لا أظن بأن هنالك احداً من أساتذة الأدب العربي، او من طلبته في جامعات الوطن العربي، لم يسمع بالأستاذ الجليل الدكتور شوقي ضيف، فهو يكتبُ في الدراسات القرآنية، ويؤرخ لتطور البلاغة العربية، ويبحثُ في المدارس النحوية، ويُعلّم الناس اصول البحث الأدبي ومناهجه، ثم يُحدثهم عن هذا الأدب حديثاً يكاد يكون - كما يقول المثلُ العبّاسي - "من الخُفِّ الى المقنَعة"، فيبدأ بالعصر الجاهلي، وينتهي به الى البارودي، وأحمد شوقي. ثم لا يكفيه ذلك كله فيكتب في النقد، والمقامة، والترجمة الشخصية، والبطولة في الشعر العربي، هذا عدا ما حقق من كتب التراث العربي، وعدا ما قدم للمجمع اللغوي في القاهرة من بحوث. وهل اكثر من ان يكون الدكتور ضيف رئيساً لمجمع اللغة العربية في القاهرة؟ وانا لا انفي عن الدكتور ضيف سعة العلم، ولكنني أنفي عنه الدّقة، والتثبّت، والتريث، فأقول: دعتني حاجة ان انظر في الجزء الرابع من كتابه "تاريخ الأدب العربي" الصادر عن دار المعارف المصرية. ويبحث هذا الجزء في العصر العباسي الثاني فرأيت فيه وانا لا اتتبع الكتاب صفحة صفحة: انه يقول لك الدكتور شوقي ضيف 1 عن الحياة في بغداد: "ان الأسرة المتوسطة كان يكفيها خمسة وعشرون درهماً كأن نفقات اليوم المتوسطة لا تحتاج الى اكثر من درهم واحد…". أقول: هكذا قوّم الدكتور مصاريف الأسرة المتوسطة في الشهر. ولي على هذا التقويم ملاحظات منها: ان الصيغة التي أورد بها تقويمه بدت من الثقة والثبات بحيث لا يملك القارئ الا ان يطمئن اليه. واذا كان ذلك من حق الباحث حين يطمئن فعلاً فان ذلك لا يعود من حقه حين يقرر هذه الحقيقة الخطيرة اعتماداً على خير وَرَدَ في "مصارع العُشاق"، وما لكتاب انعقد على اخبار المُحبين اسمه "مصارع العشاق" وللحياة الاقتصادية؟ أقول ذلك لأن هنالك طريقاً اسهل وأدق وأوضح من طريق "مصارع العشاق" في تحديد مستوى المعيشة هو طريق كتب الحسبة، وطريق كتب الخراج. ففي هذا الطريق نجتهد في معرفة ثمن الرغيف، ورطل اللحم، وكُرِّ الدقيق، وما الى ذلك مما يُهيئ لنا صورة قريبة من الصواب عن مستوى المعيشة. وأريد ان اجاريه في اختياره امتحن صحة استنتاجاته فيه، فأجد جملة من الحقائق اولاها: ان الحكم السابق الذي قرره عن مستوى المعيشة قرره وهو يتحدث عن بغداد، ولكننا حين نعود الى الخبر نجده قد وقع في مكة وليس في بغداد 2. ومن البديهيات المعروفة ان مستوى المعيشة في حاضرة الخلافة العباسية لا بد ان يكون أعلى قليلاً مما هو عليه في الكوفة او الأهواز او مكة او سجستان، لا لشيء الا لأنها حاضرة، وليست مصراً من الأمصار. وثانيتهما ان الخبر يقول: "… حدثني ابراهيم بن ميمون قال: حججت في أيام الرشيد…" مما دل دلالة قاطعة على ان الحادثة التي تحدد من خلالها مستوى المعيشة قد وقعت اثناء خلافة هارون الرشيد التي امتدت من 170 الى 193ه في سنة لا نعرفها من بين هذه السنين التي تزيد على العشرين. وسواء كانت وقعت الحادثة في اول سنة من خلافته أم آخر سنة منها فإن ذلك يعني شيئاً واحداً هو انها وقعت في العصر العباسي الأول، وليس في الثاني. هذا والدكتور يؤرخ للعصر العباسي الثاني. ولعل احداً يرى ان يتساهل في الأمر فيتساءل عن الفارق بين العصرين فأقول: انه بحسبنا من اختلاف مستوى المعيشة اننا لم نجد في العصر العباسي الأول حوادث احتجاج على غلاء الاسعار يقوم بها العامة، على حين ان العصر العباسي الثاني كان حافلاً بمثل هذه الحوادث. ونظرة واحدة على "المنتظم" لابن الجوزي و"تجارب الأمم" لمسكويه كافية وتزيد على الكفاية. وبحسبنا ايضاً من هذا الاختلاف ان يحصي ابن عبدوس الجهشياري واردات الدولة على عهد الرشيد فبتلغ سبعين ألف دينار، وتعني بالمصطلح المعاصر سبعين مليون دينار على حين يروي مسكويه ان الخليفة المقتدر العباسي - وهو من خلفاء العصر العباسي الثاني - قد اضطر الى ان يأخذ من والدته "خمسمائة الف دينار من مالها الى مال بيت العامة، لينفق في الرجال" 3، ولقد كان عجز الميزانية - بلغة اليوم - من الثبات بحيث نص المؤرخون على جهود الوزير علي بن عيسى في "انه لازم النظر بنفسه في العمل ليلاً ونهاراً، والجلوس الى اصحاب الدواوين في الليل، وكان يسهر اكثر الليل حتى توازن الدخل والخرج" 4. واذا عرفنا كل ذلك أفيكون من حق الدكتور شوقي ضيف ان يهدي رخاء عصر الرشيد الى عصر المقتدر العباسي؟ هذا على فرض ان الرواية صحيحة، وانها يمكن ان تنطبق على الأسر المتوسطة في بغداد. تانك اثنتان، فأما الثالثة فهي ان الخبر في "مصارع العشاق" يقول: ان رجلاً من الناس قد حج - في عصر الرشيد - فبينما هو في مكة يطوف في سككها، واذا بامرأة تنشد: أعمرو علام تجنبتني أخذت فؤادي فعذبتني؟ فسألها عن عمرو هذا، فقالت: انه زوجها، وانها تحبه، وانه قد فارقها الى جدة. فرقَّ لها، وذهب يبحث عنه في جدة حتى اذا وجده سأله ان يرجع الى زوجته بمكة "فقال: بأبي أنت ومن لي بذلك؟ ذلك والله احب الأشياء الي، ولكن منع طلب المعاش. قلت: كم يكفيك كل سنة؟ قال: ثلاثمائة درهم…". ويقول لك الدكتور شوقي ضيف 5 = وأكرر القول انني لم اتحرّ هذه الصفحات تحرياً - وهو يريد ان يُثبت علم شعراء العصر العباسي الثاني بأسرار العربية، يقول: "وشاعرٌ ثانٍ هو علي بن محمد العلوي الكوفي المعروف بالحمّاني اخذوا عليه خطأين: خطأ نحوياً، وخطأ اشتقاقياً صرفياً، فأما الخطأ النحوي ففي قوله: وجهٌ هو البدرُ إلا ان بينهما فضلاً تلألأ عن حافاته النُّورُ في وجهِ ذاك أخاطيطٌ مُسوَّدةٌ وفي مضاحكِ هذا الدُّرُّ منثورُ فقد قالوا: إن حق كلمة منثور في آخر البيت الثاني النصب… والمسألة لا تحتاج الى كل هذا التأويل، فان الحمّاني تبادر اليه ان كلمة: منثور خيرٌ لكلمة: الدُّر، وكلمة في مضاحك هذا متعلّقةٌ بها، ولا عيب ولا خطأ في ذلك. وأما الخطأ الاشتقاقي الذي عابوه على الحماني ففي قولِه: أرقتُ وما ليلُ المُضامِ بنائمٍ وقد ترقُد العينانِ والقلبُ ساهرُ فقد قالوا: إنّ الصواب مَضيم بفتح الميم، إذ لا يقال: أضمتُه، وإنما يقال ضمته… وربما سمع الحماني من يقول: أضام، وربما قرأ ذلك في بعض الأشعار القديمة…". وأقول: إن دفاع الدكتور عن الحِمّاني في غير محلّه، وذلك لأكثر من سببٍ واحدٍ. أولُها ما يكاد ينعقد الاجماع من عُلماء العربية في العصر العباسي على ان الشعراء العباسيين يلحنون، فقد رأى الأخفش في شعر بشارٍ لحناً 6، وكان المُبرِّد يقول: "…أبو نواس لحّانةٌ" 7. هذه واحدةٌ، فأما الثانية فإن دفاعاً مثل دفاع الدكتور شوقي ضيف يصحُّ على رجلٍ لغويٍّ شاعرٍ مثل ابن دُرَيْد الأزديّ، وليس على رجُلٍ مثل الحمّاني، مما يجعلني انتقلُ الى الثالثة فأقول: ان الدكتور شوقي ضيف قد قال ما قال اعتماداً على المرزبانيّ في "الموشح" - هذا قبل ان أناقش الدكتور في ما قال - والمرزباني نفسهُ يروي على الصفحة نفسها عن الحمّاني انه كان يقول: "ربّما جاءني المعنى المليحُ في اللفظ الحسن 8 فأشك في لغته وإعرابه، فأعدلُ عنه، ولا أسأل عن ذلك من يعلمُه كراهة ان اسأل بعد ما كبرتُ، وتركي لعلم ذلك حدثاً" 9. أفترى بعد هذا الاعتراف الواضح الصريح من الشاعر نفسه ان يكون الدكتور من الدقة والتثبّت بحيث لا يتنبّهُ إليه؟ ومهما يكن من أمرٍ فقد وجد المرزبانيُّ نفسه لإعراب الدكتور شوقي ضيف عجُزَ بيت الحمّاني بحيلتِه وجهاً، وليس الدكتور شوقي، فقد قال المرزبانيُّ بعد إذ روى البيتين: "… الوجهُ ان يكون منثوراً، لأنه وصفٌ لمعرفة، ولكن منثور يجوز بمعنى: هو منثور" 10. وتعال معي الى الشقِّ الثاني من دفاع الدكتور شوقي ضيف عن الحِمّاني في قوله: "وما ليلُ المُضام، فقد رأى انه "ربّما سمع الحماني من يقول: أضامَ، أو ربّما قرأ ذلك في بعض الأشعار القديمة". ودفاعهُ عجيبٌ من وجوهٍ، فمن هذه الوجوه ان الدكتور لم يعرف حياة الرّجُل، وإنما هو يُدافع عنه من أجل الدفاع وحدَه. ولو كان قد عرف حياته - على رغم انه ترجم له في كتابه - لعرَف انه لم يبرح الكوفة لا الى بادية السماوة، ولا الى سواها ليُشافِهُ الأعرابَ فيها. وانما كان غارقاً في السياسة الى اذنيه، وفي اللهو ايضاً - وهذان أمران لا يتناقضان - ولعرف انه لم يبرح الكوفة الا الى سجن الموفّق في بغداد: "لأمرٍ شُنّع به عليه من انه يريد الظهور" 11 فحسبه مُدّة طويلةً. ومن هنا فإن الحمّاني لم يكن يشكو ضعفه في اللغة، وإنما كان يشكو من ضعف خطّه ايضاً، فقد قال: أشكو الى الله خطّاً لا يبلّغني خطَّ البليغِ ولا خطَّ المُرجّينا إذا هممتُ بأمرٍ لي أُزخرِفُهُ سدَّت سماجتُه عنّي التَّحاسينا 12 واذاً ما معنى الدفاع عنه، وما معنى انه "ربما سمع" و"ربما قرأ"؟ أتُرى ان الحمّاني وحده سمع وقرأ، ولم يسمع ولم يقرأ الخليل بن أحمد، والأصمعي، وابن الاعرابي، وابن دريد، وابنُ عبّاد، والجوهري، والقالي، والأزهري، والصغّاني، وابنُ منظور، والفيّومي، والزبيدي؟ إن كل هؤلاء من سدنة اللغة ومن ضابطيها، أتُرى أنهم جميعاً لم يسمعوا "أضام" ولم يقرأوها في الأشعار القديمة، وقرأها الحمّاني وحده بفضل "ربما" رَجماً بالغيبِ؟ * باحث عراقي. 1 العصر العباسي الثاني: 62. 2 ينظر الخبرُ في "مصارع العشاق" طبعة دار صادر 1:240 - 241. 3 تجارب الأمم 5:181. 4 السابق: 5:152، والعمل في النص يعني: ميزانية الدولة، وأصحاب الدواوين هم: الوزراء. 5 العصر العباسي الثاني: 184. 6 ينظر الموشّح للمرزباني طبعة البجاوي: 313 - 314. 7 السابق: 337. 8 في الأصل: الخشن، وهو تصحيفٌ. 9 الموشّح: 429. 10 نفسه. 11 مروج الذهب 4:151. 12 أدب الكتاب للصولي 1:52.