بعد اسبوعين من وفاة والده الملك حسين وتسلمه مقاليد الملك في الأردن، يمكن القول إن الملك الشاب عبدالله بن الحسين قد اجتاز بنجاح الامتحان الأول من سلسلة الامتحانات التي لا بد أن يواجهها أردنيا وعربيا واقليميا ودوليا. هذا الامتحان الأول يمكن اعتباره في لغة "اللجان الفاحصة" بمثابة "امتحان قبول" أولي تمكن خلاله من تقديم أوراق اعتماده كملك ورئيس دولة في "نادي" الحكام العرب، وفي المجال الدولي الأرحب ليتاح له التمتع بميزات مقابل وضعه تحت المجهر من قبل الأعضاء الآخرين... والعالم... وقبل كل شيء أمام شعبه المفجوع بغياب "الأب الروحي" الذي لم يعرف غيره زعيماً منذ حوالى نصف قرن. وعلامات النجاح المبدئي التي اعطيت للملك الشاب انطلقت من الانطباعات الآتية: 1- تأكيده الاستمرارية والتزام سياسة والده وتوازناته وأسلوبه في الحكم، وهذا أمر طبيعي في المرحلة الأولى إلا أنه لا بد في المستقبل من أن يجري تغييرات ويتخذ خطوات مختلفة ويستعين بالشباب. 2- رباطة جأشه وتماسكه عند اعلان نبأ الوفاة ويوم تأدية اليمين الدستورية واستقباله زعماء العالم، ثم في الجنازة ولحظات تقبل العزاء. 3- تنفيذه الفوري لوصية والده ورغبته الأكيدة بتعيين الأمير حمزة الذي وصفه الملك الراحل ب "قرة العين" ولياً للعهد، ومراعاته لوضع الملكة نور انطلاقاً من الحب الكبير الذي كان يكنه لها والده، وبالتالي لتعلقه بأخيه غير الشقيق وإيمانه بقدرته على تحمل المسؤولية. 4- تعامله الجاد مع زعماء الدول خصوصاً القادة العرب، والكشف عن علاقات متينة مع عدد كبير من ابنائهم وأولياء العهود منهم، مع الاشارة الى جولة قام بها مع عدد من اخوته لدول عربية عدة قبل تسميته ولياً للعهد وكسب بها دعم قادتها له. 5- الحرص على اظهار وحدة العائلة الهاشمية الحاكمة وعدم وجود حساسيات بين الملك الشاب وعمه الأمير الحسن، الذي كان يفترض انه سيكون محله لولا "ضربة" الملك حسين في آخر أيام عمره. وقد لفتت أنظار الجميع أجواء الود التي سادت خلال التشييع بين الملك وعمه ثم جاءت رسالة الأمير الحسن للملك الشاب لتعبر عن عمق العلاقة ورقيها. 6- تكرار التأكيد على سيادة الدستور والقانون والحفاظ على المؤسسات والتعهد بدعمها وتطويرها حتى يتكرس الجهد الذي حرص عليه الملك حسين في تحصين الأردن كدولة مؤسسات وتجربة ديموقراطية، لا بد من تعزيزها وحمايتها وتخليصها من الشوائب ونقاط الضعف واتخاذ خطوات مهمة تحدث صدى في الأوساط السياسية والشعبية. 7- التفاف الشعب الأردني بكافة فئاته حول الملك عبدالله، احتراماً لقرار والده والثقة بأن أي قرار كان يتخذه يصب في النهاية لمصلحة الوطن، منطلقاً من معرفته بالأصلح والأكثر قدرة على مواصلة المسيرة وتجنب الخضات. الا ان هذا الالتفاف لا بد وأن يقابل بمبادرات تحافظ عليه وتعززه وتمنع تآكله. 8- ولاء المؤسسات والقوى الفاعلة في الأردن من جيش وقوى مسلحة ومخابرات وأمن للملك الشاب واظهار ذلك بشكل واضح وحاسم، اضافة الى القوى الفاعلة الأخرى مثل العشائر وطبقة السياسيين ومعظم الأحزاب رغم ان بعضها وضع شروطاً أو مطالب تتماشى مع ما كان قد أعلنه الملك عبدالله من قبل لا سيما في حديثه ل "الحياة" من أنه سيعمل على تحقيق الاصلاح وضرب الفساد وتطوير الحياة الديموقراطية والمؤسسات. 9- حصول الملك عبدالله على دعم عربي ودولي لم يحصل عليه رئيس دولة من قبل، بما فيهم والده، تجلى يوم التشييع بمشاركة قادة العالم بدون استثناء، ثم في التصريحات الرسمية الحاسمة بدعم الأردن دعماً كاملاً وعدم التفريط به بأي شكل من الأشكال، وترجمة هذه التصريحات الى أفعال واجراءات وخطوات منها المعلن ومنها ما بقي طي الكتمان، من بينها ضخ عدة دول أجنبية وعربية مئات الملايين من الدولارات كمساعدات وكودائع لدعم الاقتصاد الأردني ومنع انهيار أسعار الدينار بعد عمليات بيع واسعة رافقت الاعلان عن وفاة الملك حسين وأدت الى خسارة الدينار أكثر من 10 في المئة من قيمته. ثم سرعان ما تلاشت المخاوف بعد عودة الثقة وتأكد الجميع من سلامة الوضع السياسي والاقتصادي واستمرار الأردن في دوره ومكانته وحصوله على دعم كامل ومعلن لاستقراره ووحدة أراضيه وسلامة نظامه. 10- تأكيد الأطراف الرئيسية في المنطقة والعالم ليس على المحافظة على العلاقات الثنائية فحسب بل على تدعيمها وتطويرها وتحسينها بشتى الوسائل وفي جميع المجالات. فبالاضافة الى الدعم الأميركي والبريطاني الواضح والصريح، ومعه دعم دولي شامل كان موقف السعودية ومصر وسورية خير تعبير عن وحدة المصير بين الأشقاء في "السراء والضراء"، وأعطت تصريحات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير عبدالله دفعة أمل كبرى للأردنيين وللملك عبدالله، وفتحت الباب أمام جميع الدول العربية بما فيها الكويت للتأكيد على دعم الأردن وتقديم كافة أنواع المساعدة للملك عبدالله ليجتاز المرحلة الانتقالية الدقيقة والجزم بعدم التفريط به. وتوج هذا الدعم ما تجلى من روح الاخوة والتعاطف بين الشعبين الفلسطيني والأدني ومشاركة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وكافة الفصائل في التشييع، وفي الاشادة بالملك عبدالله وتأكيد وحدة المصير والتصدي للمؤامرات الاسرائيلية التي تتحدث عن "الخيار الأردني" أو "الوطن البديل". إلا أن أبرز دعم حصل عليه الملك عبدالله كان من الرئيس حافظ الأسد الذي لم يكتف بطي صفحة الماضي والمشاركة في تشييع جنازة الملك حسين فحسب، بل حرص على الاجتماع بالملك الشاب وتأكيد رغبة سورية بفتح صفحة جديدة من التعاون والعمل المشترك وازالة شوائب الجفاء التي نجمت عن توقيع الأردن على معاهدة السلام المنفردة مع اسرائيل. أما العراق فقد شارك في التشييع للمحافظة على ما تبقى من الود بين البلدين وتأكيد استمرارية العلاقة وترك الأبواب مفتوحة لتطويرها اقتصادياً، على الأقل. 11- كل هذا الدعم جاء دفعة واحدة من دون الإخلال بالتزام الأردن بتركة العلاقة مع اسرائيل، فبالاضافة الى مشاركة كافة الأطراف الاسرائيلية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار فإن الملك عبدالله أكد استمرار مفاعيل المعاهدة والتزامات والده. ولكن، حسب تقديرات المطلعين، ضمن حدود معينة ومن دون اندفاع ولا مبالغة بانتظار حسم معركة الانتخابات العامة الاسرائيلية، إذ يخشى أن تشتد الضغوط الاسرائيلية لجذب الأردن الى دائرة ضيقة وتوريط الملك عبدالله الثاني، خصوصاً بعد الاصرار على إعادة فتح مكتب الموساد في عمان. عوامل النجاح هذه التي حصل عليها الملك عبدالله دفعة واحدة خلال "جنازة القرن" والتكريم الهائل الذي حصل عليه والده في حياته ومماته تساعده على تجاوز الصعاب في هذه المرحلة الدقيقة وتسهل من مهمته، لكنها في الوقت نفسه تحمله مسؤوليات أكبر في المحافظة عليها وتجييرها لتكريسه ملكاً وحاملاً لتراث والده وسياسته وأسلوبه، ثم لتجييرها للأردن لتكريسه كياناً مستقراً ودولة مؤسسات ونظاماً اقتصادياً يسعى للاعتماد على نفسه وحل مشاكله الكثيرة ومنها البطالة والغلاء وشح مصادر الدخل. ولهذا فإن شعار الملك الشاب الذي سيلازمه سيحمل عنوان "الفشل ممنوع" بعد ان توفرت له كل عوامل النجاح وانتقل اليه الملك بشكل غير مسبوق، فالعيون تراقب اليوم وتتابع كل خطوة ولا تسمح لأي خطأ أو زلة لسان أو انجرار نحو مزالق الإعلام ومطباته، مثل التصريحات المتعلقة بايران أو بالعراق، أو محاولات الاستفراد الاسرائيلية. فالمصلحة تقضي، طالما ان الأبواب قد فتحت، ان يسعى الأردن لتعزيز العلاقات مع الجميع من دون استثناء حتى يحافظ على دوره القديم الذي كان أكبر من حجمه بفضل حنكة الملك الراحل، اضافة الى اتخاذ مبادرات داخلية وخارجية من بينها دعم التجربة الديموقراطية واجراء انتخابات حرة ومحاربة الفساد وتعزيز التواصل اليومي مع الجماهير ومواصلة سياسة ابعاد الجيش عن السياسة وحل مشاكل الناس ومطالبهم اليومية، والاستفادة من زخم الدعم الدولي والعربي لتعزيز دور الأردن داخل محيطه العربي، والحصول على مساعدات عربية ودولية مع تجنب سياسة المحاور اذ انه يخشى أن تبرد العواطف تدريجاً بعد أن ينفض الموسم ويتفرق "العشاق". وحسب المقربين من الملك عبدالله، فإنه متشبع بسياسة والده وأسلوبه في المبادرة دائماً كأفضل وسيلة للدفاع وحماية الذات. فقد كان الملك الراحل مبادراً دائماً حتى في القضايا الانسانية والاعلامية، من دون ان يسمح لأحد أن يجره لاعلان مواقف واضحة، بل انه كان يسخر الاعلام العربي والأجنبي لتمرير رسائل يريد ايصالها الى هذا الطرف أو ذاك ويصد محاولات الصحافيين اصطياد أية زلة لسان. وقد لمست هذه الصفات من خلال المقابلات التلفزيونية والصحافية واللقاءات الأخرى مع الملك حسين على امتداد 30 عاماً ووجدت فيه رجل إعلام من الطراز الأول. فقد كان يحب الصحافيين ويصادقهم ويعاملهم باحترام وتقدير نأمل أن ينهج الملك عبدالله منهجه الذي يفتقده معظم الصحافيين الذين عرفوه ويفتقدون طيبته ودماثته وأسلوب تعامله الحضاري وتواضعه وهو يخاطبهم ب "يا سيدي" أو عندما يرافقهم حتى الباب الخارجي أو عندما يدعوهم الى عشاء أو غداء في منزله مع أفراد عائلته ليوحي لهم بأنه واحد منهم. وأذكر هنا مثلاً واحداً يعطي صورة عن مبادراته، فقد كنت في عمان أجري معه مقابلة تلفزيونية، قلت له في ختامها اننا سنخصص يوماً تلفزيونياً طويلاً تيليثون لنصرة جنوبلبنان وضحايا مجزرة قانا، واستأذنته في أن يسمح لبعض الأميرات والأمراء في توجيه نداءات للتبرع... فرد علي: وأنا ألا تريدني أن أشارك أنت تعرف حبي للبنان وتأثري بأوضاعه، متى الموعد...؟ فأبلغته ونسيت الأمر تماماً، وفوجئت يوم الحملة بهاتف من الملك حسين يقول لي انه وصل الى لندن قادما من الولاياتالمتحدة وانه يريد أن يتبرع لجنوبلبنان، فشكرته على بادرته ووصلته بالاستديو فأعلن تبرعه بمبلغ 50 ألف دولار واعتذر لأنه لم يستطع أن يقدم أكثر من حدود امكاناته. روح المبادرة هذه لا اعتقد انها خافية على الملك عبدالله الذي وجدت بين أوراقي الخاصة تهنئة لوالده الراحل بتخرج نجله الأمير آنذاك من كلية ساندهيرست، وأخرى باجتيازه تدريبات القفز بالمظلات ليسير على خطى والده ولا سيما في حب التحليق في الأجواء، ورد علي بالتأكيد على وجوب اتاحة الفرص أمام الشباب. وبالفعل كان الملك عبدالله سباقا في بدء مرحلة تسلم الشباب، وحكم الجيل الثاني في الأردن والمنطقة بعد أن حصد كل ما زرعه والده والجيل الذي رافقه. ولكن بعد الامتحان الأول هناك سلسلة امتحانات، فالطريق ما زال في أوله... وفي التأني السلامة وفي الحذر والمبادرة الايجابية عوامل نجاح أخرى لاجتياز حقول الألغام الكثيرة. * كاتب وصحافي عربي.