كل شيء، هنا، يجب قراءته بالمقلوب. بدءاً بالتراتبية الطبقية وانتهاء بالاعلانات التي تبثها قناتا التلفزيون الرسميتان. ذلك لأن التقاط الحقائق مثلما هي في بلد محروم من ايسر نِعم ثورة الاتصالات الحديثة كالعراق هو من اكثر المهمات عسراً. خاصة وان الحقائق الغاطسة فيه لا تسر، او هي في الاغلب من النوع الذي لا يمكن تصديقه. فما جلبته معها حرب الخليج الثانية من تحولات مست بتأثيراتها البنية التحتية لثقافة ووعي وسلوك المجتمع العراقي خلقت احداثاً تعيش الى جوار الاحداث المعلنة هي اشبه بأحداث روايات الواقعية - السحرية. هذه الاحداث بعمق ما تنطوي عليه من مغزى، تضع تاريخاً مستقلاً، رغم ان انتباه المجتمع الدولي مصوب بكل حساسيته المفرطة في اتجاه الاحداث التي تعنيه، والتي تساهم في صنع تاريخه، هو. وبشكل محدد تاريخ انسانيته وفي الوقت نفسه تاريخ سلامه، واللذين وجدهما مرة اخرى يقفان متعارضين. وكل ما يمكن ان يفعله المجتمع الدولي في لحظة اصغائه النادرة هذه: ان يصل الى معادلة متوازنة، يكون من خلالها واثقاً من قوة سلامه الوادعة، وسعيداً بانتظام عدالته الانسانية. وعلى العموم فان هذا الممكن القانوني على مستوى السياسة الدولية لم يعد، اليوم، في العراق وبالاخص على المستوى الثقافي ليشكل بؤرة اهتمام، او اشكالية حياة، بل تراجع، بعد مضي سبع سنوات من صراع اليأس والأمل ليشكل خلفية مبهمة وضبابية للمشهد التاريخي الذي يحتضن الاحداث. هذه الاحداث وإن كانت غير مرئية بالنسبة للعالم الخارجي، بحكم نوع الاهتمام الاعلامي الذي تفرضه التعبئة السياسية لمفهوم الحصار الشامل على العراق، فانها في الداخل تعبئ تاريخاً سرياً بمغزى تحولات ثقافية سيكون لها دور كبير في صياغة نمط شخصية الثقافة العراقية في المستقبل. ولست مبالغاً في شيء اذا ما قلت ان هذه الاحداث ترعى مصيراً مختلفاً تماماً عن المصير الذي كنا الى وقت قريب نتوقعه. فإذا ما كان المثقف العراقي قد عُرف بپعروبيته فان ما شهده هذا المثقف من هدر وبؤس وتغييب وعزل لا بد ان يؤتي ثماره شروخاً في ثقته بجزء عظيم من مسلمات وجوده الروحي. ربما لم يكن النتاج الابداعي، حتى الآن، في العراق صريحاً باقليميته، لأسباب سياسية ليس الا. غير انه ما ان يفك ارتباطه بهذه الذرائع السياسية حتى يبوح بها. وهو برأيي تحول عظيم في حياة الثقافة العراقية. تحول عزلة يعيد الثقافة العراقية الى مفهوم بحثها العمودي وينتشلها من مفهوم انتشارها الافقي السائب، هذا على مستوى المنفعة، اما على مستوى الاضرار، فانه يحرمها من محيط حساسيتها العربي، وهو امر لم يكن بحسبان كل عربي ساهم في صنع معجزة الحرمان العراقي في السنوات الاخيرة من الالفية الثانية. ولا يعني ذلك، ان الغياب، عربياً، سيكون مصدر بهجة وراحة للمبدع العراقي، بقدر ما يزيح عن ذهنه وبشكل نهائي وهم الداعي الممسك بنايه، والمتلذذ بوقع انغام هذا الناي على الآخرين. لقد صحت الثقافة العراقية من نومها المثقل بأوهام رعاية الآخر لتغرق في اوهام رعاية ذاتها المنسية حتى الآن. هذه الأوهام التي ان نظرنا اليها وفق التقييم المقلوب لسلمتنا الى حقائق الجوهر الثقافي. ومن المؤسي ان تكون حرب الخليج الثانية بكل ما حملته من كوارث لحظة ضرورية لكي تعيد الثقافة العراقية من خلالها تأثيث ذاتها، بدءاً من انفصالها عن المؤسسة وانتهاء بتبلور حياة المثقف، مستقلاً. تتبعه بالطبع حياة نتاجه الابداعي. ولقد تطلب الوصول الى هذا الهدف قدر هائل من التضحيات. هذه التضحيات التي لم تنج من روح المفارقة، التي قد لا تكون سارة دائماً. نهاية الثمانينات انشقت الأرض فخرج علينا عشرات الشعراء والرسامين الجدد. الرسامون فعلوا ما كانوا متوقعاً منهم: تعبيرية جديدة تليق بخروجهم احياء مكبلين بجراح ذكريات حزينة من حرب الثمان سنوات، اما الشعراء، فقد ركلوا بأقدامهم المرهقة بالاحذية العسكرية الثقيلة كل التاريخ الشعري العراقي، ملوحين بقصيدة النثر، التي كان الى وقت قريب، جزء من الاعلام الرسمي يعتبرها نوعاً من الخيانة، ومن الدعاية الصهيونية. وإذا ما كان الرسامون، وبتأثير مباشر من حرب الخليج الثانية، بكل عبثيتها، قد تراجعوا عن تعبيرتهم، ليتخذوا موقفاً نقدياً تجريدياً، فان كل من يكتب الشعر في العراق قد اصابته لوثة النثر، حتى ان شاعراً بعثياً هو عبدالامير معلة قد اصدر قبل موته كتاباً يضم قصائده النثرية. ولا ارى في غياب الشعراء الكبار امثال عبدالوهاب البياتي، سعدي يوسف، حسب الشيخ جعفر سبباً لشيوع هذه الظاهرة، بقدر ما تشكل الرغبة في التمرد على الثقافة السائدة سبباً رئيساً لاعلان العصيان هذا. لقد اعاد شعراء التسعينات الشعر العراقي الى أيام سلطته الستينية، حيث: سركون بولص، صلاح فائق، مؤيد الراوي، فاضل العزاوي، محتمين بخيمة هذا التاريخ. غير انهم لم يفعلوا ذلك، الا في ظل غفوة القصيدة الحديثة بأوزانها المتنقلة، والتي لم يعد يمثلها، كبراً، في العراق سوى الشاعر سامي مهدي. هم سادة الشعر، اليوم، رغم ان نماذجهم الفنية لم ترق الى مستوى حضورهم الاعلامي خاصة في النوادي والمقاهي، حتى ان بعضاً منهم هو اشبه بالشائعة، منه بالشاعر. وقد تمدد حضورهم الملتبس هذا ليصل الى مجلة الاقلام، التي يعود تأسيسها الى سنة 1963 وهي مجلة تصدرها دار الشؤون الثقافية، كبرى دور النشر الرسمية. وقد كانت هذه المجلة متجهمة ومتزمتة وراعية لما هو مكرس وسائد من القيم الادبية. غير ان انضمام رئيس تحريرها، الناقد طراد الكبيسي الى سرب المثقفين المهاجرين وضع المجلة بين كفي عفريت، شاعر، هو رعد عبدالقادر المعروف بحماساته التجريبية، التي يلحق بها المحافظون صفة الهدم والتخريب. وقد سبق لهذا الشاعر ان اصدر خلال السنة الماضية كتابين شعريين، هما جوائز السنة الكبيسة ودع البلبل يتكلم اثارا ردود افعال متطرفة. وبسبب الميول الفنية الشاذة لهذا الشاعر، فقد صارت الاقلام تعيش صراعاً فهي، من جهة مجلة رسمية تستند الى تاريخ من الصرامة وهي من جهة اخرى، وفي كل عدد جديد من اعدادها تسعى الى الاعتراف بالتجارب الهامشية، والمنفية والخارجة والرافضة والمتمردة. وقياساً على تجارب سابقة، مشابهة، فان امر الصراع الذي قد يطول لن يحسم لصالح تيار التجديد والحرية والانفلات، وقد تتم في وقت ما ازاحة رعد عبدالقادر عن الاقلام مثلما ازيح من قبل ماجد السامرائي عن مجلة الموقف الثقافي. وبغض النظر عن النتيجة التي يمكن ان ينتهي اليها هذا الصراع، فان حدثاً غرائبياً من هذا النوع، اقصد، اقتحام قصيدة النثر قلعة الاقلام المحصنة، ما كان له ان يحدث لولا الواقع الملتبس الذي تعيشه المؤسسة الثقافية. حيث لم تستطع هذه المؤسسة عبر تاريخها الطويل ان تقدم صورة واضحة عن سلوكها الثقافي ولم تعمل في يوم ما ضمن شروط فنية وأدبية واضحة ومعلومة. فكانت تأخذها رياح مدرائها المتقلبة والمتناقضة بعيدا عن اي امكانية لتشييد بنية مؤسساتية راسخة. لذلك، فان المثقفين، برغم لجوئهم القسري والاضطراري الى هذه المؤسسة بسبب غياب اية جهة منافسة، لا يثقون بمزاجها المتقلب. وهو امر بالغ التعقيد لم تنظر اليه المؤسسة في سنوات عزها بجدية. وهي، مع ذلك لم تسع الى استرضاء المثقفين في سنوات ضعفها الحالية. ولأن هذه القطيعة بين المؤسسة والمثقفين كانت بمثابة القدر المكتوب فقد استثمرها كثير من الكتّاب لصالح تغييب الاعتراف بالمؤسسة فصاروا ينشرون كتبهم بطرق لا تعرضهم لمساءلة الرقابة. فهناك، اليوم، كتب صغيرة قد طبعت بطريقة الحفر الطباعي الكرافيك او بطريقة الشاشة الحريرية سكرين. وبنسخ معدودة، وكأنها اعمال فنية، هذه الكتب، تتنقل، اليوم، بين الايدي ليقرأها العشرات بإعجاب وجل النتاج الشعري المنشود بهذه الطريقة ينتمي، فنياً، الى قصيدة النثر. فائق حسن والورثة المنسيون موت الرسام الكبير فائق حسن 1914 - 1991 كان فاتحة لاضطراب كبير لم تسببه اية مرحلة من مراحل حياته الفنية. وإذا ما كان هذا الرسام - المعلم طوال اكثر من خمسين سنة، قضاها بين الرسم بغزارة وتدريسه باتقان، قد فضح كل اسرار العملية الفنية فكان بمثابة اسطورة عارية الا من ثقته بالرسم وتقشفه الحياتي فان موته كان يجر وراءه سيلاً من الالغاز. فما أن مات فائق حسن حتى برزت في حياتنا الثقافية ظاهرة الأعمال الفنية المزيفة، فارتفاع أثمان لوحاته أغرى تجار الأعمال الفنية بالانجرار وراء تصدير اسطورته الى الآخرين خارج الحدود العراقية وإن من خلال لوحات حملت توقيعه مزوراً من قبل عدد من طلابه. وكان اللهاث التجاري، هذا، وراء صدور قانون عراقي، هو الأول من نوعه، يحرم بموجبه اخراج أعمال المتوفين من الفنانين. تبعته تقييدات أخرى شملت الأحياء من الفنانين. غير أن هذا شأن، وتزوير لوحاته الذي استمر في عمان العاصمة الأردنية شأن آخر. فلقد استقر غير واحد من محترفي تزييف لوحات فائق حسن في العاصمة الأردنية وصاروا يصدرون لوحاتهم المزيفة الى العالم. ولهذا فقد أصبحت هذه القضية خارج التداول المحلي. وأصبح السؤال الذي يخص أصالة لوحات هذا الرسام لا يخص الخبراء العراقيين، وهم أصدقاء الرسام بالتحديد، وحدهم. غير أن سؤالاً آخر ظل من غير اجابة لسنوات: من يرث فائق حسن فابنه الوحيد قابيل فرنسي الولادة والهوية والاقامة، وزوجته مسيحية الديانة، فرنسية الجنسية، وهما لذلك لا يرثان عراقياً، مسلماً. فمن يرثه إذن؟ ظل السؤال معلقاً. وظهر الكثير من الورثة. اقرباء بعيدون لم يروا الفنان ولم يرهم، اغرتهم سمعته بعد موته. الى أن أقرت احدى المحاكم الشرعية الكبرى ابنة أخيه وريثة شرعية وحيدة. هذه الوريثة، التي آلت اليها ثروة غير متوقعة.