تصعب اليوم مناقشة الأحداث القريبة في العصر الحديث لكشف أسرارها لكن يمكن تذكر أشهر واقعة في زمن بغداد القديم للتأكيد على أن نكبة أو تصفية «البرامكة» في عهد الرشيد ستظل سر الأسرار الذي حارت العقول في تفسيره على مدى أكثر من ألف عام. والتاريخ يشي بصدقه، وتلعثمه حين يتلجلج: «نكبة» لماذا؟!!. النكبة، ثمة حق لم يستطع أن يقول نفسه!! ثمة ظالم لم يستطع أن يبكي حزنه، ثمة عسف، فكانت نكبة، النكبة تشي بالظلم، وتحمل معنى الواقع المدوي: لماذا لم تكن خيانة؟!! لماذا لم تكن قصاصاًَ؟!! لماذا لم تكن مصرعاً؟!! ولا أقصد من استرجاع القصة استنفار العقول لحل لغز ما سمي «نكبة البرامكة» ولا تفسير مكنونات أسرار العراق في العصر الحديث، فقط أريد التأكيد أن كثيراً من الأسرار تنطوي في علم الغيب كما فيها حكاية البرامكة المثيرة والتي لا يُمل من ترديدها حيث لم يكن مقتل جعفر ونكبة يحيى وأولاده في مسمع تاريخ الإسلام وزيراً يقتل عائلة تنكب. بل كان حدثاً تاريخياً. أو ظاهرة كالظواهر الطبيعية ما زالت أسئلة تلاحقنا إلى اليوم. حار الناس في عهدهم.. وخلفوا للناس وراء عهدهم مثل حيرتهم! والحيرة ماثلة على لسان المؤرخين. فالتاريخ يضع لكل حادثة سبباً إلا هذه. ربما مرد ذلك إلى الفترة الطويلة التي حكم بها هؤلاء. إضافة إلى سعة ورفاه الدنيا التي حكموها. ثم لون هذا الحكم. فقد امتزجت فيه الإدارة وحسن السياسة بأريحية الشعر. ولعل أكثر ما هو محير في تاريخهم ان سيرتهم مرت واجتازت عصر الشعوبية. فكل جماعات العرب المتعصبين لجنسهم كانوا معجبين بهذه العائلة الفارسية! ... كل هذا ارتبط بالرشيد... فكان الرشيد سؤالاً يضاف إلى سؤال النكبة. لم يذكر الرشيد أسباباً يُطمأن إليها في نكبة البرامكة عامة. ولم يذكر بوجه خاص مطلقاً السبب أو الأسباب التي دعته لقتل جعفر.. وبقي مصراً على الكتمان. لقد وضع الناس روايات حائرة عن تلك الأسباب.. وجاء التاريخ الإسلامي في أول نشأته جمعاً لتلك الروايات. .. ثم وضع المؤرخون بعد الناس لنكبة الرشيد للبرامكة جملة أسباب واختلفوا أيها المرجّح على غيره. العباسه أخت الرشيد. ويحيى الطالبي الثائر، والثراء، هي أهم ما يذكره المؤرخون أسباباً.. أسباب نقضها المؤرخون اللاحقون من أساسها وعلى رأسهم ابن خلدون.. قال الرشيد يوماً لأخته عن سبب قتله لجعفر «يا حبيبتي. لو علمت أن قميصي يعلم السر لمزقته.»!! ومات الرشيد وسر نكبة البرامكة معه. لم يقتل الرشيد من البرامكة سوى جعفر. ولم يقتل بسببهم سوى أنس بن أبي صبيح وهو كاتب جعفر جاء به صبيحة مقتله. ودار بينهما كلام لم ينقل منه التاريخ شيئاً. وقيل ان من أسباب قتل أنس «زندقته».. مسكينة هذه الزندقة!! كم تحملت في تاريخنا من أسرار.. حتى أصبح سراً يحتاج إلى شرح!! أما من هو يحيى البرمكي فهو قصة تروى بذاتها ومما قال فيه الجاحظ: «ان الناس عيال في منطقهم وبيانهم على يحيى وعلى ابنه جعفر». يحيى بن خالد ثابت الدين.. كثير الحج. وأراد غير مرة أن يمضي عمره مجاوراً لقبر الرسول. وطلب حين نكب أن يمضي ما تبقى له من أيام في المدينة، قرب الثرى المقدس. «رأى أبو جعفر المنصور وهو يبني بغداد نقض «إيوان كسرى» ليستعين بأحجاره. فأشار خالد عليه بتركه ليبقى شاهد عدل على قوة الإسلام التي استطاعت أن تغلب أمة من آثارها هذا البناء. فاتهمه المنصور بالعصبية لفارس. ولما لم يستطع نقضه وأربت تكاليف نقض الحجارة على أثمانها، أشار عليه ثانية أن يتم نقضه حتى قواعده. وحجته في ذلك أن لا تعجز أمة الإسلام عن نقض ما شادته أمة خراسان. وجودة الرأي في المرتين واضحة. ولا يطعن الحرص على إبقاء الآثار كمغمز للعصبية». حين أصلح الشيخ بين العباسيين وأبناء عمومتهم من الهاشميين الطالبين للخلافة قيل فيه: ظفرت فلا شلت يد برمكية رتقت بها الصدع الذي بين هاشم على حين أعيا الراتقين التئامه فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم كان الرشيد ينادي الشيخ يحيى بن خالد يا أبت. وكان الفضل بن يحيى أخاً للرشيد في الرضاعة. وكان جعفر بن يحيى عند الرشيد بمنزلة لا تعدلها منزلة الأخوة والقرابة.. حالة انفرد بها. نحت العرب من اسمهم لفظة من معانيها الجود فقالوا «تبرمك الرجل» إذا جاد وكرم. وهذه قبل وزارتهم للرشيد.. وتعود إلى تاريخهم في بلاد فارس وهم من عائلة معروفة بوجاهتها الدينية: ما لقينا من جود فضل بن يحيى. ترك الناس كلهم شعراء. ومن نافلة القول أن نذكر باعتماد العباسيين على الفرس في ملكهم. في الليلة اياها.. تلقى يحيى الخبر وقت السحر. ارتمى به رجل يلهث. وهتف به وقد كاد يحيى يخرجه الفزع عن طوره «ويك حدث فما اكتتم خبر، ولا استتر شر». كان الشيخ قد دلف إلى السبعين أو تجاوزها قليلاً.. وأفاق اللاهث من روعه: «.. قتل الخليفة ابنك جعفر»!. «.. وهتكت القصور، وأبرزت النساء»!. رفع الشيخ الجليل رأسه والتفت إلى جليسه. ورمى بالقلم الذي قبل لحظة كان يصرف به مملكة الإسلام في عز دولتها. وقال: «ايه. هكذا تقوم القيامة».. ولم يزد. وسيق الشيخ ومعه أولاده إلى السجن. وحيل بينهم وبين دنيا الناس. وألبسوا الذل بعد الجاه والسلطان. وتحاشاهم الناس.. ومن قبل كانت تشد إليهم الرحال اغماضة فلا جاه ولا سلطان!! وسجنوا في سجن العمر ببغداد. ثم سجن الرقة. ثم استقروا في سجن الكوفة. سجنهم الرشيد مع خدمهم وزوجاتهم. واختلفت الروايات في توسيع الرشيد وتضييقه عليهم في السجن! وجرت محاولات كثيرة للاسترحام والعفو لم تجد أهمها محاولة (ظئر) الرشيد أي أمه في الرضاعة. في العام 193 ه توفي الفضل في السجن قبل الرشيد بمدة لا تزيد عن خمسة شهور، وصلى عليه اخوته ثم أخرج للناس فكثر الزحام على جنازته من العامة والخاصة ودفن إلى جنب قبر أبيه. ورثاه الشعر أيضاً: ليس نبكي عليكم يا بني برمك ان زال ملككم وتقضى بل نبكيكم لنا ولأنا لم نر الخير بعدكم حل أرضا وفي العام 190 ه مات الشيخ الحكيم في السجن وكان موته فجأة من غير علة. ولما وصل الخبر الرشيد اغتم وعلاه حزن شديد وقال: «.. مات اليوم أعقل الناس». أما بقية العائلة فقد توفي الرشيد وهم في السجن. ولما تولى الخلافة الأمين أطلقهم ووصل العائلة رجالها ونساءها. وفي ولاية المأمون أكرمهم وأجرى عليهم أرزاقاً واسعة. ورغم النهاية السعيدة لبقايا العائلة.. إلا أن «نكبة البرامكة» بقيت جسراً لم يقطعه العرب بعد مع بلاد فارس إلى اليوم..!! أما جعفر بن يحيى فهو قصة أخرى. قيل فيه: «بديهته مثل تفكيره». وقال فيه الجاحظ: «ليس أبلغ منه ومن المأمون أحد». وقال فيه أبو حيان التوحيدي «ولهذا عز الكامل حتى قال أصحابنا، ما نظن أنه اجتمع هذا كله إلا لجعفر بن يحيى، فان كتابته سوادية، وبلاغته سحبانية، وسياسته يونانية، وآدابه عربية، وشمائله عراقية». بلغ الذروة في علاقته مع الرشيد.. وكان نديمه. وكان أبوه كارهاً لهذه المنادمة. وبلغ سلم النكبات حتى آخره.. فكانت ليلته لها ما بعدها. ذكر المؤرخون ان الرشيد في مجالس الطرب الخاصة كان يطرح عليه وعلى جعفر ثوباً بزيقين!! ولم يقولوا لنا ما دلالة هذا!! لعله رمز إلى أنهما جسد واحد فيه روحان!! وجد في خزانته بعد مقتله دنانير مكتوب عليها: واصفر من ضرب دار الملو ك يلوح على وجهه جعفر يزيد على مائة واحداً متى يلقه معسر يوسر وقد وجد على نقود أثرية عثر عليها «قبل خمسين عاماً» في بغداد وكرمان اسمه منقوشاً إلى جانب اسم الرشيد.. وهو شرف لم يعط لغيره. «ليلة جعفر» هذه ليس كمثلها ليل.. فقد تخطاها أكثر من ألف عام.. وما زلنا نكتب عنها! وستبقى خالدة ما بقي أدب للعرب يحكى.. وما بقي تاريخ للإسلام يفكر فيه وتعاد كتابته. وكم شهدت بغداد مصارع وزراء وولاة وأمراء؟.. وكم علق على جسورها من جثث، وأودعت خزائنها من رؤوس منزوعة عن هذه الجثث. أما ليلة جعفر، فقد كانت ليلة البرامكة.. والوصف ناء بوصفها. بغداد، صوت العود يهدهدها آن السحر والغناء خرير لدجلة يداعب «الكرخ» و»القيان» جمال لليل بغداد. والنبيذ يأخذ الروح سحراً من ندامى الليل. خمد الصوت فجأة في مجلس «جعفر» وانقشع سريعاً ما بعث الغناء من لذة واجتاح النفوس ذعر ترتعش فيه كل جارحة. وتهادت الكؤوس. وتناثرت ضمائم الريحان. وشخصت الأبصار بالذي أخذ الباب فجأة. «اجب الخليفة» عبارة فاه بها مسرور أعلى خدام الرشيد منزلة. «دعني أدخل البيت فاوصي» قال جعفر. «أما الدخول فلا.. ولك الوصية» قال مسرور. ثم.. ثم تله (جره) مسرور من مجلسه ومضى به إلى منزل الخليفة. وفي ركن منه أوثق قيده. وعاود جعفر شيء من منطقه فأقنع مسرور أن يناظر الخليفة في أمره (مرة) قبل قتله ونجح في اقناعه أن يعود إليه ثانية. عاد بعدها مسرور مضطرباً يرتجف خوفاً من يمين الخليفة إن عاد إليه ثالثة ليقتلنه أولاً. ولم يجد معه منطق جعفر في الرجاء أن يسمح له، أن تقع عينه على عين الخليفة. ثم ماذا؟ ثم جيء بالرأس «يشخب» دماً. وما زال في الرشيد بقية من غضب لم يذهب بها الدم المسفوح. فأمر أن ينحدروا بالجثة والرأس إلى بغداد ويرفعوها إلى قاذده هرثمة. وجاؤوا بها سراً! وبغداد كما هي تهوم في حضن الفجر. لا يزال في الكؤوس بقية وفي الأعواد رجع انغام. ودجلة خلت من قواربها حاشا.. وزلالات تحمل نشاوى نبيذ، وشعر، وجمال.. وفي حي «الشماسية» في بغداد.. كان الجند قد أخذوا أفواه الدروب عند الفجر. والقصور التي كانت قبل الليلة محجة الزوار، وكعبة القصاد. صار الدنو منها هذه الليلة حراماً. و.. وفصلت الجثة المحملة على «بغل بغير اكاف» وشطرت شطرين. وعلقت مع الرأس على ثلاثة جسور. واقبل الصبح فإذا الشمس كما هي.. والمدينة لم تتغير.. وتعج بحديث ليلة الأمس. وحديث الرجل المصلوب.. وخبت «ركائب البرد» إلى خراسان وما وراء خراسان. وإلى مصر وما وراء مصر تنقل حديث تلك الليلة.. وبعد الصبح اقتحم الجند القصور وعاثوا فيها.. وأبرزوا النساء إلى قصر «البانوقة»! وما زال الشعر زمانها ديوان العرب فقيل: أما والله لولا خوف واش وعين للخليفة لا تنام لثمنا ركن جذعك واستلمنا كما للناس بالحجر استلام وقال المؤرخ «فيلبي» بعد ألف عام من تلك الليلة: «انها لطخة في حكم العباسيين، كما كانت كربلاء لطخة في حكم الأمويين». فهل أصاب الرجل؟!.. أم تجنى؟!