هناك من يردد المثل العربي القديم "رب ضارة نافعة". في اشارةً منه الى الحصار المفروض بشكل متقن على العراق منذ ثماني سنوات. لا أقصد هنا مافيات السوق السوداء من تجار ووسطاء ومهربين والذين وجدوا في هذا الظرف الاستثنائي المرير مرتعاً خصباً لأعشابهم الضارة. ولا أقصد التنظيمات السياسية العراقية التي تعمل في الخارج، وبالأخص تلك التي اتخذت من الظرف الأخلاقي الشاذ الذي يغطي بذرائعه الفاسدة فكرة العقوبات الجماعية، غير القانونية، فرصة للإعلان عن ارتباطها بالمؤسسة الرسمية الغربية أو اتباعها نصائح الدول المجاورة للعراق حيث تقيم. وهي تنظيمات لم تكتف بيأسها وشعورها الدائم بالإحباط وجهلها رغبات وأهواء وخطط الجهات التي ترتبط بها بل سعت الى تسويق هذا اليأس من خلال حنينها الفلكلوري الى الماضي وانغماس خطابها في لغة الطوائف والأقليات والقبائل، الأمر الذي انعكس عليها، تشرذماً وتمزقاً واختلافاً. بل أقصد فئة متضررة بشكل حقيقي، فتك بها الحصار من جهتين، جهة الوجود العام حيث كان أفرادها جزءاً من هذا الجمع البريء المعرض للهلاك والإبادة والفقر والجوع والحرمان والقمع وجهة الوجود الخاص، حيث صارت مادة أحلامهم التي غالباً ما تهندس شقاءهم، ترفاً. انهم الرسامون المقيمون داخل العراق. فهؤلاء وجدوا أنهم يقفون في مواجهة محنة ثقافية مزدوجة. وجه منها يخص نوع الأداء الثقافي الذي يبرزون من خلاله وجودهم الإنساني في مرحلة تأريخية عصيبة ونادرة المثيل. هذا الوجه يختلط فيه الامتثال للواجب بالشعور بضرورة المضي بالفن بكل ما ينطوي عليه من توتر خلاق الى مواقع طليعية تؤهله لتكريس مفهوم مختلف للجمال، والوجه الآخر يخص مواد الأداء، التي من غيرها يكون الرسم مستحيلاً ويكون الرسام كمن يشيد أبنية من هواء. هذه المواد، كالزيت والأصباغ المائية والكانفاس والورق والأقلام والحبر والصمغ والأكرلك وسواها لم تنص قرارات الحظر على منعها من دخول العراق، غير أنها المواد في ذات الوقت لا تدخل ضمن قائمة الحاجات الإنسانية الضرورية التي سمحت بها الإرادة الدولية. وهي حاجات، من شأن وجودها والسماح بتداولها عراقياً، ابقاء العراقيين على قيد الحياة، وفي الحدود الدنيا المتخيلة لهذا المستوى من البقاء. وحتى في ظل مكرمة النفط مقابل الغذاء والدواء والحاجات الإنسانية فإن مواد الرسم ظلت تعامل كأية مادة أخرى من مواد الحياة. غير محظورة وفي الوقت نفسه ليس هناك أي قرار يسمح بتداولها. فهي، إذاً، فقرة منسية أخرى ملحقة بسيلٍ من فقرات الحياة التي أجبر الشعب العراقي على الاستغناء عنها. رسامون في عزلة! ما أسعدهم وما أعظم قدرهم! ففي تاريخ الرسم هناك رسامون صنعوا فتوحاتهم من خلال هذه العزلات المقترحة: بول غوغان، فنسنت فان كوخ، أرشيل غوركي، ولكن عزلة الرسام العراقي هي أشبه ما تكون بظلمة القبر، هل يمكننا تخيل ما الذي يعنيه تكيّف انسان وجد نفسه ضحية وسط هذا المأزق الأليم؟ لقد تغير العالم خلال التسعينات. ومع هذا التغير صار كل شيء يجري بسرعة استعداداً للقاء القرن المقبل. ومثلما حدث في السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر فإن سنواتنا هذه إنما تسعى الى اختزال تجربة قرن كامل من الحياة لكي يقف يومها الأخير أمام القرن المقبل حاملاً بيده اليمنى كتابه، الذي هو خلاصة زمن هو واحد من أعظم أزمان البشرية. وقد كان الرسم جزءاً رئيساً من مسيرة هذا الزمن. وهكذا تكون نكبة الرسامين العراقيين هي من النوع النادر. حيث كان قدرهم الكئيب إذ يتم عزلهم عن المجتمع الدولي الإنسانية بأكملها في لحظة الشروع في الانتماء الى المستقبل. وكما يحدث دائماً. فقد تباينت ردود الأفعال، وسط صخب هذا الصراع غير المتكافىء وغير العادل. وصارت المسافات بين موقف وآخر تزداد سعة وتنوعاً. في ظل الغياب الكلي لمبدأ الرعاية المؤسساتية. وهو المبدأ الذي استطاعت من خلاله المؤسسة الفنية الرسمية طوال نحو ربع قرن من الزمن أن تقيّد حركة الفن في العراق بنياتها وأهدافها وخططها. فجأة، وجد الرسامون أنفسهم في العراء. وهم يواجهون مسؤوليات كفاحية لا صلة لها بفعل الرسم، لكن من دونها يفتقر هذا الفصل الى شروط حياته وحيويته. فهي أما تسبقه أو تلحق به. فبين العثور على مواد للرسم لم تفسد صلاحيتها للاستعمال والتي صار وجودها في الأسواق المحلية يشح تدريجياً الى أن اختفت نهائياً وبين العثور على صالة عرض ذات نزعة فنية لائقة ولا يمتزج ولع أصحابها بالفن بسلوك تجاري مريب امتد طريق آلام الرسامين العراقيين. هذا الطريق الذي ما تزال آفاقه غير منظورة حتى الآن. وسط كل هذا الشقاء، صار كل رسام يقترح على نفسه، الحلول الذي تناسبه جمالياً وفكرياً وسلوكياً. هذه الحلول، على الرغم من كل ما اختلط ببعضها من تبجح أو تسول ذرائعي كانت فرصة مهمة لكي يأخذ كل رسام حجمه المناسب له بعيداً عن أي ادعاء أو تلفيق. فهناك من بين الرسامين من أعلن هزيمته في أول الدرب فاندفع الى سوق الاستهلاك، حيث ضمانة البيع الواسع والسريع، فكثر عدد الرسامين السياحيين والتزيينين والمقلدين والمتوددين الى التراث من جهة وحداته الشكلية المشاعة كالقباب والزخارف والخطوط العربية والأبواب القديمة والأقواس وممجدي الحصان والحياة في البادية كونهما رمزاً لأصالة مستلهمة من نمط بائد من الفكر القومي. وهناك من لجأ الى تزييف الأعمال الفنية وبالأخص لوحات رواد الرسم الحديث في العراق من أمثال جواد سليم وفائق حسن وحافظ الدروبي وقد شهدت هذه اللوحات المزيفة رواجاً تجارياً في الأردن وعدد من بلدان الخليج العربي. أما من اكتشف أن بقاءه وسط هذه المعاناة كفاح لا طائل من ورائه وأن غبار الأحداث بهبوبه المستمر لن يؤدي إلا إلى كشط غلاف روحه وان معنوياته في تدهور مستمر فقد فضل أن يعطي ظهره لماضيه ويولي هارباً، غرباً باحثاً عن إمكانية البدء من جديد في أرض أخرى أما لاجئاً أو مهاجراً. وعدد الذين رحلوا من العراق من الرسامين، وهو كبير، لا يمكن إحصاءه بسبب افتقار التجمعات العراقية في الخارج الى أي نوع من العمل المنظم الذي يؤدي خدماته بمعزل عن روح العصبية الحزبية المنغمسة في أدائها الطائفي والقبلي. وإذا ما كانت هجرة الرسامين أمراً ليس جديداً في تأريخ الثقافة العراقية. فقد هاجر في أوقات سابقة محمود صبري وضياء العزاوي ومهدي مطشر وفائق حسين ومدحت محمد علي ومازن سامي وارداش كاكفيان وفاضل العكرفي وعلي الجابري وجعفر كاكي وعمار سلمان وهم من خيرة رسامي العراق، غير أن هجرة هذه السنوات المريرة تكاد تكون مختلفة. ذلك لأنها هجرة امتزج فيها الذعر بالشعور بالفشل والإحباط. المضي بعيداً عن المواجهة بهلع السؤال المضني: الى أين؟ وكما أرى، فقد كشفت الطبيعة الذرائعية لهذه الهجرة عن انحياز للاقتلاع وقطع الصلة والانفصال الكلي عن الأحداث، أما الحنين، الذي يأخذ في معظم الأحيان أشكالاً فلكلورية فهو لا يصف إلا حالة قطع عاطفي مؤقت. ما يشبه الدغدغة، وهو ما تكشف عنه الإذاعات العراقية في الخارج حين تبث أغاني عزيز علي وناظم الغزالي وداخل حسن وحضيري أبو عزيز، فالفكرة واحدة: الهروب من الوطن في أي اتجاه ممكن. ولا يخلو الأمر هذا من فكاهة سوداء حين يتعلق بالدعوة العجائبية بالعودة الى الملكية اعلاناً للخيبة ازاء النظام الجمهوري. وكأن الملكية كانت نعيماً وأن الجمهورية هي المسؤولة عن كل ما حدث. في الجانب الآخر. هناك نوع مختلف من الرسامين. اختلافه لا يكمن في اصراره على مواجهة فنون الفتك اليومي بإنسانية الفرد العراقي بل تخطى ذلك الى استمراره في الإقامة في الرسم، كونه فعل حياة خالص ونقي. لقد اكتشف هؤلاء الرسامون في الرسم فعل مقاومة. فمن خلاله استطاعوا أن يصنعوا لشظف العيش معنى، وللشقاء لغة، فرسومهم لا تستجيب للأهوال والكوارث التي أصيب بها العراق وشعبه سلبياً لامتناعها عن التأمل الوصفي، بل تسعى الى تأكيد نمط مختلف من الهوية، يصنع هواءه ذاتياً. وهو هواء مستعار من الذات العراقية غير الملوّثة بدخان الأحداث. هذه الذات التي كونتها لمسات خلق حقيقي تجاورت من خلالها جنائن بابل المعلقة بنحيب كربلاء، قيامة بغداد المدورة بفرار شعب خيالي بأكمله بين عتمات قصب الأهوار وهو الشعب السومري، وقع خطى الاسكندر المقدوني بسلالات الملوك الساسانيين في المدائن، أجنحة الثيران الآشورية المحلقة بالحكمة والقوة بجزع الإمام علي وهو يلعن الدنيا وفتنتها، استبداد الحجاج برقة الواسطي، الرسام. الحلاج حاملاً صليبه وهو يصيح اقتلوني... اقتلوني" بواجهات رفعة الجاورجي التي تختزل زمن البغدادي بلفتة حيية. ثورة الزنج بكل الخراب الذي ألحقته بالبصرة بشباك وفيقة الذي رأى من خلاله السياب حديقة مصيره. صراع الديكة في إحدى ساحات سوق الغزل الضيقة بصراع الصفوتيين والعثمانيين الذي استمر قروناً، الذات العراقية هذه هي خليط من الهزائم والانتصارات. يمتزج فيها صوت مغنيين، أحدهما يقول: "من وره التنور تناوشني الرغيف" و"الآخر يتساءل بمرارة"، وين آخذك وين انهزم بيك". هي ذات مقيمة في فجيعتها وفي كبريائها، مستلهمة لانفتاحها ولعجزها. ولم تكن في يوم ما ذات قطيعة أو عزلة. ألم تصطف على أرضها أقدام جوليان الروماني الى جانب أقدام كورش الفارسي؟ بهذه الذات قاوم الرسامون العراقيون قدرهم الواقعي، الذي هو قدر ملفق ينسجم بتجلياته كلها مع محاولة اعادة صياغة الشخصية العراقية المستجيبة لهزيمتها سلبياً، الضائعة في قدرها المجاني، وهي شخصية مستباحة، غير منتمية، نفعية، مهتزة، بلا قناعات ثابتة، وليس لديها أي مخطط متخيل لمصيرها، وكما أرى فإن الرسامين العراقيين المقيمين معهم المبدعون الآخرون بالضرورة كانوا صنّاع أمل. فمع كل لوحة تحث على تبني الحداثة موقفاً وسلوكاً كان جزء من المؤامرة الظلامية يفشل في صراعه مع النور. لقد أصبح واضحاً أن عزل العراق عن العالم في هذه اللحظة بالذات من تاريخ البشرية معناه أسر شعبه في قفص الممكن المحلي كأي قبيلة أفريقية معزولة. ولهذا فإن الرسامين الذين اختاروا أصعب الاحتمالات ببقائهم قد صنعوا المعجزة حقاً. معجزة أن يكونوا أحياء خارج لغة القبيلة. فكانت رسوم شاكر حسن الى سعيد وعلاء بشير وسالم الدباغ وسعدي الكعبي وخضر جرجيس وإسماعيل فتاح وعامر العبيدي ومحمد مهد الدين وغسان غائب وفاخر محمد حسن وكريم رسن وسمير الموزاني وحسن ابراهيم وقاسم سبتي ومحمد الشمري وضياء الخزاعي وهناء مال الله وهاشم حنون وعباس مخرب، بمثابة الوعد الذي يعيد الى الرسم صفته الأهلية: فناً عصياً، غامضاً، يقود في اتجاه جماليات حياة متخيلة. وبغض النظر عن التباين الجيلي في المفاهيم والأساليب والتقنيات فإن ما ينتج اليوم في العراق من رسوم يمثل امتداداً طبيعياً لمسيرة الرسم الحديث في العراق بكل عصيانه وتعففه ونزقه وترفه وتفجره وغروره. وفي هذه الرسوم، مهما بدت مترفة تظهر حقيقة الذات العراقية وهي تصنع من شقائها كون جمال سعيد. فهي تتحدى الظاهر بالمخفي وترى من خلال شفافية المرئي ما لا يرى. وتذهب وراء حدسها بعيداً لا لتمس صفاته بل لكي تعلن عن جوهره. رسوم العراقيين، اليوم، هي آيات مستقبلهم.