ليس بعيداً عما يشهده الشارع العربي من تحولات تمس مصير معنى الوجود الإنساني في هذه البقعة من الأرض، يلجأ الفنان العراقي دلير شاكر إلى استعراض شيء من سيرته الشخصية من خلال أعمال فنية هي اقرب إلى التركيب منها إلى الرسم الخالص. ففي أعماله الثلاثة التي عرضها اخيراً في بينالي اريزونا في متحف توسان في الولاياتالمتحدة حيث يقيم منذ سنوات، تغلب نزعة الاحتكام الى التجربة الشخصية، إن في البحث عن تسويات مقلقة لا تكون في مستوى المعاناة أو في التمرد على الواقع بحثاً عن سبل للعيش محفوفة بالاسئلة المصيرية. ربما شعر الفنان ان سبل التعبير الجمالي المحايدة ضاقت، فلم يعد الجمال ممكناً في عالم صارت الثوابت المضمونية والتقنية فيه بمثابة عثرات مضنية، لذلك سعى إلى الزج ب «أناه» لتكون محور تلك المعادلة، وهي معادلة تحتل التجربة الشخصية جزءاً لافتاً منها، في الواقع كما في الفن. بدلاً من أن يكون دلير في الشارع مثل أقرانه من دعاة التغيير، اختار أن يقف على سطح لوحته، لا باعتباره حكماً وشاهداً في الوقت نفسه وحسب، بل وأيضاً باعتباره نموذجاً حياً لما آلت إليه الظروف التي تدعو إلى الثورة. يسعى هذا الفنان من خلال أعماله الكبيرة الحجم إلى اعادة تعريف هويته الفنية (من خلالها يعرج على هويته الشخصية طبعاً) في سياق المشهد الملتبس الذي تعبر عنه التحولات الجذرية التي تنتج عن لحظات التغيير في مدن عربية. ينبعث ذلك التعريف من لحظة متأزمة، تعبر تقنية اللصق (المجسدَة من خلال الفوتوغراف والرسم معاً) عن المسافات التي تقترحها على الواقع، وهو يعيش على حافة تراكماته التصويرية، فالصراع الذي اتخذ طابعاً سياسياً هو في حقيقته حَمَّال أوجه كثيرة، في مقدمة تلك الأوجه ما يعبر عن حراك اجتماعي وشعور عميق بالانحطاط الثقافي. وفي سياق وجهة نظر الفنان، فان هناك قنبلة لم تنفجر بعد. بين ما كان وما سيكون، هناك دائماً حكاية شخصية لا يمكن أن يعبر عنها الحاضر بكل ما تنطوي عليه من هواجس. دلير شاكر لا يخترع إلا الفضاء التعبيري، أما الوقائع، فإنها لا تنقل هواجس متخيلة، ولا صوراً مرتجلة هي وليدة حيوية مفاجئة. يسعى الفنان إلى النظر إلى طرفي العصا من غير أن يكون يائساً: الفرح والخوف. ليس هناك من تردد. ولكنها الحكاية التي يجب أن تُروى مثلما ينبغي لها أن تكتمل. مساءلة الفن بالنسبة لهذا الفنان هي بحجم مساءلة الواقع، من جهة قدرتها على تطور الاحداث التي تجري على سطح الواقع وعلى سطح اللوحة أيضاً. لقد قرر دلير أن يكون موجوداً في قلب اللحظة العربية الراهنة لا من خلال فنه المبشِّر بالتغيير وحده، بل وأيضاً من خلال صورته، التي تروي جزءاً من حكاية مختلفة، حكاية تتخطى الواقع التفصيلي إلى المفهوم بكل قوته التجريدية. وبهذا يكون الفنان قد تفادى بإحكام السرد ليصل إلى الموعظة: هناك ما يقع من حولنا، لكننا جزء منه، بل الجزء الذي يشكل النواة القابلة للانشظار. ولأن تلك الاعمال تقترح علينا مزاجاً بصرياً بعينه، فإنها تجعلنا نرى إلى الوقائع التي تعبر عنها بعين نصف مفتوحة. هناك خيال يمكنه أن يؤثث فكرتنا عن عيش رحيم لا تعصف به الكوابيس ثانية. في واحدة من تلك الرسوم يختفي رأس دلير وسط هالة صفراء، هناك حيث تجري مختلف التجاذبات الكونية، سلباً وايجاباً. لم يكن المشهد مريحاً ولن يكون كذلك، لكن الأمل يظل قوياً. الرسام يملي على الشارع هنا لغة ليست من مصنفاته (أقصد الشارع)، ولكنها في المقابل لغة لا تتثاقف بغرور، لا تحاول أن تقول ما لا يُفهم لتكون مشرَّعَةً على تقلب الأحوال. من المؤكد ان الرسام هنا يدين الرسم لتعففه المنافق، مثلما يدين المجتمع كمؤسسة لانصياعه لإرادة تاريخ لم تصنعه الشعوب. دلير شاكر، الذي انتقل من الخزف (الذي درسه أكاديمياً) إلى الرسم (الذي شُغف حباً به)، كان تخلى عن عادات الخزاف بمعجزة، فالرجل الذي تتلمذ على أبيه (سعد شاكر) هو واحد من أهم الخزافين المعاصرين في العراق، وكان أسعد الكثيرين بأعماله الخزفية. ومثلما كان مخلصاً للدرس الأكاديمي كان في الوقت نفسه مجدِّداً، من جهة قدرته على التأليف النغمي بين مفردات مستعارة من التاريخ الرافديني وبين مهارته البصرية في الوصف. غير أنه ما أن انتقل إلى الرسم قبل عقد من السنوات حتى صار يتشبه تجريدياً بغوستاف كليمت. قلنا يومها إن الوصف ذريعة للانتقال من عالم إلى آخر، وهذا ما حدث فعلاً، لكن دلير في أعماله الجديدة يضعنا بشراسة بين فكي بلاغة فنية جديدة. لا يراهن على الرسم باعتباره ماكنة لانتاج الروائع، غير انه في الوقت نفسه يسعى إلى التقليل من أضرار الأزمة. الرسم هنا يعيننا على فهم ما يجري لنا ولا يكتفي بتزيين حياتنا باكتشافاته الجمالية. يسعى إلى الحقيقة بروح مثقلة بالشقاء ولا يخفي خسائرنا عنا. وكما أرى، فإن دلير شاكر وهو ينتقل بوقائع الشارع العربي إلى مستوى المنجز الفني عالمياً، إنما يضفي على صورتنا نوعاً من الخيلاء. لقد صنعنا أخيراً شيئاً يستحق أن ينتقل من الصورة المتحركة والزائلة إلى المفهوم الحي والخالد.