أثار نموذج النهوض الياباني اهتمام الكثير من الناس الذين عاصروا بداياته واستمر الاهتمام إلى هذا اليوم، وضمن الذين اهتموا به فئة من متغربي بلادنا الذين أرادوا أن يستدلوا بهذا النموذج على فائدة التعاون مع القوى الكبرى كالولاياتالمتحدة التي يعزى إليها الفضل في إنهاض اليابان بعد دمار الحرب الكبرى الثانية 1939- 1945 إلى درجة أن أحد هؤلاء كتب عن مآثر «الخضوع» حرفيا وأنه لا محالة سيؤدي لنا ما أداه لليابان من تقدم وازدهار. قد يكون من الصعب علينا أن نأخذ دعوة كهذه على محمل حسن النية في وقت نعاين فيه تكالب القوى الكبرى على احتلال بلادنا ونهب ثرواتها وتدمير منجزاتها وتقسيم كياناتها بما يوافق مصالح المستعمرين وحدهم دون أدنى اهتمام بمصالحنا وطموحاتنا وأحلامنا وكرامتنا، ثم يخرج علينا من يطالبنا في ساعة الشدة هذه بالخضوع والاستسلام أمام العدو، ومع ذلك سنناقش هذه الأطروحة على ظاهرها دون الدخول في النوايا الخفية التي قد لا يدركها بعض من يردد هذا الكلام لمجرد الانبهار نقول أولا أن أمتنا جربت بالفعل الخضوع للاحتلال زمنا طويلا رغم إرادتها وليست بحاجة لنصائح عن تجريب المجرب، فقد استعمرنا الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون وأخيرا الأمريكيون وهذه نماذج مما أسفر عنه الاستعمار احتل الإنجليز مصر ما يقارب سبعين عاما ابتداء من سنة 1882 وكان اللورد كرومر في زمنه الحاكم المطلق في البلاد، ولكنه بدلا من القيام بما يفرضه «عبء الرجل الأبيض» من جلب الحضارة «للمتخلفين» بما ينهض بحياتهم عموما، فإنه كان لا يتصور مصلحة مصر بمعزل عن مصلحة بريطانيا، لاعن طريق الأخوة والتكافؤ، ولكن عن طريق الإستتباع والذيلية، فما يناسب بريطانيا يناسب مصر رغما عنها، و»كرومر وحده هو الذي يحدد ما يعتبر من مصلحة الاقتصاد المصري ولهذا لم يهتم بقطاع التعليم لكي لا تفسد الأفكار التحررية المصريينحتى أنه لم يهتم بإعداد موظفين بدلا من الموظفين الاستعماريين البريطانيين وكان يفضل عدم تعليم المصريين على تعليمهم دون وجود وظائف لهم مما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، ولم يهتم بالقطاع الصناعي المصري بل إنه وضع ضرائب على الصناعات القطنية المصرية كي لا تنافس الصناعات البريطانية مما ساهم في ركودها واهتم بجعل مصر تزرع محصولا واحدا هو القطن لتزويد مصانع بريطانيا بالخامات على حساب بقية المحاصيل التي يعيش الناس عليها مثل الحبوب ممهدا بذلك «لجملة من المشكلات التي كانت مصر ستبتلى بها في القرن العشرين» واهتم بالقطاعين المالي والإداري لتمكين البلد من دفع ديونها للدائنين الأجانب، وكانت المنافسة الأوروبية وبخاصة الفرنسية تعمل عمل الرقيب على أعمال الإنجليز في مصر فتحفز الإنجاز لصالح الفرنسيين وتعطله لو اقتضت مصالحهم ذلك حتى لو كان في صالح أهالي البلاد من الكتاب نفسه ويلخص مؤرخ اقتصادي يرصد الاحتلال بمحاسنه ومساوئه بكل حياد بعيدا عن حق الأمم في تقرير مصيرها بقوله وهو يرد على من يتهم الإنجليز بتحطيم إنجازات محمد علي وخلفائه: «على الأكثر يمكن أن يقال أنه فيما عدا في المجال المالي والنقدي، فإن الحكم الإمبريالي البريطاني بمراعاته مصالحه الأنانية، لم يبذل أية محاولة جدية لإصلاح الضرر الذي وقع على البلاد على أيدي حكامها، بمن فيهم محمد علي، ولا أن يمنح مصر الدفعة الكبيرة نحو انطلاق صناعي حديث»مدخل إلى التاريخ الاقتصادي الحديث للشرق الأوسط فالخضوع لاحتلال الإنجليز لم يساهم في التقدم حتى باعتراف من يدافع عنهم أما الاحتلال الفرنسي للجزائر فقام بالفعل بإنجازات تطورية، ولكن من استفاد منها هم المهاجرون الأوروبيون الذين استوطنوا البلاد التي ألحقت بالبر الفرنسي، ويقول الباحث الاقتصادي المعروف شارل عيساوي وهو بالمناسبة لا يكن عداء للغرب: «إن تجربة شمال إفريقيا تظهر أن السيطرة الأجنبية المباشرة يمكن أن تقود إلى تطور كبير في الموارد بفوائد قليلة جدا للسكان الأصليين» ، ومن صور ذلك أنه في سنة 1945 كان عدد الطلاب الجزائريين في جامعة الجزائر 150 فقط من أصل خمسة آلاف مع أن المستعمرين الأوروبيين المستوطنين الجزائر لم تتعد نسبتهم 14% في أي وقت من الأوقات. أما الاحتلال الأمريكي الذي حل بالعراق فبدلا من تطويره على النموذج الياباني قام بتدمير إنجازات الدولة العراقية وإرجاع البلد إلى عصر ما قبل الصناعة فأصبح المواطن في دولة تضم أكبر احتياطي نفطي في العالم يقف في الطابور الطويل لملء سيارته بالوقود ولا يجد الكهرباء في بيته، فنعم الخضوع إذن ولا ننسى في سرد تجارب الاستعمار أن نعرج على ما جناه الفلسطينيون من فوائد الحضارة التي نجمت عن الاحتلال الصهيوني المدعوم بالطيف الغربي السياسي كله، فما أصابه من قتل وشتات ونهب ممتلكات ومصادرة أراض واعتقال آلاف لا ينفك عن الوعود التي بذلوها لهذا الشعب بالفائدة من الهجرة الصهيونية التي لن تؤلف أي خطر عليه بل ستزيد رفاهيته وسعادته بما سيجنيه من مجالب هذه الهجرة، والبؤس الذي يعيش فيه أهل فلسطين اليوم في الضفة المحتلة وغزة المحاصرة في غنى عن الشرح الذي يضيف لنا نموذجا يابانيا آخر في بلادنا هذا عن تجارب الخضوع للاحتلال ونتائج الاستعمار في بلادنا التي يطالبنا بعض كتاب المارينز بدخول دوامات جديدة من أفلام الرعب التي أحيانا الغرب بها، فماذا عن اليابان وكيف وصلت إلى ما هي عليه رغم هزيمة الحرب؟ نلاحظ أولا أنه ليس هناك إلا يابان واحدة، فمن ضمن شعوب كثيرة احتك بها الأمريكان كالسكان الأصليين من الهنود الحمر والأفارقة ودول أمريكا الوسطى والجنوبية ودول شرق آسيا الأخرى كالفلبين وفيتنام، إضافة لشعوبنا العربية والإسلامية، لم يخرج سوى اليابانيين بهذه النتيجة الباهرة رغم أن الأمريكان ملكوا نواصي الأمور في بلاد كثيرة مما يجعل اليابان في حكم الشاذ الذي يثبت قاعدة الاستغلال والتأخير وليس التقدم والتحضير، ومع ذلك ما سبب هذه الحالة الشاذة؟ إذ كما يلاحظ المؤرخ شارل عيساوي أنه ليس هناك دولة قامت بدور الرعاية الخيرية المستنيرة التي يقوم فيها المركز بتقديم العلم غير المتوفر للأهالي المحكومين حسب ما تقتضيه مصالحهم لا مصالحه ويقودهم نحو التطور والتقدم (ص 223)، فإذا كانت الدوافع الخيرية غائبة ولاشك في غيابها عند دولة إمبريالية كالولاياتالمتحدة، فما الذي أدى إلى الظاهرة اليابانية تحت الاحتلال؟. لقد بدأت مسيرة التحديث الياباني قبل فترة طويلة من الاحتلال الأمريكي وذلك منذ ستينات القرن التاسع عشر وبنت على المراحل السابقة لتخرج قوة إقليمية كبرى بل من دول العالم الإمبريالي العظمى ولها مطامع فيما جاورها ودخلت الحرب الكبرى الثانية على هذا الأساس، وكل من كتب عن تجربة التحديث الأولى أشار إلى موقع اليابان البعيد عن التدخلات الأوروبية بصفته الميزة التي ساعدت على اكتمال هذه التجربة دون إعاقة كالتي واجهتها تجارب التحديث في بلادنا بدءً من محمد علي باشا إلى اليوم، وكان السلطان عبد الحميد الثاني (1876- 1909) يتمنى وهو يقوم بتحديث دولة الخلافة العثمانية أن تتمتع دولته بالبعد عن مخالب أوروبا لمدة عشر سنوات على الأقل لتعيش في أمان واطمئنان مثل اليابانيين ولتحقق ما حققوه من تطور وتقدم بدلا من الإنفاق على إخماد دسائس الدول الكبرى وتاريخ هذا التصريح هو سنة 1902، وما زال الباحثون يؤكدون أهمية هذا البعد الجغرافي إلى يومنا هذا. يذكر الدكتور مسعود ظاهر في دراسته عن النهضة اليابانية المعاصرة أنه بعد نهاية الحرب الكبرى الثانية سنة 1945 ظلت سياسة الاحتلال الأمريكي في اليابان قائمة على أساس العقاب الصارم ضد اليابانيين بما فيها من قرارات تطهير وحل المؤسسات ومعاقبة العسكريين والإداريين بصفتهم مجرمي حرب إلى أن انقلبت هذه السياسة رأسا على عقب بعد الانتصارات التي حققها المد الشيوعي في الصين وكوريا ثم فيتنام وحاجة الأمريكان لوقف التوسع السوفييتي مما حول اليابان من العدو رقم واحد إلى الدولة الأكثر رعاية و»القاعدة الصلبة التي بنت عليها الإدارة الأمريكية الكثير من مخططاتها السياسية لمحاربة الشيوعية في منطقة جنوب وشرق آسيا ، وقد ترتب على ذلك تقديم الدعم الاقتصادي والمالي والحماية العسكرية، وفتح المجال أمام اليابانيين لاستيراد التقنية بالإضافة إلى إرسال بعثات علمية يابانية للدول الغربية وغير ذلك من إجراءات أحسن اليابانيون استغلالها لصالح مشروعهم وحاولوا قدر الإمكان تكييف الظروف لصالحه بما لا يقطعهم عن ماضيهم وشخصيتهم وفي نفس الوقت يحقق لهم التقدم المنشود بالاستفادة من طاقاتهم التي تراكمت في تجربة التحديث الأولى وتمكنوا من استعادة دورهم في السياسة العالمية بعد أن عاملتهم الولاياتالمتحدة خلافا لبقية سكان المستعمرات ولم تفرض عليهم إجراءات تؤدي إلى تغريبهم واستلاب شخصيتهم، وألغت القرارات الانتقامية، وحافظت على المؤسسة الإمبراطورية التي ترتبط بالكرامة اليابانية، ويجب أن نلاحظ تناقض كل هذه الأفعال مع ما تمارسه الولاياتالمتحدة مع بلادنا العربية والإسلامية، كل هذا رغم المنغصات التي تكدر اليابانيين كالوجود العسكري الأمريكي في بلادهم ومحاولات الأمريكان الإيقاع بينهم وبين جيرانهم ومحاولاتهم المستمرة إضعاف اليابان وعدم اعترافهم بالدور الياباني في نهضة بلاده واضطرار اليابان تمويل المغامرات العسكرية الأمريكية وغير ذلك، الأمر الذي يؤكد الجانب الأناني الأمريكي فيما حدث في اليابان وألمانيا بعد هزيمتهما في الحرب الكبرى وأن الخوف من المد الشيوعي الذي كان يدق أبواب العالم الرأسمالي بقوة وليس الخجل من الاحتلال هو الذي دفع الأمريكان للتخفيف من وطأتهم على اليابانيين والألمان، وإذا كان الأمريكان والأوروبيون قد ضاقوا بالمنافسة اليابانية الاقتصادية فإننا لن ندخل عالم النبوءات والخيال المضخم عن احتمالات الصدام بينهم رغم وضوح محاولات الغرب إضعاف اليابان بالإيقاع بينها وبين محيطها، ص 409 و155، أو بالضغوط على حلفائها من النمور الآسيوية لإضعافها مما يشبه ما مارسه الغرب تجاه الإتحاد السوفييتي في السابق إلى أن سقط وتلاشى ولكننا نتساءل: هل سيعمد الغرب إلى تكرار التجربة التي انتهت به إلى الصداع الياباني فيعمد إلى تقوية كيان عربي إسلامي خاصة في زمن الرعب من «الخطر الإسلامي» وبحث الغرب عمن يحميه منه؟؟ بكلمة السر في نظرة الحضارة الغربية إلى سلوك الإنسان في الحياة، أي «المنفعة»، نحل لغز السياسة الأمريكية في كل مكان: منفعتهم قضت إبادة الهنود الحمر للحصول على أراضيهم وثرواتها فأبادوهم ولم يطوروهم على النموذج الياباني، وتطور الاستغلال إلى أشكال جديدة فاقتضت المصالح الجديدة «إعادة» العبيد السابقين إلى إفريقيا ثانية وإنشاء كيان لهم يكون قاعدة للنفوذ الأمريكي في غرب القارة في مواجهة نفوذ الأوروبيين، ولم تتطور إفريقيا على النموذج الياباني في البداية بل استنفدت قواها، ولم تصبح أي من قواعد الأمريكيين والأوروبيين الجديدة: ليبيريا وسيراليون وساحل العاج، يابانا أخرى رغم اتخاذها قواعد للغربيين وحاجتهم إليها، ، وهاهي الفلبين لم تتطور على النموذج الياباني رغم قربها من اليابان ولم تبرز إلا في تصدير العمالة الرخيصة الباحثة عن لقمة العيش... إلى آخر التجارب المريرة التي ذاقتها الشعوب المسكينة ولم تحصل على ما حصل عليه اليابانيون نتيجة ظرف طارئ لا يتكرر كثيرا في التاريخ ولا يمكن أن نحكم على تجارب الاستعمار به وحده، أما نحن فإن الأمريكيين والغرب من خلفهم لا يخفون نوايا التخلف تجاهنا بالإعلان المستمر والإصرار على تفوق الكيان الصهيوني على الدول العربية مجتمعة، أما الدولة القطرية المنكفئة على نفسها والمهملة محيطها والمسالمة عدوها فلن يمنحها الأمريكان والصهاينة أكثر مما منحت الأنظمة المستسلمة على مدار أكثر من ثلاثين عاما من عملية السلام، وهي عطايا لا تعدو مساعدات مشروطة أو غذاء ممنوعا من الزراعة أومياها ملوثة أو أمراضا معدية أو المن على هذه الأنظمة بسرقة ثروات بلادها كالغاز والنفط، المهم أن النتيجة بعد عشرات السنين أبعد ما تكون عن التجربة اليابانية رغم حصول هذه الأنظمة على أعلى درجات القبول أمريكيا وصهيونيا، أي ليس بالإمكان الأمريكي أبدع مما كان، هذا إذا افترضنا جواز تخلي العرب والمسلمين عن حقوقهم في فلسطين وتركهم جميعا شعب فلسطين وأن لا يتحمس أي فرد منهم لمساعدته مما قد يجر الشعب كله انتصارا له كما حدث في مصر وتركيا، أي أن فصل الحلقات عن بعضها مستحيل رغم حدود ونواطير سايكس بيكو، وعلى من يحلمون بالهبات الحضارية الصهيونية أن يشاهدوا مصير الشعب الفلسطيني الذي كان الأسرع في دخول الجنة العبرية، والأفضل أن نلتفت لتطوير نموذجنا الخاص وفق حاجاتنا الخاصة وليس الانتظار لأن نعيش في ظل أحد من أصحاب الظلال الثقيلة أمريكيا كان أم أوروبيا أم صهيونيا.