غالباً ما تؤلمني رؤية تجاعيده. ليس عجوزاً ولا بلغ الكهولة حتى، لكن ما أن تنظر إلى قامته المحدّبة حتى تكاد تمد يدك لعونه في حمل مسؤولية الكون. لا، ليست تجاعيد عاقد الحاجبين من صنع الزمن، بل هي مخلّفات التآكل "الطبيعي" الذي تتركه السياسة على وجوه تلك النخبة المختارة لحمل رايات شعوبها... حتى النصر، كما هُيّئ لبعضهم ذات يوم. نعم، السياسة تلك التي تؤرقه ولا يزال يؤرقنا بها منذ أيام الحرب الباردة... أثلج الله صدره. لو كانت السياسة هواية شخصية حميمة، لما قلقنا. لمَ لا؟ بعضهم يحب الكلمات المتقاطعة، أو النحت، أو ربما مجرّد النوم بعد الظهر. لكن الناس جائعون، ووتيرة البطالة أسرع من جدول الضرب، وتركيا والهند وباكستان وأوروبا وأميركا بشمالها وجنوبها ستصدّر لنا حتى الخبز يوماً... وهو، أطال الله في عمره، لا يزال صامداً وراء متراسه الفكري، ولو وحيداً. مشاغله؟ الديموقراطية وتصفية من يخالفه الرأي إذا أمكن، حرّية التعبير لمناصريه طبعاً، المصالح العربية المشتركة وغير المشتركة أو ما تجانس منها مع أحلامه، محاور الصراع ولو مضت عليه عقود أو قرون، ففي الإعادة إفادة، المفاهيم الوطنية الحديثة خذ "الحديثة" بروح مرحة والأبعاد القومية في تشعّباتها الأفقية وجذورها العمودية وسبحان الحي الباقي. وفي أي من الأحوال، لا تنسَ تأطير القضية وتشعّباتها ضمن حدودها الطبيعية: الأخوّة، ولو كان الأشقاء يخنقون بعضهم بعضاً من شدة العناق... أو الفقر، كما قد يسمّونه في بلاد أخرى. في تلك الأثناء، وبعيداً عن غيوم سجائره المُلهمة وعن بحبوحة رماد منافضه، ترسو البواخر تنتظر أدوارها على شواطئنا المتلألئة، لتفريغ مآكلنا وملابسنا وأحذيتنا والصابون والشامبو والسيارات. فالمستهلك العربي، يا عزيزي، ذوّاق، وهو من أصعب المستهلكين وأكثرهم تطلّباً... على ذمّة الراوي، وهو خبير في شؤون العلاقات العامة وفي حاجات مستهلكنا الحبيب. لا ليس لدى مفكّرنا الوقت للتفكير بتفاصيل هامشية كهذه. ومن سيُتابع مثلاً رد الوزير في موضوع تعيين مدير المصلحة من هذه المنطقة أو تلك، من هذه الطائفة أو تلك، من هذه العائلة أو تلك؟ وما هي الإنعكاسات الدولية المتوقّعة بعد "تعيين المرشّح المنتخب"، أو تفاعلات موازين القوى بين الأقليات والأكثريات في إمتداداتها التاريخية والجغرافية، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؟ تلك هموم أمتنا، وهنا تُفضَح المؤامرات بمختلف أبعادها الدولية - الإقليمية - الوطنية - العائلية... حتى الشخصية. نقاشات وخصومات ومآدب مصالحة على شاشة الشعب السعيد بمجده التاريخي منذ استأصلوا البطارية من ساعته. سقط جدار برلين وإنهار إتحاده السوفياتي وإنتهت الحرب الباردة والصين تتوسّل الإنفتاح، ومفكّرنا يسبح كالملاك في فقاعته. طبعاً، تغيّرت المصطلحات حتى تكاد تظنه اليوم يمينياً متطرّفاً، لكن الموضوع هو هو: الديموقراطية، القمع، الإستخبارات، وخيوط مؤامرات تحاك في عتمة لا تفضح أسرارها إلا أشعّة عينيه دون الحمراء. أمام غيرة مفكّرنا على الوطن وأقطاره، تقف أمة مأساتها الأولى الخجل: فمن سيطلب من صاحبنا بصق العلكة أخيراً، إن بقي في فمه "المعضّل" شيء منها؟ من سيُبلغه أخيراً بأن صحف الشعوب التي تأكل من تعبها، لم تعد تتناول السياسة - السياسية إلا من باب التسلية، خصوصاً للمتقاعدين، بينما شرائحها الحيّة تلتهم صفحات السياسات الإقتصادية للحكم بالأرقام لا بالشعارات، وبالميزان التجاري لا بهذيان الإضطهاد، وبمعدّلات التضّخم والفوائد لا بالمزايدات الوطنية، وبعدد الوظائف المستحدثة كل شهر لا بعديد القوّات المسلّحة؟ من سيقول له أن الناس لا تبحث عن الديموقراطية لإسمها، بل تبحث عن العدل والرخاء ومحاربة الفساد، ولو مع حاكم يحكم وحده لألف سنة؟ ومن سيُقنعه بعد تلك السنين بأن الديموقراطية ليست "حتمية تاريخية" بل هي علبة يمكن لفّها بورق الحرية او العدل أو الرخاء، وبأن الغلاف لا يُنبئ بالهدية حكماً؟ حبذا لو يفهم بأن الإنتخابات "الديموقراطية" لم تعد إلا ميدان علاقات عامة وملايين وإعلانات ترجّح كفّة صاحب الحملة الأكثر إبداعاً. لم يخبره أحد بأن الديموقراطية هربت الى قاموس الديماغوجية لتستريح، وحل محلها الماركتينغ! بشاره أبو النصر