اعتاد وسطاء "المجتمع الدولي" في شأن مشاكل البلقان ان يكثروا الحديث عن مساعيهم من أجل السلام الى درجة المزايدة في ما بينهم، ما يمثل ادعاء لأنفسهم اكثر من تعلق الأمر بأصحاب القضية من الصرب والألبان، لأن المشكلة لا تحسمها ألفاظ معنوية اثبتت التجارب أنها لا تعني شيئاً عندما تترجم الى أرض الواقع. جميل روفائيل يلقي الأضواء: أصبحت كلمة "السلام" ممقوتة في منطقة البلقان بعدما جلبت صنوف المعاناة لسكانها ولم تحقق هدف "في الناس المسرة" فباسم هذه الكلمة دمروا ألفة يوغوسلافيا السابقة وحولوا شعوبها وقومياتها الى قبائل تلاحق الأخذ بالثأر، وبدأوا عمل "المعاول" من سلوفينيا، وجردوا نصف مليون صربي من ديارهم في كرواتيا، وطردوا أكثر من مليون مسلم من جمهورية البوسنة - الهرسك التي حولوها الى كيانين لم يزد ما أنجز من حل بينهما عن هدنة تنتظر رحيل قوات حلف شمال الاطلسي التي فرضت الحالة الراهنة لتعود الحرب. وهو ما يجري الآن ايضاً في رامبوييه حول كوسوفو وصربيا، بينما تنتظر جمهوريتا الجبل الأسود ومقدونيا دورهما، ناهيك عما فعلته "المافيات" التي شكلت وأغدقت عليها أموال المخابرات لتدمير اقتصاد بلغاريا ورومانيا والبانيا، والى حد بات أهل المنطقة "يترحمون على الشيوعية ويلعنون الديموقراطية". ويتساءل أهل البلقان، عن الحكمة من حجز الصرب والألبان في قلعة رامبوييه الحصينة، أسوة بما جرى للمسلمين والصرب والكروات في قاعدة دايتون العسكرية، ولماذا لم تتم الأمور حيث الأحداث، وتنعقد مؤتمرات الأزمات في البوسنة أو كوسوفو أو بأبعد الأمكان في مقدونيا، ويتواضع قضاة "جرائم الحرب" فينقلون مقر محكمتهم من لاهاي الى ساراييفو أو زغرب أو بلغراد، ليجعلوا "قبائل البلقان" تدرك ان "نزاعاتها" تحل في دواوين "العشيرة" وليس في "قلاع السادة". ويمثل هذا التقويم الذي يسمع اليوم في أنحاء البلقان، الحقيقة التي يبصرها كل من يحيا داخل "معمعة" هذه المنطقة، حيث لا يدوي من خارجها غير النفاق والتهديدات الجوفاء والعبارات الخطابية حول "القصف والتأديب والترويض والمثول أمام محكمة لاهاي والتباهي بدفع الرشاوى لبث الفوضى وتغيير الحكام وزيادة الناس سعيرا". وإزاء هذا الواقع الغريب، تجنب الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش الذهاب الى رامبوييه، بينما أقدم ابراهيم روغوفا على تسليم قيادة الوفد الألباني الى كل من المتشدد رجب جوسيا والقيادي في جيش تحرير كوسوفو هاشم تاتشي بعدما أصبح دوره هامشياً لأن المعارضين لنهجه المعتدل شكلوا غالبية أعضاء الوفد الألباني حسب تمثيل الفئات الالبانية الذي اختاره الوسطاء الاميركيون والأوروبيون. وتقوم أزمة كوسوفو، كما هي الحال في أي دولة بلقانية أخرى، على انعدام أجواء الثقة بين نظام القومية الحاكمة والأقلية التي تشكل أكثرية السكان في اقليم أو منطقة من الدولة، وعدم وجود حل دولي لحقوق الأقليات واضح المعالم يضع انهاء المشاكل بجدية في حسبانه قبل التفكير في المصالح وجني الأرباح من الولوج في خضم التغييرات التي طرأت في المنطقة. وتتركز الخطة التي يتم بموجبها ما سمي "بمفاو ضات رامبوييه غير المباشرة" على حلول مبهمة يمكن لكل طرف ممن تخصه محلياً أو وسيطاً، وحتى المحلل الاعلامي ان يوجهها في السبيل الذي يشاء، لأنها تقوم على فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، لا تحدد ما بعدها، ما يعني ان الطرفين بدل ان يتجها نحو بناء الثقة والحياة المشتركة والمصلحة التي ينبغي ان تسود ابناء البلد الواحد، فإنهما يعتبران هذه الفترة مجالاً لتقوية الهدف الذي يسعى اليه كل منهما على أرض الواقع، الألبان باتجاه الانسلاخ عن صربيا ويوغوسلافيا وتحقيق الاستقلال في اعقابها وصولاً الى الاتحاد مع البانيا، والصرب سيتحركون في مجال الاستفادة من هذه الفترة في اللعب بالواقع الديموغرافي محلياً وترقب التبدلات الدولية التي ربما تكون في صالحهم خصوصاً في روسيا، وفرض الهيمنة على كل ما في كوسوفو من أرض وسكان بالشكل الذي يناسبهم. ويسود منطقة البلقان تقويم مفاده ان هذه الخطة "الموقتة" لا يمكن ان تقود الى حل دائم لأن الفراغ الذي يكمن في داخلها، سيؤدي الى استخدام القوة بكافة أنواعها المتاحة، لتقرير الأمور التي بقيت من دون حسم، وهي الخاصة بمستقبل الأقليم التي تشكل اساس الصراع، وكل ما يقال في عداها من مسائل انسانية واجتماعية وثقافية ليس بمقدورها ان تقنع اصحاب القضية بالانصراف الى تبني الثقة المجردة التي يسفر عنها التفاوض بروية وصفاء نية، نحو ترتيبات الحل المقرر اطاره العام، وهو حسب المفهوم المعلن "الحكم الذاتي" لأن وضع تفاصيل هذا الحكم، وان كانت مضنية فلن تصبح مستحيلة. واللافت ان كبير الوسطاء الدوليين الاميركي كريستوفر هيل، وصف الصرب والألبان بأنهم "يتلاعبون بالأمور وكأنهم في القرن الحادي والعشرين، بينما يفكرون حسب ما كانت عليه الاحوال في القرن التاسع عشر"، وهو تناسى ان الخطة التي "هندسها" هي التي فتحت الأبواب لهذا الوضع، لأنه كيف يمكن ان يفكر الصرب والألبان بغير هذا المجال وهم لا يعلمون مصيرهم المعلق بكامله وفق النمط الذي "يفصله" غيرهم. ومهما قيل ويقال عن "سفينة" رامبوييه التي يقودها ملاحون دوليون مختلفو المشارب والأهواء، فإن اجتيازها "العاصفة" ونجاتها من الغرق لن يكون أفضل مما شاهدناه من نتائج "اتفاق دايتون"، لأن ما ينتج عن رامبوييه لا يمكن ان يمكث في الأرض كي ينفع الناس، ما لم يتخل الوسطاء عن أسلوب "سجن" المتفاوضين حتى الخضوع والاستسلام، وان يحكموا بوضوح ويدونوا ما يريدونه في كوسوفو من دون مراوغة أو تأجيل الى القرن الحادي والعشرين.