"خيرية العوامية" تحقق عوائد استثمارية تجاوزت 577 ألف ريال خلال 3 أشهر    الهيئة العامة لمجلس الشورى تعقد اجتماعها الرابع من أعمال السنة الأولى للدورة التاسعة    تدشين 3 عيادات تخصصية جديدة في مستشفى إرادة والصحة النفسية بالقصيم    شراكة إعلامية سعودية صينية تطلق برامج تنفيذية مع القطاعين العام والخاص    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    مقتل المسؤول الإعلامي في حزب الله اللبناني محمد عفيف في قصف إسرائيلي على بيروت    رئيس مجلس الشورى يرأس وفد السعودية في الاجتماع البرلماني بدورته ال 29 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في باكو    انتظام اكثر من 389 ألف طالب وطالبة في مدراس تعليم جازان    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يصل إلى البرازيل لترؤس وفد السعودية المشارك في قمة دول مجموعة ال20    "سعود الطبية" تستقبل 750 طفلاً خديجًا خلال 2024م    فريق طبي ينجح في استخدام التقنيات الحديثة للتحكم بمستوى السكر في الدم    "وزارة السياحة": نسبة إشغال الفنادق في الرياض تجاوزت 95%    "دار وإعمار" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب جلوبال" بتوقيعها اتفاقياتٍ تمويليةٍ وسط إقبالٍ واسعٍ على جناحها    نمو سجلات الشركات 68% خلال 20 شهراً منذ سريان نظام الشركات الجديد    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    نفاد تذاكر مواجهة إندونيسيا والسعودية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    بيولي ينتظر الدوليين قبل موقعة القادسية    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    أهم باب للسعادة والتوفيق    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    أشبال الأخضر يجتازون الكويت في البطولة العربية الثانية    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    مشاركة مميزة في "سيتي سكيب".. "المربع الجديد".. تحقيق الجودة ومفهوم "المدن الذكية"    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    «الجودة» في عصر التقنيات المتقدمة !    ألوان الأرصفة ودلالاتها    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ الدراسات الإسلامية في اليابان : الشرق الجديد ينظر إلى الشرق القديم
نشر في الحياة يوم 02 - 02 - 1999

شهدت الدراسات الإسلامية في العالم تغيراً جوهرياً ونقدياً عميقاً في محتواها ومنحاها ومسوغاتها بعد صدور كتاب ادوارد سعيد الرائد واللاذع "الاستشراق" عام 1978. فقد جمع سعيد في كتابه حصيلة أبحاث تاريخية ومنهجية عديدة سابقة وصهرها في هيكل نقدي محكم أوضح من خلاله كيف أن تجميع المعلومات عن الشرق وتحليلها وفرزها من أجل تمثيل هذا الشرق لم يتم خارج المنظومة المعرفية الأوروبية، وإنما كان جزءاً منها، فاعلاً ومنفعلاً، سبباً ونتيجة في آن واحد. فقد بُنيت دراسات الاستشراق الأوروبية - والأميركية لاحقاً - على خلفية سياسية - ثقافية عنصرية وكان اهتمام الغرب بالشرق يخفي وراءه أكثر من مجرد الفضول وحب الاستطلاع البريئين. ولهذا تاريخ طويق وعريق. فأوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أوروبا عصر التنوير، أوروبا عصر الفتوحات والاستكشافات والاستعمار، التي وعت ذاتها وأدركت قوتها، أنتجت للعالم تاريخاً متعالياً وضعت نفسها في سدته ورتبت الحضارات الأخرى وفقاً لفهمها لنفسها ولعلاقتها بالآخر الشرقي، والإسلامي منه على وجه التحديد، ولتمثيلها لهذه العلاقة.
وقد ارتبط هذا النموذج السعيدي للاستشراق بالغرب الأوروبي، الفرنسي والإنكليزي خاصة، وبتطور الفتوحات الاستعمارية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حتى أن العديد من النقاد أخذوا عليه إهماله للدراسات الاستشراقية الأوروبية الأخرى، وبخاصة منها تلك التي ظهرت في بلاد لم يكن لها مستعمرات في بلاد إسلامية كألمانيا والسويد واسبانيا تبرر اهتمامها العلمي والأدبي والفني والمعلوماتي بالشرق الإسلامي. ولكن أحداً ممن انتقد تمثيل سعيد للاستشراق لم يلتفت شرقاً الى بلاد الشمس المشرقة، اليابان، ليرى فيما إذا كانت الدراسات الإستشراقية أحادية الاتجاه أي أنها تنطلق من الغرب لتصب في الشرق - جغرافياً على الأقل - أم أنها ثنائية الاتجاه، وربما أكثر، ومنفصلة عن موقع الدارس والمدروس في التراتبية الجغرافية أو الجيوبوليتكية العالمية.
وقد أتيحت لي الفرصة أخيراً لكي أسبر هذا السؤال بنفسي خلال زيارة علمية لليابان قابلت فيها عمداء الدراسات الإسلامية في البلاد واطلعت على بعض نشاطاتهم الأكاديمية وأعمالهم. وسأسارع لكي أعترف بأني كنت قبل زيارتي لا أعرف شيئاً تقريباً عن النشاطات الأكاديمية اليابانية - الاستشراقية أو غيرها - وأني فوجئت بما شاهدته من تنوع اهتمامات المستشرقين والمستعربين اليابانيين واهتمامات طلابهم. ولكني فوجئت أكثر ما فوجئت بالمناهج اليابانية في دراسات العالم الإسلامي المغايرة بعض الشيء لما عهدناه في مثيلاتها الأوروبية، وبالتاريخ الخاص والمميز للاهتمام الياباني البحثي بالشرق الإسلامي: تاريخاً يتطلب منا اعادة صياغة بعض الفرضيات المتعلقة بالدراسات الاستشراقية وبأهدافها من جهة، ويسلط بعض الضوء على الأسلوب الياباني في مقاربة أي نشاط باحث ومنقب، خصوصاً ذلك الفرع منه الذي يحمل في طياته بعداً أنطولوجياً يشي بمحاولة تقارب وتوالف بين الشرق المشرق والناهض ومسماه القديم عريق التاريخ ومنهك الحاضر.
لا أحد يعرف بالضبط متى بدأ الاهتمام الياباني بالشرق الإسلامي، ولكن المرجح أنه كان في بداياته صدىً خافتاً لمعرفة الصين بذلك الشرق الإسلامي نفسه، بما أن اليابان اعتمدت لفترة طويلة في اتصالها بالعالم الخارجي على جارتها الأكبر والأعرق ثقافة عبر بحر الصين والمتربعة على جزء هائل من أسيا يحاذي حدود العالم الإسلامي. ثم جاء الملاحون الأوروبيون من برتغال واسبان وهولنديون اعتباراً من القرن السادس عشر لكي يساهموا بوصل اليابان بالعالم الخارجي وبفك الارتباط بينها وبين الصين على الأقل لفترة قصيرة انتهت بنهاية الانفتاح الياباني النسبي مع نهاية القرن السابع عشر. فخلال القرنين اللاحقين اللذين عرفا بنظام الساكوكو، أو العزلة، تفاوت اطلاع اليابان على العالم بين الموقف الانعزالي الرسمي الشديد الحدة ورغبة بعض المثقفين القلائل بمعرفة كيف يسير العالم، بما فيه تلك الدول الإسلامية المهمة في تلك الحقبة كالهند المغولية وايران الصفوية والدولة العثمانية. ولكن البداية المدونة لاتصال اليابان بالشرق الإسلامي، خصوصاً العربي منه، تعود لمنتصف القرن التاسع عشر وهي الفترة التي تعرف في اليابان بفترة اعادة الإمبراطور ميجي ابتداء من عام 1868، أو بالأحرى فترة الانفتاح على الغرب ومحاولة اللحاق به عسكرياً واقتصادياً وصناعياً إثر التحدي المخزي الذي مثله وصول الأسطول الأميركي بقيادة الكومودور ماثيو بيري عام 1853 وإجباره اليابان على فتح أسواقها للبضائع الغربية وفضائها للأفكار الغربية وهو التحدي الذي يحمل حتى اليوم اسم "الكورو فونة" أي "السفن السوداء" مما يدل على شدة تأثيره على المخيلة اليابانية الوطنية.
بداية الاهتمام بالشرق الإسلامي هذه تستحق منا وقفة لما تمثله من منحى مختلف عن الاهتمام الأوروبي الاستشراقي، وما تحمله من أفكار جديدة وتحررية وفرص تواصل وتفاهم واعدة بدءاً ولكنها ضائعة لاحقاً. هذا الاهتمام لا يمكن وصفه بأقل من اكتشاف بالصدفة تقريباً تبعه تركيز بحثي وعلمي على مصر الخديوية لمحاولة تحليل وفهم مسارها التجديدي ونجاحاته وفشله النهائي الذي رسخه الاحتلال البريطاني عام 1882 بعد عقود من التخبط السياسي والاقتصادي والمالي خصوصاً. ففي الأعوام التي تلك اعادة ميجي كانت اليابان الرسمية تحاول جاهدة مراجعة الاتفاقات الديبلوماسية والاقتصادية المجحفة التي أجبرت على توقيعها مع القوى الغربية بعد الكورو فونة. وكانت اليابان كذلك تحاول تطبيق نظام "العصرنة"، الذي فهم في ذلك الحين على أنه هو نفسه نظام "الغربنة"، على اقتصادها ونظامها التعليمي والانتاجي والسياسي وحتى المعماري. وقدمت لها مصر الخديوية نموذجاً آخر لدولة مرت بتجارب مشابهة وحاولت اتباع المنحيين نفسهما: الغربنة والعصرنة كوجهين لنفس الاتجاه، في محاولتها مقارعة الغرب بكل الوسائل الممكنة من ديبلوماسية وسياسية وعسكرية حتى، وإن فشلت في النهاية.
أول الدراسات اليابانية التي تناولت الحالة المصرية جاءت على شكل تقرير نشره رجل الأعمال شيبوساوا إيشيي عام 1871 عن زيارته لأوروبا مع وفد رسمي ياباني عام 1867. ففي تقريره الذي عنونه كوسيي جيكي مذكرات عن رحلة غرباً، وصف شيبوساوا أعمال حفر قناة السويس وصف المعجب بالقدرة التنظيمية الهائلة خلف هذا المشروع الهندسي الضخم، ولكنه وجه لوماً مقذعاً لما وصفه بالتخلف المصري الذي لم يشاهده مباشرة ولكنه سمع عنه من مخبريه. أما المقاربة الثانية فقد كانت أكثر تعاطفاً مع مصر وأكثر الماماً بوضعها، وكانت كذلك مقاربة رائدة استشراقياً، وربما وحيدة، ولذلك فيا حبذا لو مولت إحدى الهيئات المهتمة بالعلاقات اليابانية - العربية ترجمة نتاجها للعربية أو للإنجليزية، صاحب المقاربة، شيبا شيرو، كان سكرتيراً مع وفد رسمي ياباني لأوروبا عندما أثارت مصر عرابي باشا ومصر بعد الاحتلال البريطاني اهتمامه، فكتب كتابين وقعهما بإسم مستعار، توكاي سانشي. أولهما رواية سياسية نشر القسم الأول منها عام 1885 والثاني عام 1897 تحت عنوان عاطفي كعادة تلك الأيام، كاجين نو كيغو لقاءات عاطفية مع سيدتين جميلتين، تناول فيها صراع الأمم المضطهدة مع المستعمرين وتحدث بإسهاب عن ثورة عرابي باشا الذي قابله وتحادث معه مطولاً في منفاه عند توقف باخرته في كولومبو في سيلان وهي في طريقها الى أوروبا، مما دفع بالرواية لتصبح من أكثر الكتب رواجاً في زمنها. وثانيهما "تاريخ مصر الحديث"، دراسة أكثر رصانة ولو أنها حافظت على المشاعر المتعاطفة مع صراع مصر لدفع خطر التهديد الأوروبي ولتحديث جيشها واقتصادها.
هذا التعاطف الناشىء مع الأمم المستعمرة تغير بسرعة إثر تحول اليابان نفسها من دولة مستضعفة الى دولة مرهوبة الجانب بعد انتصارها في حربها مع روسيا عام 1904 - 1905، ذلك الانتصار الذي لاقى تأييداً هائلاً في الدول الشرقية كتركيا ومصر تمثل في قصائد مديح من أمثال مصطفى كامل وحافظ ابراهيم. ولكن اليابان نفسها كانت في طريقها الى التحول الى دولة مستعمرة إثر احتلالها لكوريا عام 1910 مما دفع سياسييها ومنظريها للبحث عن دروس يستفيدون منها من التجارب الاستعمارية الأوروبية. وكان واحد من أول مظاهر هذا التحول على صعيد الاهتمام بالشرق الإسلامي ماضٍ وصارخ منذ البداية عندما مولت جمعية حضارة اليابان الكبرى والإسم نفسه يشي بالاتجاه عام 1911 ترجمة كتاب لورد كرومر "مصر الحديثة" الى اليابانية، ذلك الكتاب الوقح الذي حلله ادوارد سعيد في "الاستشراق" تحليلاً يظهر نزعة الكاتب العنصرية شديدة التورم على الرغم من محاولته اخفائها تحت ستار من الموضوعية الكاذبة. ولكن المقدمة اليابانية تهمل كل ذلك الانحياز لتركز على الوسائل الفعالة والحديثة التي يقترحها كرومر لسوس الشعوب المستعمرة وتطبيعها لخدمة اقتصاد الدول المستعمرة بكسر الميم مقدمة بذلك لساسة اليابان نموذجاً ناجحاً من أجل استكمال سيطرتهم على كوريا.
ولم تكن تلك هي المناسبة الوحيدة التي حصي فيها كرومر بالإعجاب كحاكم استعماري ناجح. فالمديح له ولسياساته في مصر واضح في العديد من المؤلفات اليابانية التي تعود للفترة نفسها والتي اهتمت بمصر المستَعمَرة كمثال للمستعمرة الناجحة، ككتابي فوسازو كاتو "مصر كنموذج للسياسة الاستعمارية" 1905 وماساجي إنوي "الحكم البريطاني في مصر" 1906، أو تلك الدراسات المماثلة التي نظرت بعين الناقد المعجب للممارسات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر كنموذج إداري ناجح أخر، كما في كتاب "الوضع العام في الجزائر" 1923 الذي أصدرته الحكومة العامة في كوريا، وهو الرسم التي أطلقته الإدارة الاستعمارية اليابانية على نفسها. وقد جاءت هذه المؤلفات تماماً على النقيض من الاهتمام السابق بمصر الحديثة كمثال على التحديث والتغريب ومقاومة التدخل الأوروبي.
ولكن الدراسات الأكاديمية، كما بيّن سعيد وقبله ميشيل فوكو أيضاً، ليست بعيدة عن النبض السياسي وان تسترت بستار الموضوعية والتجرد والبحث العلمي. وما حالة الدراسات الاستشراقية في يابان بداية القرن العشرين إلا نموذج حدّي من ذلك الارتباط المباشر بين الأكاديميا والسياسة في العالم المعاصر: أنى مالت السياسة والمصالح الاستراتيجية للبلاد نجد البحث العلمي يميل وراءها. وليس في ذلك أي غرابة، خصوصاً في بلد منظم ومركزي الإدارة والقرار كيابان النصف الأول من القرن الحالي - وهي الخاصية التي ما تزال بعض ظواهرها ظاهرة في اليابان حتى اليوم - فهيئات التمويل الحكومية هي التي تقرر في نهاية المطاف أي اتجاه للبحث يستحق الدعم وبالتالي الانتشار والازدهار وأيها سيترك لوحده مما يؤدي في غالبية الأحوال لضموره وأحياناً لزواله عن الساحة. ولعلي أضرب مثالاً هنا من تاريخنا الإسلامي الوسيط بين عالمية هذه الظاهرة وقدمها، فبعد ظهور المدرسة الممولة والموجهة من الطبقة الحاكمة في العصر السلجوقي بداية القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي نجد أن بعض فروع البحث والدراسة التي ازدهرت في العهد الإسلامي الكلاسيكي - خصوصاً الفلسفة والجدل والكلام ولكن أيضاً الفلك والهندسة - اضمحلت، بغض النظر عن شعبيتها بين العلماء والمتعلمين. فالسلطة السلجوقية السنية، وخصوصاً داهيتها المنظم والمدبر نظام الملك الطوسي صاحب المدارس النظامية في مختلف مدن العالم الإسلامي الشرقية، دعمت الدراسات الفقهية والقرآنية واللغوية والحديث والتصوف لاحقاً، ولكنها تجنبت تمويل ورعاية الدراسات الفلسفية والعقلية بشكل عام لأسباب إيديولوجية واستراتيجية وسياسية أكثر منها دينية أو أكاديمية.
والحال أن الدراسات اليابانية عن العالم الإسلامي والعربي تتابعت بوتيرة أعلى وتنوعت في اتجاهاتها بعد تربع اليابان على سدة الزعامة في آسيا إثر خروجها منتصرة من الحرب العالمية الأولى التي دخلتها كحليفة للحلفاء. وازداد التغلغل الياباني في آسيا حدة وانتشاراً أثر تلك الحرب وصارت معظم مناطق شرق آسيا مناطق نفوذ يابانية بموافقة أوروبية، مقابل سكوت اليابان عن تقسيم غرب آسيا وشمال أفريقيا بين الدول الأوروبية المنتصرة، فرنسا وانجلترا. وبلغ الاهتمام الياباني بالعالم الإسلامي ذروته في السنين الأولى لعقد الثلاثينات بعد أن تنبهت السلطات الحاكمة في المستعمرات اليابانية الآسيوية لفائدة البحوث الاجتماعية عن الأقليات المسلمة في المناطق الخاضعة لها في سبيل احكام سيطرتها على تلك المناطق وخلق مجموعات من المؤيدين لوجودها عن طريق اشراكهم بعمليات التطوير والتصنيع والتحديث ضمن المبدأ المعروف بمخطط "منطقة الازدهار المشترك" في مواجهة التغلغل البريطاني بخاصة في آسيا. ولكن لم تكن كل الدراسات اليابانية الاستشراقية ذات توجه محض نفعي أو استراتيجي مباشر. فلهذه الفترة بالذات تعود أوائل الدراسات اليابانية عن تاريخ وحضارة وآداب العالم الإسلامي. فأول ترجمة للقرآن الكريم الى اليابانية تعود لعام 1920، تلاها بعد ثلاث سنوات أول سيرة جدية للرسول بقلم الكاتب نفسه "كينئيشي ساكاموتو". وبعد ذلك نجد أول كتاب مستفيض عن الإسلام كدين وكحضارة بقلم الكاتب "كامي سيجاوا" الذي أظهر في مقدمته إدراكاً سابقاً لعصره للأخطاء التي وقعت فيها الدراسات الغربية الاستشراقية أو التي ارتكبتها عمداً ونبه الى ضرورة عودة البحاثة اليابانيين الى مظان المصادر الإسلامية العربية وغيرها في سبيل التعرف على وجهات النظر الإسلامية نفسها من دون وسيط يشوهها.
في هذه الفترة بالذات ظهر أول كاتب ياباني مسلم، "الحاج عمر ميتسوتارو ياماوكو" 1880 - 1959، واحد من أكثر اليابانيين الدارسين للإسلام أهمية وأصالة، ولو أنه مع الأسف لم يلق لا في بلاد ولادته ونشأته ولا في بلاد تحوله الروحي التقدير اللائق. بدأت قصة ياماوكو مع الإسلام عام 1909 إثر تعرفه بالشيخ عبد الرشيد ابراهيم، المسلم التتاري البشكيري من قازان، الذي لجأ الى اليابان لطلب مساعدتها الشعب التتري في نضاله ضد الاستعمار الروسي وكتب كتاباً عن مسعاه يتبين منه كيف تحمست الشعوب الأسيوية المقهورة لانتصار اليابان الشرقية على روسيا القيصرية الغربية. بعد تعرفه بالشيخ عبد الرشيد غادر ياماوكو اليابان بهدف زيارة مكة وأسلم في بومباي في الهند بطريقه الى بلاد العرب. ولكن ما بدأ على الأغلب كوسيلة للوصول الى مكة المبتغاة تحول الى عقيدة أثمرت العديد من الكتب، أولها كتاب "رحلتي في بلاد العرب، أرض العجائب في العالم" الذي نشره في طوكيو إثر عودته سالماً غانماً من حجه عام 1912 حيث لاقته الجماهير المسلمة بالترحيب في مكة والمدينة كأول مسلم ياباني وقابله وجهاء القوم بمن فيهم الشريف حسين بن علي. وتلاحقت بعد ذلك كتبه عن مغامراته في بلاد الإسلام، إذ أنه جال في العالم الإسلامي طويلاً بين 1920 و1927، وعن انطباعاته عن العقيدة الإسلامية التي أصبح هو نفسه أهم المنافحين عنها في اليابان وعن الصراع الإسلامي في سبيل التحرر من الاستعمار في آسيا فبلغت عدتها سبعة كتب نشرها بين 1912 و1936. ولم تخلُ أسفاره من مغامرات وحوادث غامضة إذ أنه مثلاً سجن في استنبول لمدة ستة أشهر عام 1936 بتهمة التجسس العسكري لصالح الحكومة اليابانية ولو أن مناصريه يؤكدون أن سبب سجنه الحقيقي هو تخوف السلطات الجهمهورية في تركيا من نشاطاته الإسلامية في صفوف الحركات الإسلامية المكروهة من الجمهوريين. ولا نعرف الكثير عن حياة الحاج ياماوكو بعد ذلك سوى أنه عاش في فقر مدقع في طوكيو إثر الحرب العالمية الثانية ولو أنه واظب على حضور اجتماعات جمعية الدراسات الإسلامية قبل أن يختفي في عام 1953. وانقطعت أخباره الى أن ظهر مقال عام 1960 بقلم إمام جامع أوساكا يعلن فيه أن الحاج ياماوكو توفي في عزلته عام 1959. ومن جملة ما خلّفه الحاج ياماوكو مسودات كتابين لم ينشرا ولا أدري محتواهما ولا أين هما ولو أن عنوانيهما مثيران وجديران باهتمام البحاثة العرب: الأول هو "العرب واليهود في فلسطين" والثاني هو "الاقتراح التقريري لحل المشكلة الفلسطينية".
توقفت مختلف أوجه النشاط البحثي في اليابان، ومن ضمنها الدراسات الإسلامية، بعد الهزيمة الكارثية التي منيت بها البلاد في الحرب العالمية الثانية. فأغلقت معاهد البحث الحكومية بحكم أنها مراكز دعاية واستخبار، وتقوقع الباحثون الباقون على أنفسهم وانصرفوا الى الدراسات التاريخية والأدبية المحضة لكي يزيلوا عن أنفسهم وصمة خدمة السلطة السياسية. ولم تعد الدراسات الإسلامية للانتعاش إلا مع عودة الأمة للإزدهار في منتصف الخمسينات مع نجاح برنامج اعادة الإعمار المكثف التي شارك فيه جميع اليابانيون. وازدادت وتيرة الاهتمام بعد حرب السويس عام 1956 وخروج مصر عبدالناصر من أزمتها من دون أن تضطر للتراجع عن قرار تأميم القناة. ولكن الاهتمام البحثي الحقيقي المدعوم بالتمويل الحكومي السخي لم يظهر إلا إثر حرب 6 تشرين الأول أكتوبر، 1973، والمقاطعة النفطية العربية. فاليابان من أكثر الدول المتقدمة اعتماداً على النفط العربي وكانت من أكثرها تضرراً بالمقاطعة العربية. وهذا ما حدا بالحكومة للاهتمام بدفع الدراسات الإسلامية في اليابان في مختلف المناحي والاتجاهات من أجل فهم أفضل للعالم الإسلامي الغني نفطياً واستثمارياً. وتقدمت الدراسات الإسلامية تقدماً هائلاً بحيث بلغ الباحثون في المعاهد اليابانية المتخصصة اليوم المئات 543 باحثاً متخصصاً عام 1996 وفقاً لتقرير مياجي، وهم ينشرون مئات الأبحاث سنوياً بمعدل 547 بحثاً في السنة بين 1980 - 1988 وفقاً لدراسة تورو ميورا في مختلف المواضيع التاريخية والأنتروبولوجية والاقتصادية والفنية واللغوية. ولكن ما يهمنا هنا هو ما يميز الدراسات الإسلامية في اليابان المعاصرة برمتها ويجعلها مختلفة عن معادلاتها الغربية أو عن الدراسات الإسلامية في البلاد الإسلامية نفسها من جهة وجديرة بالمتابعة والمساهمة الفعالة في العالم العربي من جهة أخرى.
أول معالم الاختلاف هو الجدية والمباشرة التي تحظى بها الدراسات الإسلامية اليوم من قبل الحكومة ممثلة بوزارة التعليم والعلوم والرياضة والثقافة في اليابان في حين أنها قد فقدت بعض الاهتمام في العالم الغربي أو بالأحرى تغيرت نوعية الاهتمام الرسمي الحكومي بها في أوروبا والولايات المتحدة لكي تتركز على واحد من اتجاهين بشكل عام: الاهتمام الأمني والاستراتيجي الآني المتمثل بالحفاظ على التبعية الاقتصادية والمالية والاستهلاكية للعالم الغربي من جهة ودحر كل محاولة للاحتجاج مسالمة كانت أم عنيفة، والاهتمام المتحفي من متحف الترتيبي والتبويبي والأكاديمي الجامد وغير المتفاعل مع الواقع الثقافي والاجتماعي الإسلامي. ففي اليابان، وعلى الرغم من الخلفية الاستراتيجية الرئيسة للاهتمام الحكومي والخاص بالعالم العربي والإسلامي هناك، على الأقل كما أتيح لي أن ألاحظ، توجه نحو محاولة فهم العالم الإسلامي بطريقة أفضل كشريك تجاري وكسوق وكذلك - وهذه هي النقطة المهمة - كشريك آسيوي له حضارته الخاصة المميزة. وقد انعكس هذا الاهتمام على التمويل الذي تحظى به الدراسات الإسلامية وعلى نوعية هذه الدراسات. فقد مولت وزارة التعليم مثلاً سلسلتين من المواسم الدراسية: الأول استمر من 1988 الى 1991 وكان عن العمران الإسلامي، تاريخه وتطبيقاته المختلفة، والثاني بدأ في نيسان من عام 1997 وسيستمر حتى آذار من عام 2002 وهو برنامج جد طموح لجمع وتبويب وتفسير ومقارنة كمية هائلة من قواعد المعلومات عن العالم الإسلامي ككل منذ ابتداء الإسلام وحتى اليوم. وقد كانت زيارتي لليابان من ضمن أولى نشاطات هذا الموسم البحثي التي ضمت مؤتمراً عن سلالات المماليك في التاريخ الإسلامي.
أما النقطة الثانية، فهي ملاحظة منهجية ومبدئية تعيدنا الى نقطة البداية في نقاشنا، أي العلاقة المعرفية بين الشرق والغرب أو الاستشراق، بالإضافة الى كونها تعكس القلق السيكولوجي والكينوني في اليابان المعاصرة النابع من احتمال انصهارها في بوتقة الحضارة الغربية وفقدانها لمقوماتها الثقافية الخاصة بسبب من اندماجها الناجح في كل مناحي الاقتصاد العولمي الصناعية والتكنولوجية والمعلوماتية والمالية الاستثمارية. ويتمثل هذا القلق على صعيد الدراسات الإسلامية الأكاديمي في تراوح موقف الدارس أي الباحث أو الباحثة اليابانيين وخلفهما الآلة البحثية اليابانية الهائلة من المدروس أي الإنسان المسلم بين البرودة والحياد واللامبالاة أو العداء والحذر وإحساس التفوق التي تطبع العديد من الأعمال الغربية عن العالم الإسلامي والشعور بالمشاركة في تراث آسيوي يضم في دفتيه الشرقين: الأوسط والأقصى في مواجهة حضارة غربية فرضت على الشرقين شرقيتهما كانعكاس لغربيتها ومغايرة لها. هذه المراوحة بين الموقفين ما زالت من دون أي حسم، وإن كانت العديد من الدلائل تشير الى أن اليابان الرسمية والأكاديمية على الأقل تسعى جاهدة لتجاوز الموقف المتباهي والمغرور والتقارب حضارياً ووجودياً مع العالم الإسلامي. وقد ظهرت بوادر هذا التقارب في الدراسات الإسلامية في اليابان في السنين الخمس الأخيرة خصوصاً من خلال سلسلتي المواسم الدراسية آنفتي الذكر. وبالطبع ما زال هناك الكثير أمام المهتمين من الطرفين لجعل التقارب عاماً واجتماعياً ولتجاوز المطبات والعودة الى تلك الروح التضافرية التضامنية التي ميزت المقاربات اليابانية الأولى للشرق الأوسط في نهاية القرن التاسع عشر. وكلي أمل أن تكون الآذان في الجامعات العربية والإسلامية صاغية.
* أستاذ مشارك لتاريخ العمارة، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T، الولايات المتحدة الأميركية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.