هل تستطيع أكثريّة اللبنانيّين اليوم أن تقول رأيها الصريح بسلاح «حزب الله» وبالسياسات السوريّة والإيرانيّة في لبنان؟. والسؤال وجهه الآخر: هل تستطيع الأكثريّة المذكورة أن تقول رأيها الصريح بحياتها وموتها، وبالتضحية الجسيمة المطلوبة منها من غير أن تُستشار فيها؟. الجواب على السؤال في وجهيه هو: لا. فهناك كلام مسموم ينتشر في لبنان اليوم: أغلقوا الملفّ الذي فتحتموه يوم 14 شباط 2005. لا تقولوا كلمة عن سوريّة. لا تقولوا كلمة عن «حزب الله» ومقاومته وسلاحه. كلمة واحدة تكفي لوصم صاحبها بالخيانة. استعدّوا لملاقاة المصير الذي لا يحقّ لكم أن تناقشوا فيه. استعدّوا فحسب واصمتوا. الآن، لا يحدّ من الشهيّة التوتاليتاريّة لتمثيلنا رغماً عنّا إلاّ واقع الطوائف في لبنان، ومعه بضع مصالح استراتيجيّة في الإقليم المجاور تفضّل أن لا تُضبط بما يعيق علاقاتها الإقليميّة والدوليّة. هكذا تتخفّف غطرسة القوّة فتّتخذ شكل النصيحة الأبويّة: عودوا إلى رفيق الحريري واحذوا حذوه. فهو وافق على المعروض عليه، أي أن يكون الإعمار والاقتصاد له فيما السياسة والمقاومة وقرار الحرب والسلم لنا. والواقع أنّ مصير رفيق الحريري، كما هو معروف جيّداً، لا يشجّع كثيراً على التكرار. لكنّ ضيق الصدر بالاختلاف والتباين هو أخطر المخاطر التي تتهدّد اللبنانيّين الآن. نعم، لا مجال لذرّة اختلاف في الأساسيّات، وهذا قبل أن يحسم خطاب الأمين العامّ ل «حزب الله» في أنّنا في قلب معركة لا يعلو، ولا يجوز أن يعلو، على صوتها صوت. لكنْ هكذا تكون الانتصارات في الحروب وهكذا يتصرف الذين ينتصرون في حروب «تمحق» الخصم فلا يبقى له إلا الاستسلام الكامل والمحض. وكثيرون في 14 آذار يتصرّفون كأنّهم ممحوقون، ما يشجّع خصومهم على التصرّف كأنّهم ماحقون. وفي الحالات جميعاً، فهذا ليس تصرف المنتصر في السياسة. لكنّ مأساة الذين ينتصرون في الحروب من غير ان يرتكز انتصارهم الى مقدمات مقنعة في السياسة والاجتماع كبيرة عليهم وعلى سواهم. فهؤلاء انتصارهم هشّ لا يعيش طويلاً، وهم في أعماقهم واثقون من ضعفهم يمارسون للتغلّب عليه قوة لا تحتمل كلمة واحدة مخالفة... على ما تنحو الوقائع الراهنة نحوه. ولسبب ما ثمّة ما يذكّر بجان مازاريك: الأستاذ الجامعيّ التشيكوسلوفاكيّ الذي قاوم النازيّة واحتلالها، ثمّ شارك في حكومة «وحدة وطنيّة» بعد التحرير. هذه الحكومة كان الشيوعيّون، ومن ورائهم القوّات السوفياتيّة في تشيكوسلوفاكيا، يمسكون فيها بأدوات القوّة والتقرير. ومازاريك كان وطنيّاً وساذجاً في آن معاً: فحين عرضت الولايات المتّحدة أن تشمل تشيكوسلوفاكيا المدمّرة بجزء من معونات مشروع مارشال، تحمّس، كوطنيّ تشيكوسلوفاكيّ، للحصول على المعونة. الشيوعيّون عارضوا الأمر لأسباب تتعلّق بمصالح الاتّحاد السوفياتيّ لا بمصلحة بلدهم. الخلاف انتهى بإلقاء مازاريك من شرفة بيته في آذار (مارس) 1948. النظام الذي ألقى مازاريك سمّى نفسه «ديموقراطيّة شعبيّة»، وقد وصف نظامه هذا بأنّه هو الديموقراطيّة الحقيقيّة قياساً بديموقراطيّات البورجوازيّات الكاذبة والمزيّفة التي في الغرب. جان مازاريك اليوم واحد من أيقونات الوطنيّة والديموقراطيّة في بلده. الديموقراطيّة الشعبيّة تعبير للتندّر والسخرية.