فتحت الأكاديمية الفرنسية أمس أبوابها واسعة امام الكاتب اللبناني الفرنسي امين معلوف وضمته، خلال احتفال رسمي، الى مقام «الخالدين» البالغ عددهم في رحابها اربعين كاتباً ومفكراً، ويشغل صاحب «ليون الأفريقي» المقعد الرقم 29، الذي كان شغله من قبل الكاتب والمفكر الفرنسي وعالم الانتروبولوجيا كلود ليفي ستروس. وسبقت الاحتفال في مقر الاكاديمية، حفلة اقيمت اول من امس في نادي «انترالييه» الباريسي حيث تسلم، معلوف من عضو الأكاديمية جان دورمسون سيف الشرف الخاص به في قاعة اكتظت بالحضور واختلط فيها لبنانيون مقيمون وآخرون حضروا الى باريس للمناسبة وشخصيات فرنسية تربطها مودة بلبنان. واتسمت هذه الحفلة باجواء من التأثر والاعتزاز بانضمام معلوف الى الاكاديمية المرموقة، التي يمثل الانضمام اليها اقصى ما يطمح اليه الكتاب الفرنسيون والفرنكوفونيون، ولم تخل الحفلة من المرح الذي أشاعه دورمسون عبر الكلمة التي ألقاها وضمّنها العديد من الطُّرف حول الحياة في الأكاديمية والعلاقة بين أعضائها «الخالدين». وعبّر دورمسون عن سعادته لتسليمه سيف الشرف الى معلوف وخاطبه قائلاً: «كنت صحافياً، وأنا كذلك، وأنت كاتب، وأنا احاول أن أكون كاتباً، وانت فرنسي، وأنا كذلك، وانت لبناني، وانا كذلك». وقال إن الفرنسيين يحبون لبنان، وإنه بلد «يثير إعجابنا ونتألم عندما يتالم»، وإنه بلد معقد، و «أنتم صورة لهذا التعقيد». وأضاف قائلاً لمعلوف: «وأنت أكثر تعقيداً مما هو معتقد». وألقى معلوف بدوره كلمة صغيرة ضمّنها مجموعة من المشاهد تعبيراً عن شكره وامتنانه حيال الاشخاص الذين واكبوا انضمامه الى الأكاديمية، ومنهم دورمسون وعضو الاكاديمية الكاتبة هيلين كارير دانكوس، وزوجة ليفي ستروس واندريه زوجة معلوف. وأمين معلوف هو الكاتب اللبناني الاول يدخل هذا الصرح العريق، والعربي الثاني بعد الكاتبة الجزائرية الفرنكوفونية آسيا جبار (2005). «أحمل اليكم جذوري ... وطموحي هدم جدران الكراهية» تمحورت المحاضرة التي ألقاها أمين معلوف في مناسبة دخوله الاكاديمية (خص بها «الحياة») خلال الاحتفال الذي أقيم أمس، حول سلفه الذي حلّ محلّه في المقعد 29، عالم الأنتروبولوجيا الشهير ليفي-ستروس. واستهل كلمته متوجهاً الى أعضاء الاكاديمية الحاضرين، قائلا: «منذ 25 عاماً مضت دخلت تحت هذه القبّة للمرّة الأولى. كنت قد أصدرت رواية للتوّ. قلّدتموني جائزة. دعوتموني، أنا وغيري من الفائزين، إلى الاجتماع السنوي العام. الاجتماع كان يرأسه كلود ليفي-ستروس. وأنا طالب في العلوم الاجتماعية في بيروت قرأت له «من العسل إلى الرماد». لقد كان بالنسبة إليّ، كما بالنسبة إلى كلّ أبناء جيلي، كاتباً رمزياً. عندما سمعته يُعلن اسمي وعنوان روايتي كنت أُحلّق فوق غيمة. لم أكن أنتظر أكثر من ذلك. وطبعاً، لم أنتظر أن أقف هنا. وسطكم. ألقي خطابي وأرثيه». كلود ليفي-ستروس هو سلف أمين معلوف في الأكاديمية. هو العالم الأنتروبولوجي المعروف والعضو السابق في الأكاديمية. واليوم يأتي صاحب «هويّات قاتلة» ليحلّ خلفاً له. ثمّ اكمل أمين معلوف المولود في بيروت عام 1949 خطابه مُعلّقاً على جدلية العلاقة بين اللغتين الفرنسية والعربية. فأكدّ أنه ملتزم باللغة الفرنسية الكلاسيكية. لغة لابرويير وراسين ورابليه ورونسار وروتبوف. استخدم معلوف تعبيراً قديماً وعلّق عليه بالقول: «هذه اللهجة قلّما تسمعونها في مثل هذه المناسبة. وربما لن تسمعوها بعد الآن. ما بدأ يختفي من اللغة الفرنسية لطالما كان في الماضي معياراً. هذه الصيغة لم يخترعها آبائي وإنما حافظوا عليها. هم سمعوها هكذا بألسنة أجدادكم وآبائكم، بألسنة أسلافكم الذين قدموا إلينا وزاروا بلادنا. وخصصوا كتباً لوصف أوديتنا وأرضنا الجميلة الممتدة تحت شجر الأرز. لامارتين، فولنيه، باريّس... اسمحوا لي أن أتوقف للحظة عند أحدهم، وهو فرنسيٌ، لبنانيّ الهوى. إنّه إرنست رينان. هذا الذي كتب «حياة يسوع» في اسفل منطقة جبل لبنان، وخلال ستة أسابيع فقط. رينان، الذي أعرب في إحدى رسالاته عن أمنيته في أن يُدفن هناك، بالقرب من مدينة جبيل «بيبلوس»، اختير عام 1878 للمقعد الرقم 29 في الأكاديمية الفرنسية. المقعد الذي انتقل بعد مئة عام إلى ليفي-ستروس. وتابع معلوف قائلاً: «غالباً ما ارتبط إشعاع اللغة الفرنسية بالإمبراطورية الاستعمارية. أمّا في ما يخص لبنان، فالأمر ليس كذلك. إذا كانت فرنسا تتمتع بقوّة انتدابية باسم المجتمع الدولي، فهذا لم يكن إلاّ لمدة 25 عاماً فقط. وفي تاريخ الاستعمار يُمكن الكلام عن مئات السنوات وليس ربع قرن. قصة الحبّ بين بلدي الأم وبلدي بالتبنّي لا تعود إلى الفتح العسكري ولا إلى المجتمع الدولي. بل تذهب أبعد بكثير. إنها ترتبط مباشرة بديبلوماسية فرنسوا الأول البارعة. هو من أخذ من السلطان العثماني حقّ الاهتمام بمصير المجتمعات المشرقية لحماية مسيحيي الشرق؟ هذه هي الرواية الرسمية. لقد انتهى الأمر بفرنسوا الأول إلى عقد تحالف مع السلطنة العثمانية، العدو التقليدي للمسيحية. علاقة الحبّ هذه ما زالت قائمة منذ القرن السادس عشر. وفي الواقع، إنها تعود إلى ما قبل ذلك بكثير». وأردف: «الأساطير تروي ما لا يتذكّر التاريخ أن يرويه. فالعلاقة تعود، وفق الأسطورة، إلى الدَيْن الثقافي بين اليونان القديمة وفينيقيا القديمة، أي إلى قدموس الذي حمل الأبجدية الفنيقية ورحّلها معه لتنتج عنها الأبجدية الإغريقية واللاتينية والعربية والعبرية والسريانية وغيرها. يقول الشاعر: «قدموس، الحضاري، كان قد زرع أسنان التنين. وعلى أرض أُحرقت بنفخة التنين هذا انتظرنا أن ينبت الإنسان». هذا الشاعر الذي ذكرته لتوّي هو ليس إلاّ كلود ليفي-ستروس. هذا الكبير الذي علّمته تجاربه الشخصية أن يبقى متيقظاً أمام الأحداث الثانوية التي من شأنها إحداث تقدم ما». ثم أسهب معلوف في الحديث عن حياة سلفه الراحل ومختلف المراحل التي عاشها من الطفولة إلى الشباب فالنضج والشيخوخة. وخصّص مقاطع رصد من خلالها الأحداث المفصلية في حياة ليفي-ستروس. «كان ستروس محارباً يسارياً. في عمر العشرين أصبح السكرتير البرلماني لنائب اشتراكي. عُين أستاذاً للفلسفة. أحبّ أن يُعلّم المنهج الدراسي المقرّر. وكان يدعو الطلاب للغوص في الآداب الفرنسية عبر أعمال معاصرة لكتّاب مثل كوكتو وكلوديل وأندريه جيد، فضلاً عن السرياليين. إلاّ أنّه في العام الثاني، ولدى عودة المدارس وجد ستروس في إعادة المنهج الدراسي الذي سبق أن درّسه فكرة لا تستهويه. فاكتشف أنّ هذه المهنة ستفقده صبره وتشعره بالملل». ولم يتوانَ صاحب «سمرقند» عن وصف الحسّ الإنساني لدى ستروس. «كان لديه حب راسخ لبلده فرنسا ولغته لغة شاتوبريان التي يُفضلها على أي لغة أخرى. ولكنه في المقابل طالب بالاحترام المتساوي بين كل الحضارات الإنسانية. المساواة ليست إلا عريضة مبادئ. الناس لم يُخلقوا متساوين، والحضارات الإنسانية ليست متساوية أيضاً، ولكن في اللحظة التي نهمل فيها عريضة المبادئ هذه ونُشرّع اللامساواة نكون قد سلكنا طريق البربرية. لقد انتُقد بسبب تحريضه على الانفتاح ازاء الاختلافات الموجودة في العالم. وانتُقد أيضاً لقوله إنّ المجتمع الراغب في الحفاظ على ارثه وخصوصيته عليه أن يظهر شفافية أحياناً أمام التأثيرات المقبلة من الخارج». ثمّ تابع: «في العام 1939 طوى ستروس صفحة من حياته. ترك البرازيل وزوجته الأولى دينا. وبعد فترة قليلة على عودته من البرازيل عُيّن في مدرسة راقية تُدعى Henri IV «هنري الرابع». وبعد شهر من بداية الموسم الدراسي، اندلعت الحرب العالمية في أيلول/ سبتمبر من العام نفسه. فأُرسل ستروس إلى الجبهة وعاش المآسي الصعبة التي عاشها جميع الفرنسيين من جيله. الانتظار، التوتر، الضياع، الإهانة...». وعن تجربة ليفي-ستروس في الأكاديمية قال أمين معلوف: «لآخر يوم في حياته ظلّ ليفي-ستروس يشعر بسعادة كبيرة لانتمائه إلى الأكاديمية الفرنسية. على مدار 35 عاماً شارك في نشاطاتكم واجتماعاتكم كلّ خميس وكانت تُخفّف من لا طمأنينته وتوتره إزاء مشهد تطور هذا العالم. الإنسانية تكمن في الثقافة الأحادية. هذا ما كتبه في «مدارات حزينة». انها تستعد لإنتاج كتلة من الحضارة. وفي خاتمة كتابه «الإنسان العاري» (1970) يقول: «يتوجّب على الإنسان أن يعيش ويُناضل، أن يُفكّر ويعتقد، أن يملك الجرأة من دون أن يفقد يقينه بأنّه لم يكن موجوداً في السابق على الأرض وأنه لن يبقى عليها بعد رحيله الحتمي عن كوكب هو أيضاً زائل، بأفراحه وأتراحه وهمومه وآماله وأعماله التي ستُصبح كأنها لم تكن موجودة يوماً». وأكد معلوف أن «هذه النظرة هي في الغالب نظرة تعكس الجانب القلِق من شخصية ستروس. وإنما هذا لم يمنعه أبداً من أن يهنأ بلحظات هادئة إلى جانب المقرّبين منه في ممتلكاته الواسعة في البورغندي. هذا المكان الذي طالما فضّله على غيره. مكان بعيد عن العالم. مكان له هيبة لا تكفّ عن النموّ. عندما نتكلّم عن كلود ليفي-ستروس يتعيّن علينا ذكر كلّ المفكرين الكبار الذين عرفهم، الذين أثّر فيهم وتأثّر بهم. الذين صادقهم وانتقدوه وانتقدهم، وبقسوة أحياناً. من بروديل إلى فوكو، ومن سيزير إلى سارتر. عندما نُنعم النظر في صوره الشخصية الموجودة في الكثير من أغلفة كُتب خُصصت له، نجد ذاك الشاب وهو في البرازيل. شاب بلحية سوداء ووجه دقيق ونظرة ثاقبة تختبئ وراء نظارات الأستاذ الذي كانه. شاب يحمل بيديه قرداً ويضمه إلى كتفه. وعندما نُحدّق في صور رمزية أخرى أُلتقطت له بعد أربعين عاماً من صور البرازيل تلك، والتي نُشرت أيضاً في الكثير من الكتب والمجلاّت، نجد الرجل ذاته. الوجه الدقيق نفسه. وإنما بلا اللحية. نظرته لم تتغير. والنظارات هي هي. إنما على كتفه طير من سلالة الغراب. هكذا كان زميلكم البارز. يبتسم بقلبه أكثر مما تفعل شفتاه. ومع أنّه لم يكن يشعر بتلك السعادة العارمة إلاّ عندما يتواجد في الغابة، بعيداً عن الحشود البشرية، مُحاطاً بأشجار عالية ونباتات كثيرة ومستعمرات من الفطر. وحتى عندما كان هنا، في وسطكم، لم يكن دائماً يشبه تلك الصورة القاسية والرزينة التي عرفناها عنه او رُسمت له. في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2009 غاب كلود ليفي ستروس عن زملائه وأصدقائه وعائلته وكلّ الذين أحبّوه. وبعد عام واحد فقط، احتُفل في فرنسا وخارجها بمئوية ليفي-ستروس. كان ما يُشبه دخوله إلى البنتايون وهو على قيد الحياة. إلى هنا، لم يكن أحد من زملائكم قد اقترب من الخلود إلى هذا الحدّ». واختتم صاحب «صخرة طانيوس» حديثه بالقول: «سيداتي سادتي في الأكاديمية... عندما نحصل على شرف الدخول في قلب عائلة كما عائلتكم الكريمة، لا نأتي بأيادٍ فارغة. وإذا كان المدعوّ مشرقياً كما هي حالي، فيأتي بيدين مُحملتين. مع امتناني الكبير لفرنسا كما لبنان، أحضر معي كلّ ما منحني إيّاه هذان البلدان. جذوري، لغاتي، لهجتي، إداناتي، شكوكي، وأكثر من هذا كلّه حلمي في التناغم والتقدّم والتعايش. أحلامي اليوم يُساء إليها. جدار يرتفع في بلدان الشرق الأوسط في وجه العوالم الثقافية التي أطالب بها. هذا الجدار، لم أكن أنوي تجاوزه لأعبر من ضفّة إلى أخرى. جدار المقت هذا، جدار الكراهية بين أوروبيين وأفارقة وبين الغرب والإسلام وبين اليهود والعرب. طموحي هو هدمه. إزالته. محوه. هذا كان دائماً علّة حياتي، علّة كتابتي. هذا هو همّي وسأتابعه داخل مؤسستكم. تحت ظلّ حماية أسلافنا الكبار. تحت نظر ليفي- ستروس».