عرّفت الموسوعات السياسية الأمة فقالت "أمة Nation مجموعة بشرية يكون تآلفها وتجانسها القومي عبر مراحل تاريخية تحققت خلالها لغة مشتركة وتاريخ وتراث ثقافي ومعنوي وتكوين نفسي مشترك والعيش على أرض واحدة ومصالح اقتصادية مشتركة مما يؤدي الى احساس بشخصية قومية، وتطلعات ومصالح قومية موحدة ومستقلة. ومع هذا فهذه الشروط ليست نهائية ولا قاطعة فهناك أمم لا تتوفر فيها كل هذه الشروط وهناك شعوب توفرت فيها ولم تبرز الى حيّز الوجود كأمم بل جماعات قومية داخل أمم متفرقة أخرى موسوعة السياسة. ج 1 ص 305. إذا دققنا في التعريف السابق لنرى مدى مواءمته للأمة الإسلامية، ومدى مناسبته لها لوجدناه منطبقاً عليها، متحققاً فيها، وقد جاء التجانس والاشتراك والوحدة في الثقافة والتراث واللغة والمصالح والتكوين النفسي جاء كل ذلك من الوحدة الثقافية التي كانت تقوم على الدعامتين الرئيسيتين: القرآن والسنّة اللتين أعطتا المسلمين تصوراً واحداً عن الكون والحياة والإنسان، ورسمتا لهم أهدافاً واحدة تزاوج بين التطلع الى الآخرة وإعمار الدنيا، وحددتا لهم قيماً واحدة تقوم على التطهّر والتزكّي، وأوجبتا عليهم واجبات واحدة تعود على الفرد والمجتمع بالخير في الدنيا قبل الآخرة، وملأتا قلوبهم بتعظيم الله ورجائه وحبّه مما أورثهم غنىً نفسياً وامتلاءً معنوياً تجسد في أوقاف بلغت ثلث ثروة العالم الإسلامي، ووجهتا عقولهم الى التفكر والتدبر والأخذ بالتجريب، والابتعاد عن الأوهام والظنون مما جعلهم يبتكرون مخترعات تغني الحياة البشرية في مختلف العلوم والمجالات: كالفيزياء والكيمياء والميكانيكا والرياضيات والفلك والطب والأدوية والصناعة والزراعة إلخ... إنّ وعي علماء الأمة وقادتها أهمية الوحدة الثقافية في استمرارية وحدة الأمة جعلهم يتوجهون الى دعامتي الوحدة الثقافية الأساسية: القرآن والسنّة، فيحرصون على جمعهما، ويبتكرون العلوم التي تساعد على ضبطهما، ويخترعون الأدوات التي تساعد على توحيد فهم حقائقهما، فكانت علوم المكي والمدني والناسخ والمنسوخ والنحو والصرف والبلاغة والبديع ومصطلح الحديث وترجمة الرجال وعلوم الدراية والرواية وعلم أصول الفقه ومدارس التفسير ومعاجم اللغة... من هذه الزاوية يمكن أن نقرر أنّ اهتمام علماء الأمة بنصي القرآن والسنّة لم يكن لقدسيتهما فقط ولكنه اهتمام مرتبط بوعي أهميتهما في حفظ وحدة الأمة وتعزيزها، وتحقيق استمرارية وجودها. وان مقارنة وضع الأمة الإسلامية التاريخية بالتعريف الذي ورد في الموسوعة السياسية السابقة نجد أنّ الأمة الإسلامية لم تحقق الوحدة فقط بل حققت آفاقاً حضارية أخرى رسمها الإسلام لها وهي: الأول: أفق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جاء في قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، آل عمران، 110. وقد أورث ذلك الأفق الأمة حيوية في مواجهة أمراضها الداخلية، وقد تجسدت تلك الصفة بمؤسسة الحسبة التي كان المقصود منها ضبط السلوك العام للمسلمين، وجعل السلوك المستقيم سجيةً وطبعاً عندهم وليس أمراً خارجياً، لأنّ الحدود كان المقصود أن تكون رادعة للمسلم، لذلك أناطتها الحكومة الإسلامية بالقاضي وهي تحتاج الى اقامة البينة والشهود وتدرأ عند الشبهات، أما الحسبة فهي تشجيع على الخير وتوجيه وتنبيه وتأديب وزجر وردع، ثم تأتي العقوبات والتعزير ويجب أن لا تصل بحال من الأحوال الى مستوى حد من الحدود، وللمحتسب واجبات متعددة منها: منع التعديات على الشوارع، والحفاظ على قواعد الاحتشام، ومراقبة الأسواق، والاطمئنان على النظافة العامة إلخ... الثاني: أفق الشهادة الذي تمثل في قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا، البقرة، 143. وقد تجسدت الشهادة بوعي واقع الآخرين والحرص على هدايتهم، لذلك أصبح المسلم داعياً الى الله في كل أحواله: حين يتاجر، وحين يسافر، وحين يتعبد، وحين يتعلم إلخ... وقد كانت النتيجة انتشار الإسلام عن طريق الدعوة أكثر من انتشاره عن طريق الفتوح. ففي الواقع انتشر الإسلام في أفريقيا من الصومال شرقاً الى السنغال غرباً عن طريق التجارة، فقد قامت شبكة القوافل التي كانت تعبر الصحراء الكبرى بهذا الدور ولم يكن العرب هم الذين قاموا بالدور الحاسم في غرس الإسلام في هذه المناطق، لكن الفضل الأكبر يعود الى البربر أصحاب الجمال الذين كانت قوافلهم تجوب دروب الصحراء، وفي الشمال الشرقي من أفريقيا لعب الصوماليون دوراً مماثلاً كتجار قوافل في الركن الشمالي من القرن الأفريقي، وكانت هناك جماعات محلية أخرى مثل الهوسا وريولا في غرب أفريقيا قامت بعد اعتناقها الإسلام بنشر الدين من خلال علاقاتها التجارية الواسعة. أما شرقي آسيا فوصل الإسلام فيه الى أندونيسيا وماليزيا والفليبين عن طريق التجار المسلمين في الهند ووصل الى سهوبها الداخلية عن طريق المتصوفة والمبشرين المسلمين وعندما جاء القرن السادس عشر كانت جميع الشعوب التركية في أوراسيا مسلمة تقريباً، وبهذا يكون الإسلام قد حل مكان الأديان التي كانت منافسة مثل المسيحية والمانوية والبوذية. الثالث: أفق العالمية: وقد تحقق هذا الأفق لأنّ الرسول ص بُعِث الى الناس كافة وليس للعرب وحدهم، قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107، وقال تعالى أيضاً: وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيرا سبأ 28، وقال تعالى أيضاً: قل يا أيها الناس اني رسول الله اليكم جميعاً الأعراف 158. وأكد الرسول تعالى ذلك في أحد أحاديثه فقال: "فضّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت الى الخلق كافة، وختم بي النبيون" رواه مسلم. وقد تحقق أفق العالمية لأن القرآن الكريم كتاب الله الى الناس جميعاً فقال تعالى: ان هو إلا ذكر للعالمين ص 87، ولأن الإسلام أقام الرابطة بين الناس على أساس الإيمان بالله ولم يقمها على جنس أو نسب أو قبيلة فقال تعالى: إنما المؤمنون اخوة الحجرات 10، وقال الرسول ص: "يا أيها الناس إن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". لذلك مزجت الأمة الإسلامية مختلف الأجناس والأعراق والقبائل والشعوب في بوتقتها، وهذا المزج هو ما حلم به الفيلسوف أرسطو وتلميذه القائد العسكري اسكندر المقدوني، وسعيا الى تحقيقه بمزج العرقين: اليوناني والفارسي في بابل من خلال زواج اسكندر المقدوني بابنة كسرى ملك الفرس وزواج كبار ضباطه شريفات الأسر الفارسية، لكن هذه المحاولة انتهت بوفاة الاسكندر المقدوني. وقد أثمرت عالمية الأمة الإسلامية حضارة عالمية كان للعرب دور مستقل في بداية ظهور الإسلام ولفترة وجيزة، لكن الشعوب الأخرى شاركتهم بعد ذلك في كل عناصرها العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية... لذلك نجد أن الصرح العلمي في الحضارة الإسلامية بناه علماء من العرب والفرس والهنود... ونجد أن الأرض الإسلامية دافعت عنها قبائل وأسر سلجوقية وزنكية وكردية وتركمانية وشركسية وعثمانية... ونجد أن القيادة السياسية تسلمها العرب والبربر والترك والفرس... ومما عزز هذه العالمية إفراد مساحة تشريعية خاصة في التعامل مع أهل الكتاب: أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، حيث أباح الإسلام أكل ذبائحهم والزواج من نسائهم فقال تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حلٌ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم المائدة 5. * كاتب فلسطيني مقيم في الكويت.