ذكر المسعودي - ونقل عنه الذهبي - ان هارون الرشيد الخليفة العباسي (ت 193ه) رام ان يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم (بضم القاف والزاي وسكون اللام) مما يلي (الفرما) وهي بليدة في مصر، فقال له يحيى البرمكي: ان فعلت فسيختطف الروم الناس من الحرم، وتدخل مراكبهم الحجاز. وبحر الروم هو المسمى اليوم (البحر الأبيض المتوسط) وبحر القلزم هو (البحر الأحمر)، وفي هذا الخبر يستوقفني امران: الأول: أن أول من فكر - او صرح بتفكيره - في حفر (قناة السويس) هو هارون الرشيد، وهذا يضيف الى سيرته الحافلة مأثرة عظيمة جدا، ولم اجد من اشار اليها مع ما فيها من دلائل على سعة أفق الرشيد، وتطور تفكيره. الثاني: مشورة البرمكي بألا تحفر القناة مع ذكر العلة تدل على بعد نظره، وقراءته للمستقبل، لأن لقناة السويس اليوم من التأثير السياسي والاقتصادي ماهو ظاهر، فهي منفذ قوات عالمية، وطريق تجارية لا غني عنها، والمتابع للتاريخ المعاصر يجد ما يصدق أهمية هذه القناة من جوانب عدة. وبالامكان ان يحلل موقف البرمكي تحليلا آخر يستند الى ما قيل في تاريخه مع الرشيد - وامر نكبة البرامكة مشهور مستفيض - فقد يكون له مآرب أخرى، كأن يمنع الرشيد من أن يحظى بنسبة هذا العمل الجبار اليه، وللمتخصصين في التاريخ الكلمة الفصل في هذا الموضوع. من عجائب التاريخ ان تولد الفكرة فتجهض، ولا يتسنى لها ان تكون حقيقة الا بعد اكثر من الف عام، فقد حفرت القناة ما بين 1859- 1869م باشارة من سعيد باشا، وتولى حفرها فريق ضخم من العمال باشراف فردينان دي ليسبس، وطولها 168كم.