤامرة الأجنبية على الأعداء عن مناصرة صدام حسين في مخططه العبقري لإحياء "المجد العربي الإسلامي" على جثة الدول المجاورة وبأموالها. والحق أن تصوير الأمل على هذا النحو وانقسام الأمة بين الرؤيتين هو الفتنة الحق التي أعمت الكثير عن أن يرى وأن ينتفع بما حباه الله من نظر وآثر أن يستوى لديه الأنوار والظلم، كما يقول المتنبي، فلم ينتفع بناظره لكي يدرك أن التهام العراق للكويت إعلان آخر على فساد تقدير القيادة العراقية، وأن استمرار الغزو لأشهر عدة رغم وضوح النذر وصراحة التحذيرات أكبر الأدلة على فقدان هذه القيادة لصلاحية البقاء على رأس هذا الشعب السيئ الحظ. وانتهى الأمر بأن عجز الأسرة العربية عن إخضاع العراق بالقوة لآداب السلوك واستعانتها بغيرها هو عين ما أراده هذا الغير الذي كان ينتظر هذا الطلب إن لم يكن هو الذي هيأ الظروف له، وأصبح الشعب العراقي رهين المحبسين كأبي العلاء المعري، محبس قيادته الفاشلة، ومحبس العداوة الاقليمية والدولية التي تحيط بخناقه وضائقة الحظر الدولي، والقهر السياسي والمعيشي الذي أسفرت عنه سياسات قيادته، فلا هذا الشعب يستحق ما يعانيه، ولا هو بقادر على تغيير هذه القيادة، فاستسلم لمصيره البائس ولم يجد غير السير إلى حتفه والهتاف بأعلى صوته بالحياة والمزيد من النصر لقيادته التي تسومه سوء العذاب، ولسان حاله كما صوره إبراهيم ناجي بقوله: "والطير يرقص مذبوحاً من الألم". والثابت الظاهر للعيان، أيضاً، أن قيادة العراق تقامر بشعب العراق بعدما قررت التهجم على المنطقة العربية كلها من دون أن تدرك أن تصرفاتها هي سبب تحطيم العراق ومهانته وما هو فيه، بل إن قيادة العراق بهذا الهجوم تستفز الشعوب العربية قبل حكامها وتعتقد أنها بذلك تحرض هذه الشعوب على الحكام، وهماً منها بأن الفاصل بين الحكام والشعوب يسمح لهذه القيادة بأن تكون أولى بقيادة هذه الشعوب، وكأنها نسيت أن شعبها الذي عانى منها الأمرّين تحسده على المهانة الشعوب العربية الأخرى وتشرئب أعناقها لكي ينالها بعض ما نال شعب العراق. وعند هذا الحد تبدأ الفتنة الكبرى وقوامها أن الزعماء العرب ممن لحقتهم إهانات أعلنوا الحقائق الواقعة السالف ذكرها، وهي أن قيادة العراق المسؤولة عن محنة شعبه فهمت خطأ أن اهتمام الدول العربية وتعاطفها مع العراق هو تعاطف مع الشعب والقيادة معاً، وأصبح ضرورياً الفصل بينهما، بل إن استمرار قيادة العراق يعني استمرار محنة هذا الشعب، وهي نتيجة بديهية، لكن التجاوز العراقي ضد حكام العالم العربي جعلها حقيقة معلنة. إلا أن الإعلان عنها، وهو بالضبط ما أرادته إسرائيل والولايات المتحدة، يجب ألا يحجب عنها خطورة أن يترتب - في ذهن الآخرين - على هذا الموقف المزيد من استباحة العراق، ما دام الفصل العملي بين الشعب والدولة والقيادة أمراً مستحيلاً، فما يصيب العراق يقع على الشعب والدولة بينما يطيل عمر القيادة ويزيدها بطشاً وعدوانية إزاء محيطها العربي الذي طالما ساند مغامراتها في إيران وصفق لأوهام النصر والزعامة يوم أن استرد صدام "الفاو"، وأرغم العالم إيران على وقف القتال واستهجن يومها أن يشترط الخميني لوقف الحرب أن تزول قيادة العراق. وحتى لا تستشري الفتنة الكبرى فلا تصيبن فقط الذين ظلموا منا خاصة، وإنما سيمتد خطرها الى المنطقة بأسرها، فإنني أناشد عقلاء هذه الأمة أن يحتكموا الى العقل، وأن يتجاوزوا عن سفاهات السفهاء، وأن يقرروا في هدوء كيف يمكن العمل على تجنيب العراق وشعبه المزيد، وتجنيب الأمة المزيد من التمزق، والمزيد من فرص الإفادة المجانية لأعدائها. نريد أن يعلن الزعماء العرب في لحظة تحتاج الى البصيرة والشجاعة أن مصلحة العراق والمنطقة العربية ألا يقسم العراق، وأن استمرار التحدي بينه وبين الطيران الأميركي والبريطاني يؤدي الى تدهور مصالح العراق، لاپبد أن يتوقف هذا الطيران ما دام إنشاء مناطق الحظر أصلاً لا يقوم على سند قانوني، من دون أن يعني ذلك أن هذا الموقف هو من قبيل مساندة قيادة العراق في تحديها للموقف الأميركي - البريطاني. نريد أن تقرر القمة العربية بشجاعة أن العراق كدولة جزء عزيز من أمته العربية، وأن شعبه يتطلع الى حكمة زعماء العرب، وأن أرض العراق تستصرخهم، وأنه من الضروري أن يفرض العرب عزلة مطلقة على قيادة العراق، وألا يكونوا عوناً مع غيرهم على الإطاحة بتلك القيادة حتى لا ينشئوا بأنفسهم سابقة ويشربوا في ما بعد من الكأس نفسها. فالعراق وشعبه وأرضه وسلامة أراضيه فوق كل الحسابات، وقيادته التي تمادت في غيها وتجاوز ضررها نطاق الشعب العراقي وتعداه الى كل المنطقة العربية، شيء آخر تماماً، لعل هذه العزلة تدفع هذه القيادة الى مراجعة حساباتها أو تدرك أن مصلحة بلادها في ألا تتمادى، اللهم إلا إذا كانت تعمل من وراء ستار لمصلحة من يعلنون ليل نهار عزمهم على الإطاحة بها ولكنهم يدركون تماماً أن بقاءها هو خير ضامن لمصالحهم. فليس من العسير أن ندرك مدى ما حققته قيادة العراق منذ العام 1978 من تمزيق للأمة العربية في ثلاثة مواقع حاسمة سقطت ثمرتها في سلة إسرائيل بلا منازع، وأول هذه المواقع هو قيادة المنطقة في السعي الى قطيعة مع مصر دفاعاً عن مبادئ الأمة وشرفها وعقاباً لمصر التي فرطت فيها، وفقاً لرؤية قيادة بغداد. ثم جاءت الموقعة الثانية في ما شهدناه مما صور لهذه القيادة من أوهام بالغنائم إن هي شقت الصفوف وبددت طاقات المنطقة العربية والإسلامية في حربها ضد إيران، وأخيراً عندما زيّن لها أن غزو الكويت هو الفريضة الغائبة والشرط الضروري لتحرير القدس. وأخيراً، فإنني أرجو ألا ترد العواصم العربية على تجاوزات حكام بغداد وأن تنصرف الى بحث جدي في تصفية الرؤية وتحديد المصلحة الحقيقية للعراق مما يلتبس بها من عوالق، وأن تنصرف القمة العربية الى بحث مجمل المسألة العراقية من منظور المصلحة العربية العليا حتى يعاد العراق الى أسرته العربية وقد عادت عافيته ووعيه العربي الصحيح. * كاتب مصري.