شكلت حادثة نكبة البرامكة على يد الخليفة العباسي هارون الرشيد مادة تاريخية دسمة، تناولتها أقلام المؤرخين نظراً للدور الذي لعبه البرامكة في ترسيخ أركان الدولة العباسية في العصر العباسي الأول، لذلك وجد العديد من الباحثين أن بإقدام هارون الرشيد على تصفية هذه الأسرة والقضاء على نفوذها تحولاً مهماً في مسيرة الدولة العباسية التي ارتكزت في الأساس على الدور الذي لعبه الموالي والبرامكة خاصة لتدعيم مركزها والقضاء على خصومها. وثمة حقيقة واضحة وهي أن الرشيد كانت تربطه في هذه الأسرة أواصر مودة، وهو الذي شب في حجر يحيى بن خالد البرمكي حتى كان يدعوه "يا أبت" لذلك اختلفت كلمة المؤرخين وأصحاب السير في السبب الذي دفع هارون الرشيد الى نكبة البرامكة. فبعضُهُمْ يرى أن الرشيد غضب عليهم لوجود علاقات بين جعفر بن يحيى البرمكي وبين أخته العباسة، وبعضهم يقول ان ذلك كان بسبب إطلاق جعفر البرمكي يحيى بن عبدالله العلوي بعد أن أمره الرشيد بحبسه، وبعضهم يقول إن استبداد البرامكة بالسلطة وجمعهم الأموال استمال الناس إليهم وأن ذلك أوْغَرَ صدر الرشيد عليهم وحملَهُ على الإيقاع بهم. أضف الى ذلك ما أظهره البرامكة من الدالة على الرشيد مما لا تحمله نفوس الحكام وسعاية أعداء البرامكة وبخاصة الفضل بن الربيع بهم عند الرشيد، ومما يدل على تأثير هذه السعايات في نفس الرشيد ما رواه "ابن طباطبا في الفخري" عن بختيشوع الطبيب قال "دخلت يوماً على الرشيد وهو جالس في قصر الخلد، وكان البرامكة يسكنون بحذائة من الجانب الآخر، وبينهم وبينه عرض دجلة. فنظر الرشيد فرأى اعتراك الخيول وازدحام الناس على باب يحيى بن خالد فقال "جزى الله يحيى خيراً تصدى للأمور وأراحني من الكد ووفر أوقاتي على اللذة" ثم دخلت عليه بعد أوقات وقد شرع يتغير عليهم، فنظر فرأى الخيول كما رآها تلك المرة فقال: استبد يحيى بالأمور دوني، فالخلافة على الحقيقة له وليس لي منها إلا اسمها، فقلت انه سينكبهم فنكبهم عُقيب ذلك"، ذكر بختيشوع الطبيب أنه بينما كان جالساً في مجلس الرشيد إذ دخل يحيى بن خالد، وكان من عادته أن يدخل بلا إذن، فلما دخل وسلم على الرشيد، ردَّ عليه رداً ضعيفاً، فعلم يحيى أن الرشيد قد تغير عليه. ثم عَبَّر الرشيد عن استيائهِ لدخول يحيى البرمكي عليه دون إذن فقام يحيى! فقال: يا أمير المؤمنين! قدْ منّ الله اليك. والله ما ابتدأت ذلك الساعة وما هو إلا شيء كان قد خصني به أمير المؤمنين ورفع به ذكري حتى إنْ كنت لا أدخل وهو في فراشه مُجرداً حيناً وحيناً في بعض إزاره، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يُحب" وإذا قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الإذن أو الثالثة ان أمرني سيدي بذلك" فاستحنى الرشيد، وكان من أرق الخلفاء وجهاً وقال: ما أردت ما تكره، ولكن الناس يتقولون". كذلك روى الطبري هذه العبارة التي تدلنا على مبلغ حقد الرشيد على البرامكة وعمله على الفض من شأنهم، حتى انه أمر غلمانه بالإعراض عنهم والاستهتار بهم إذا دخلوا قصره. دخل يحيى بن خالد بعد ذلك على الرشيد فقام الغلمان اليه فقال الرشيد لمسرور الخادم: مُرْ الغلمان ألا يقوموا ليحيى إذا دخل الدار، قال: فدخل فلم يحيه أحد، فاربدّ لونه، وكان الغلمان والحجاب إذا رأوه أعرضوا عنه، أضف الى ذلك ما ذكره ابن عبدربه في محاورة الأصمعي للرشيد وللفضل بن يحيى وغيرهم، وذلك أن أعداء البرامكة من بطانة الرشيد دسوا للمغنين شعراً يثير عامل المنافسة والحقد في نفسه، وكذلك ما تحيل به أعداؤهم من البطانة فيما دسوه للمغنين من الشعر احتيالاً على سماعه للخليفة وتحريك حفائظه لهم. فانظر كيف كان حال الرشيد من البرامكة عندما سمع هذين البيتين. ليت هنداً أنجزتْنا ما تعِدْ وشفَتْ أنفسَنا مما تجدْ واستبدَّت مرةً واحدةً إنما العاجزُ من لا يستبد فلما سمع الرشيد هذين البيتين قال "إي والله إني عاجز" وسلط عليهم سيف انتقامِهِ. ويعزو بعض المؤرخين نكبة هذه الأسرة الى حوادث ليست فجائية وإنما هي أمور جاءت مُتتابعة، منها أن الرشيد كان يميل كثيراً الى تولية الفضل بن الربيع بعض أمور الدولة. فكانت الخيزران أم الرشيد تحول دون ذلك، وكان الفضل يظن أن الذي حملها على ذلك إنما هو جعفر البرمكي، فلما ماتت الخيزران، ولى الرشيد الفضل الخاتم وغيره مما كان في يد جعفر. وأعقب ذلك إطلاق يحيى بن عبدالله بن الحسن بن العلوي الذي خرج على الرشيد في بلاد الديلم، فبعث اليه الفضل بن يحيى البرمكي في خميس ألف مقاتل، فما زال به حتى مال الى الصلح وطلب أماناً بخط الرشيد فكتب اليه الأمان بخطه، شهد عليه فيه القضاة والفقهاء وكبار بني هاشم. ولما قدم يحيى تلقاه الرشيد بالحفاوة والإكرام، ولكنه لم يلبث أن حبسه إذ علم أنه يعمل لخلعه، واستفتى الفقهاء في نقض الأمان الذي أعطاه يحيى، ثم سلمه لجعفر بن يحيى البرمكي فأطلقه، فكان ذلك من أهم أسباب نكبة البرامكة. ولذلك لا نعجب إذا ساءت العلاقة بين البرامكة وبين الرشيد، وساعد على إشعال هذه النيران سعاية الفضل بن الربيع وغيره، وكراهة زبيدة أم الأمين للبرامكة، إذا كانت تظن أن الرشيد قد عهد الى ابنه المأمون دون الأمين بتأثير يحيى البرمكي. أضف الى ذلك ما اتصل بعلم الرشيد من أن عبد الملك بن صالح العباسي كان يدعو الى نفسه وأن البرامكة كانوا يساعدونه، فغضب الرشيد عليهم وحبس عبد الملك معهم. ولم يكن جعفر البرمكي وحده هو الذي اتهم بالتقرب الى العلويين، بل شاركه في ذلك أخوه موسى بن يحيى البرمكي. فقد رماه أعداؤه بأنه ينشر الدعوة الى آل علي ويعمل على تحويل الخلافة إليهم بين أهالي خراسان. أما قصة العباسة مع جعفر بن يحيى البرمكي، وتتلخص في أن هارون الرشيد لكلفه بمكانة جعفر وأخته العباسة وحرصه على حضورهما مجلسه، أذِنَ لهما في عقد الزواج دون خلوة، وأن الرشيد غضب على جعفر لعدم تنفيذ هذا الشرط، فأمْرٌ نستبعِدُه كل البعد، مع ما نعرفه من نسب العباسة وحسبها ونسبها ودينها، فهي بنت الخليفة المهدي بن المنصور، وهي كما يقول ابن خلدون في مقدمته "قريبة عهد ببداوة العروبة وسذاجة الدين البعيدة عن عوائد الترف وموقع الفواحش، فأين يُطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها؟ أو أين توجد الطهارة والذكاء إذا فقدوا من بيتها؟ أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتُدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم؟... وكيف يسوغ من الرشيد أن يصهر الى موالي الأعاجم على بُعد همتهِ وعِظم آبائِهِ؟ ولو نظر المتأمل في ذلك نظر المُنصف، وقاس العباسة بإبنة ملك من ملوك زمانه، لا استنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها ومن سلطان قومها واستنكره ولج في تكذيبه، وأين قدر العباسة والرشيد من الناس؟". ومما يؤيد بطلان هذا الرأي ما نعلمه من أنفة العباسيين عن مُصاهرة الموالي وليست حكاية أبي مسلم الخراساني مع زوجة عبدالله بن علي العباسي عم الخليفة المنصور والذي أراد أبا مسلم أن يتزوجها بعد وفاة زوجها عبدالله بن علي والتي أشعلت المنصور غضباً على أبي مسلم وساعدت على الفتك به. ونحن نميل الى القول بأن الرشيد نكب البرامكة لما كان من استبدادهم بالأمور دونه. وفي ذلك يقول ابن خلدون: "وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجابهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل اليه، فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء عن ولدهم وصنائعهم، واجتازوها عمن سواهم من وزارة وكتابة وقيادة وحجاية وسيف وقلم، فتوجه الإيثار من السلطان اليهم وعظمت الدالة منهم، وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوجوه وخضعت لهم الرقاب، وقصرت عليهم الآمال، ومدحوا بما لم يُمدح به خليفتهم، واستولوا على القرى والضياع من الضواحي والأمصار في سائر الممالك، حتى آسفوا البطانة وأحقدوا الخاصة وأغصوا أهل الولاية فكشف لهم وجوه المنافسة والحسد، ودبت الى مهادهم الوثير من الدولة عقارب السعاية". وحقيقة الأمر أن البرامكة عاشوا عيشة قوامها البذخ والإسراف وحب الظهور وأغدقوا الأموال على الشعراء والعلماء، ولم يردوا قاصداً. قيل إن جعفر بن يحيى البرمكي أنفق على بناء داره عشرين ألف ألف درهم وهو مبلغ ضخم غير ما يحتاج اليه هذا البناء من أثاث ورياش وخدم وحشم، وما الى ذلك من أسباب البذخ وألوان الترف التي تُثير عوامل الغيرة في نفوس أعدائهم وحسادهم وتُهيىء لهم السبيل للإيقاع بهم عند الخليفة. بهذا تنبأ ابراهيم بن المهدي ووجد أن نكبة البرامكة آتية لا ريب فيها. ويتهم البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق"، ويرميهم بالزندقة والميل الى مذاهب المجوس، فيقول عند كلامه على الباطنية: "ولم يمكنهم الباطنية إظهار عبادة النيران، فاحتالوا بأن قالوا للمسلمين: ينبغي أن تُجمر المساجد كلها، وأن تكون في كل مسجد مَجمرة يوضع عليها الندُّ والعود في كل حال. وكان البرامكة قد زينوا للرشيد أن يتخذ في جوف الكعبة مجمرة يتبخر عليها العود أيضاً. فعلم الرشيد أنهم أرادوا من ذلك عبادة النار في الكعبة وأن تصير الكعبة بيت نار، فكان ذلك أحد أسباب قبض الرشيد على البرامكة". أما ابن النديم فيذكر في كتابه "الفهرست" أن البرامكة بأسرها - إلا محمد بن خالد بن برمك - كانت زنادقة". وصفوة القول أن سقوط أسرة البرامكة كان نتيجة حوادث مُتتابعة، دفعت الرشيد، لا الى الحد من نفوذ هذه الأسرة فحسب، بل الى القضاء عليها وإعفاء آثارها. وهكذا عفى الدهر هذه الأسرة التي كان لها أكبر الأثر في تقدم الحضارة الإسلامية في العلوم والآداب وفي الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها.