أعرف أنني عندما أكتب عن مصر أكتب بعين الرضا، والشاعر يقول ان هذه عن كل عيب كليلة، الا انني أرجو ان تكون عيناي مفتوحتين، بما يكفي لرؤية الاخطاء، وان يكون ضميري صاحياً لتسجيلها. غير أنني لا أبحث عن خطأ او صواب عندما ازور مصر، وانما اكتب عما أرى او اسمع محاولاً ان "أحاكي الكنّة لتسمع الجارة" فيقارن القارئ المكتوب بما عنده. هناك في مصر ديناميكية سياسية واقتصادية واضحة يقابلها قصور في اعلام رسمي لا يزال يركز على الشخص والصورة ويتجاوز الحدث او الانجاز. قبل مغادرتي مصر قضت محكمة استئناف القاهرة بإلزام وزير الداخلية دفع مئة الف جنيه مصري للسيدة بهاء العمري، زوجة السيد منصور الكيخيا، وزير خارجية ليبيا الاسبق الذي اختفى في مصر، ويعتقد انه خُطف، اثناء حضوره مؤتمراً للمنظمة العربية لحقوق الانسان سنة 1992. وتنبهت "اخبار اليوم" وحدها من بين الصحف القومية والاعلام الرسمي الى اهمية الخبر، وأبرزته في صفحتها الاولى. وبدا كما لو ان صحف المعارضة تعتبر قرار المحكمة هزيمة للحكومة، مع انه خبر نادر جداً في البلدان العربية، فكم وزير داخلية خسر قضية في بلده، امام مواطنة عربية من بلد آخر، وكم قاض عربي ملك الجرأة للحكم على وزير؟ على سبيل المقارنة بين المحاكم، تطالب الولاياتالمتحدة بمحاكمة ليبيين متهمين في حادث لوكربي، الى درجة ان تفرض عقوبات على ليبيا، ثم لا تفعل شيئاً عندما ترفض اسرائيل تسليم صموئيل شينباين، وهو اميركي فرّ الى اسرائيل بعد اتهامه مع زميل له بقتل شاب وتقطيع جسمه وحرقه في جريمة هزّت المجتمع الاميركي. وسبب القرار الاسرائيلي ان اليهودي لا يُحاكم امام غير يهود، اما العربي او المسلم فيُحاكم في محاكم الارض كلها، ما عدا بلاده. واكتب مدركاً الفرق بين جريمة لوكربي وجريمة قتل، ولكن اترك للقارئ ان يقارن بين العدالة الانتقائية لأميركا والعدالة العنصرية في اسرائيل والعدالة المصرية. على كل قرأت في الوقت نفسه وانا في القاهرة خبر أمر الرئيس مبارك بالإفراج عن الشاب محمود طيفور الذي أُوقف الشهر الماضي وهو يحاول ارسال برقية للرئيس تقول "لا لمبارك"، للفت النظر الى ظلامة يعاني منها. وأمر الرئيس بالتحقيق في القضية التي أثارتها صحف المعارضة. وقرار الرئيس هو القرار الوحيد الصائب في الموضوع، فمحمود طيفور ما كان يجب ان يُعتقل اصلاً. ومع ذلك فكل طرف فسّر القضية وكأنها نصر له. أغرب من هذا كله قضية تابعتها في جريدة "الشعب" الناطقة بلسان حزب العمل الاسلامي الميول، فهي منذ اسابيع تشن حملة قاسية على الدكتور يوسف والي، نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة واستصلاح الاراضي، والامين العام للحزب الوطني الحاكم. والجريدة تكاد تتهم الوزير بالخيانة العظمى، وتزعم وجود شبكة "والي - بيريز" ودور للموساد في تخريب الزراعة المصرية. ولم يرد الدكتور والي بشيء حتى الآن كأنه يعامل الجريدة على طريقة من لا حرج عليه. وشعرت كما لو ان مجدي احمد حسين، رئيس التحرير، وعادل حسين، رئيس التحرير السابق والامين العام لحزب العمل، يحاولان اثارة الحكومة لسجنهما. ولا ادري كيف ستنتهي هذه القضية الغريبة المثيرة. وكانت "الشعب" شنت حملة مشهورة على اللواء حسن الألفي، وزير الداخلية السابق، واتهمته بالفساد والإثراء غير المشروع، واتهمت اولاده. وهو رفع قضية وانتهى مجدي احمد حسين في السجن، على ذمة التحقيق، الا ان الألفي استقال او أُقيل، بعد حادث الأقصر، وتنازل عن القضية من دون ان تتراجع الجريدة عن اتهاماتها او تعتذر عنها. وعلى صعيد اعلى وأنقى قرأت العدد الاول من مجلة "كتب" التي يرأس تحريرها الزميل سلامة احمد سلامة وقضيت ساعات من المتعة والفائدة مع عدد من المقالات الفكرية والثقافية والتحليلية، كل منها يستحق ان يشترى العدد من اجله. كان هناك مقال طويل للاستاذ محمد حسنين هيكل بعنوان "السياسة والقانون والحب والحرب في عصور مختلفة" اكثره عن الرئيس كلينتون والمحقق كينيث ستار وفضيحة مونيكا لوينسكي. وبعده "توفيق الحكيم وغرام آخر العمر" لنيفين مسعد، ثم "الراهب المحارب" عن البابا يوحنا بولص لتوني جت، وايضاً "قاسم امين حرر المرأة لحساب الرجل" لشيرين ابو النجا، وهو تحقيق عزّز شكوكي في دور قاسم امين المُتعارف عليه. وقرأت بالعربية هذه المرة مقالاً للبروفسور ادوارد سعيد، مترجماً عن مطبوعة "لندن ريفيو اوف بوكس"، ويتحدث فيه عن جوانب من سيرته الشخصية. وكان هناك تحقيق نادر عن الملك فاروق، اساسه مذكرات اكتُشفت اخيراً لكريم ثابت باشا المستشار الصحافي للملك. وما سبق كله لا يصل الى نصف محتويات العدد الاول، وكله مقروء جداً، فأنصح القارئ المهتم بالبحث عن هذا العدد، فقد يطلبه في يوم ما هواة جمع الآثار النادرة، خصوصاً ان عمر المجلات الثقافية العربية المستقلة قصير. فلعل "كتب" تكسر القاعدة.