في السابع والعشرين من شباط فبراير 1948، كفت تشيكوسلوفاكيا عن ان تكون جمهورية ذات حكم ليبرالي تعددي، يضم "البورجوازيين" كما يضم الشيوعيين والديموقراطيين وعدداً من اليساريين الآخرين، لتصبح جمهورية شيوعية تدور، منذ تلك اللحظة، في فلك الاتحاد السوفياتي. صحيح ان التبدل لم يحدث بشكل هادئ، بل حدث وسط مناخ صاخب كان أبرز ما ميزه وقوف الطلاب الديموقراطيين فيه ضد العمال والنقابيين الشيوعيين، غير انه - أي التبدل - حدث بشكل صارم لا رجعة عنه، واثبت الشيوعيون قدراتهم التكتيكية لمناسبته، كما اثبتوا سيطرتهم التامة على الأجواء العمالية، وكذلك تبدى عجزهم عن السيطرة على الاجواء الطلابية التي - سيقول مؤرخ بعد ذلك بأكثر من عقدين من الزمن - ظلت معادية لهم، وعادت لتعبر عن عدائها هذا خلال ربيع براغ الذي سيكون - تحديداً - ثأراً للطلاب على العمال. في العام 1968 سيفشل الطلاب حقاً في ثورتهم الثأرية تلك، لكن فشلهم سيكون مؤقتاً، لأن حركة "ربيع براغ" هي التي اطلقت الهجوم المضاد ضد الأنظمة الشيوعية في طول العالم الاشتراكي وعرضه. لكن تلك حكاية أخرى. في العام 1948، انهزمت الحركة الطلابية بسرعة، وتمكن الانقلابيون الشيوعيون من تحقيق ما كانوا يصبون اليه: إقامة حكم اشتراكي موال لموسكو. جاء ذلك، في اليوم المذكور، حين أعلن رئيس الحكومة الشيوعي كليمانت غوتوولد، في براغ امام عشرات ألوف المتظاهرين الشيوعيين الساعين الى اسقاط الحكومة الائتلافية، التي كانت تحت سيطرة "بورجوازية" على رغم شيوعية رئيسها وعدد لا بأس به من وزرائها، أعلن ان رئيس الجمهورية بينيش قبل استقالة الوزراء الوسطيين واليمينيين الذين كان عددهم 12 وزيراً. وفي الوقت نفسه ذكر غوتوولد ان حكومته الجديدة قد نالت رضى وقبول بينيش. وطبعاً لم يتمكن أحد يومها من تأكيد هذا الأمر الأخير أو نفيه، لأن الرئيس بينيش نفسه اعتكف في منزله الريفي بعد ان كان أعلن مراراً عن توجهه للأمة بخطاب رئاسي، ثم أُجّل الخطاب وأُجل أكثر من مرة. في النهاية لم يخطب الرئيس بل تحدث غوتوولد بدلاً عنه الصورة: غوتوولد يخطب في المتظاهرين. والحال ان الأزمة الاقتصادية التي عاشتها تشيكوسلوفاكيا خلال الآونة الأخيرة كانت هي السبب المباشر للانقلاب. فالمحاصيل الزراعية هبطت، وموسكو ضغطت على براغ لمنعها من القبول بأية مساعدات تقدم لها من قبل الغرب ضمن اطار خطة مارشال. وكانت النتيجة ان ثار خلاف جذري داخل الحكومة، حسبته نسبة القوى لصالح الشيوعيين الذين عرفوا كيف يحركون الشارع والطبقة العاملة والنقابات، ما اضطر وزراء اليمين والوسط الى استقالة "قبلها" بينيش. وهكذا استفرد الشيوعيون وحلفاء يساريون لهم في الحكم، وشكل غوتوولد حكومته. على الفور ملأ العمال والنقابيون الشوارع، وقد أتت بهم مئات الباصات من معاملهم وبيوتهم في الضواحي الى قلب العاصمة. وحدهم الطلاب، يومها خرجوا من كلياتهم وجامعاتهم ليقوموا بتظاهرات مضادة. وحين حاولت مظاهرة طلابية ضخمة ان تتوجه الى مقر رئاسة الحكومة قلعة هاردكاني منعتها الشرطة، وميليشيا العمال من ذلك، ودارت اشتباكات عنيفة بين الطلاب والعمال انذرت بقيام حرب أهلية، وهذا ما دفع الرئيس بيتيش الى الاعتكاف، بعد ان تمكن - على الأقل - من الإبقاء على يان مازاريك، ابن الزعيم التشيكي الراحل الرئيس مازاريك، كضمانة لوجود ديموقراطي - ليبرالي في الحكم. والحال أنه بعد ان تطورت الأمور على ذلك النحو، وبدا الشيوعيون غالبين، والغرب كله مكتفياً بمراقبة ما يحدث، انحصرت آمال الليبراليين، من طلاب وغيرهم، في مازاريك، الذي سيأتي رحيله الغامض بعد ذلك بأقل من اسبوعين لينهي الحلم الليبرالي التشيكي ويعطي الشيوعيين السلطة كلها. الغرب، كعادته اكتفى بالتعبير عن غضبه وخوفه مما يحدث، على لسان وزير الخارجية الفرنسية جورج بيدو الذي قال معلقاً على أحداث تشيكوسلوفاكيا: "عندما استولى النازيون على تشيكوسلوفاكيا عند مفتتح الحرب العالمية الثانية، صرخنا قائلين: ها هو الخطر محدق بنا. واليم بعد تسع سنوات قد يكون من المفيد لنا ان نعيد النظر في الأمر كله وان نتأمل ملياً فيما يحدث. مهما كان من وقع كلمات بيدو يومها، فإن تشيكوسلوفاكيا صارت اعتباراً من تلك اللحظة جزءاً من الكتلة الاشتراكية، وسجلت موسكو، للمناسبة - أول انتصاراتها الكبرى لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولن يكون انتصارها الأخير بالطبع.