عرفت مكةالمكرمة الغناء والإنشاد في وقت مبكر جداً وقد ارتبط بالشعر ذي الأوزان الخفيفية التي يسهل ترديدها بين الناس وحفظها، وقد عرف الغناء والإنشاد في مواقف كثيرة ومتنوعة فتسمعه يتردد في الحروب والغزوات وتسمعه كذلك في مواسم الحصاد، إلى جانب حضوره القوي في أوقات مناسبات الأفراح والموالد، وكان من أبرز من كتب عن الغناء في مكةالمكرمة في العصور الإسلامية الأولى هو الباحث الكبير الدكتور شوقي ضيف – رحمه الله – من خلال كتابه الهام "الشعر والغناء في مكة والمدينة في العصر الأموي" فوقف ضيف في هذا الكتاب عند نشأة الغناء والإنشاد والعوامل التي ساهمت في نشره وأهم انواع الشعر المغنى في تلك الحقبة مع ذكر أشهر المغنين. واليوم يقوم الباحث المكي الأديب عبدالله محمد أبكر بتقديم سفر هام عن الغناء التراثي والشعبي في مكة في العقود الماضية متقصياً ظهور هذا الفن وتطوره وحضوره في المناسبات الوطنية والاجتماعية مع ذكر رجالات هذا الفن وذلك من خلال كتابه "الصهبة والموشحات الأندلسية في مكةالمكرمة" والصادر مؤخراً عن دار كنوز المعرفة بجدة. الكتاب الذي جاء في قرابة (700) صفحة أبرز فيه قدرة أبكر وعزيمته في تقصي هذا الفن وتتبعه له من عدد من المصادر النادرة وما سمعه وسجله من جمهرة أقطاب فن الصهبة ويماني الكف وهذا – لعمر الله – عامل شاق وذلك لقلة مصادره ورحيل عدد من رجالاته. يقول الباحث أبكر في مقدمته: وقد نهض بي التوق والشوق إلى بذل مزيد من البحث ما استطعت، للوقوف على تلك النصوص وأخذها من مصادرها المطبوعة والمخطوطة، أو جمع شتاتها مما تبقى من مصادرها الشفهية وتدوين ما يمكن تدوينه من الموشحات والأدوار الأندليسية والمصرية والحجازية واليمنية والشامية التي حواها فن الصهبة في مكةالمكرمة كأجزاء من التاريخ الاجتماعي والفن الشعبي. وقد سعى المؤلف في هذا الكتاب بمقابلة ما نقل وما تواتر سماعاً من القصائد والأدوار والموشحات بالمكتوب وذلك للتنقيح والتصحيح ولتصبح قوالب النصوص مقبولة لفظاً ومعنى، لاسيما تلك الموشحات التي تداولها المطربون في فترات ماضية. هذا وقد كان من حسن حظ المؤلف أن يستفيد من أحد الذين عشقوا فن الصهبة ويماني الكف وتردد على حلقاته ألا وهو الشيخ أحمد زكي يماني الذي قدم الكتاب بكلمات تنم عن معرفته بهذا الفن العريق ومما قاله عن الكتاب:وقد أعطى مؤلف هذا الكتاب رغم ندرة المراجع ما يغطي هذا اللون الغنائي العريق من خلال ما أتيح له من معلومات شفهية استقاها من المهتمين بهذا الفن الحجازي وقدم النماذج التي تعرَّف بطرق أدائه وغنائه، وقد استمتعت بقراءته وبصوره العتيقة التي عكست لنا ذكرى مكية جميلة على مدى سنين طويلة، وفي الحقيقة إن هذا يمثل إضافة حقيقية في هذا المجال، وأعتقد أنه غطى جل جوانب هذا الموضوع بتفاصيل وافية. وكان لابد لمثل هذا الكتاب أن يقف عنده أحد أساطين الفن السعودي الذين لهم باع طويل في تاريخ حركة الفن والغناء في المملكة وهو الموسيقار غازي علي الذي قال في كلمته عن الكتاب: والأستاذ عبدالله أبكر صاحب هذا السفر أمضى الكثير من وقته في الغوص في بحور هذا الألوان الغنائية نتيجة ممارسته الطويلة في غناء الصهبة ولا يجيد هذا اللون من الغناء إلا من رضعه في طفولته وجرى في عروقه مجرى الدم وهو يتسم بالعفوية والصدق والأصالة. وأما الكتاب فقد نهض على أربعة أبواب موسعة ضمت فصولاً متعددة ناقشت كل ما يتعلق بهذا الفن من كافة جوانبه، فنجده يقف عند الباب الأول عند الموشح فيعرفه لغة واصطلاحاً ونشأته في القرن الرابع الهجري على لسان الشاعر الأندلسي مقدم القبري ويوضح أقسامه التي يتكون منها الموشح وهي المطلع والقفل والغصن والدور والسمط والبيت والخرجة، وتحدث عن التواشيح الدينية والتي تميل إلى الزهديات والابتهالات والمناجاة، في حين يسلط الضوء في الفصل الثاني من الكتاب على فن الدور فيعرفه لغة واصطلاحاً وظهوره في مصر في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي وأشهر مغنيه الشيخ محمد المسلوب وعبده الحامولي وغيرهما من أقطاب الفن والتلحين في مصر، كما يقف ليعرف الغناء والموسيقى واللحن والإيقاع في اللغة والاصطلاح فيعطى كل كلمة ما تحتاجه من المعاني والتعريفات حتى تصل إلى ذهن القارئ. أما الفصل الثالث فيخصصه لفن الصهبة وفي تعريفه لها أنها تأتي على وزن (فعلاء) والصهباء من أسماء الخمر وفي الحديث: كان يرمي الجمار على ناقة صهباء، أما معناه الاصطلاحي: فهو فن غناء الموشحات والأدوار وظهر في الحجاز وتحديداً مكةالمكرمةوجدة وهو غناء لا تصاحبه أي آلة موسيقية إنما هو غناء إيقاعي وإنشادي جماعي وهذا الفن ولد في الأندلس وترعرع في مصر والشام والعراق وحط رحاله في مكة، وقد جرت العادة أن يشترك في الإنشاد جميع أفراد الفرقة (التخت) ويسمونهم (السنِّيدة) لكن ينفرد أجملهم صوتاً وفناً، وتتكون الفرقة من خمسة أشخاص وربما تزيد فتصل إلى الثلاثين أو الخمسين منشداً وقبل أن يبدأ الحادي الذي يجلس وسط الرديدة يتقدم الموال تمهيداً للمقام الذي سيبدأ منه الغناء، ثم يشرع الحادي في الغناء على المقام نفسه بالمطلع ويسمى في الصهبة (المِشق) ثم يقف المؤلف أبكر عند بعض المصطلحات المتعلقة بالصهبة مثل (الشيلة) و(الودعة) و(الشبشرة)، أما الايقاعات المصاحبة لهذا الغناء فهي طبلة النقّارة فقط وتطرق هذه الطبلة بعودين نحيلين ومن أشهر النقاقير في غناء الصهبة السيد علي بن يوسف وسليمان البرج وعثمان بنتن وعبدالعزيز محضر ومحمد حبيب ويوسف ميرزا وعبدالله أبكر وهاني قبوري وهاني مغربل. كما يصحب الغناء والنقر (التصفيق) وتضرب اليدين مع نقر الإيقاع. إلا أن الباب الثاني من الكتاب فهو محور الكتاب إذ يقوم على تاريخ الصهبة والغناء في مكة مع تقديم نبذة عن تاريخ الغناء في مكة كابن سريج وطويس وابن محرز وابن مسجح أما مغنو الصهبة في العصر الحديث في مكةوجدة فهم: علي ميرة وعلي الصايغ وعبدالعزيز محضر ومحمد شعيب وعبدالله جدع ومحمد حبيب ومحمد شعيب وصالح عسيري وعمر عيوني وعبدالله بصنوي وهلال شيت وعباس مالكي ومن الجيل الجديد: حمزة أبو قرام وعبدالله أبكر ومحمد فلاتة وعمر نوار وأسامة العامودي وعبدالملك نيازي وخالد مغربي وكانت تقام جلسات الصهبة في حارات معينة في مكة مثل سوق الليل والقشاشية والمسفلة والشبيكة وأجياد والسليمانية وفي جدة كانت تقام في حارات اليمن والمظلوم والشام ومن أهم هذه الموشحات التي كانت تتردد في غناء الصهبة هذه القصيدة التي تختار منها هذه الأبيات: قفا بالركب يا حادي السلام ورفقاً جيرة البيت الحرامِ ومهلاً يا حداة العيس مهلاً فقد أيقظتموني من منامي فهذه الضجة الكبرى علاما أعيد الحج أم عيد الصيامِ أم الداعي لطيبة قد تنادى ألا حيوا على باب السلامِ وقد تقصى المؤلف أصحاب نصوص الموشحات التي اشتهرت في غناء الصهبة فوجدها تعود لكبار الشعراء في القرون الأولى مثل البهاء زهير وعمر بن الفارض والإمام عبدالرحيم البرعي وابن سناء الملك ومن العصر الحديث أحمد عاشور ومحمد الدرويش وإسماعيل صبري وشهاب الدين الحجازي وعمر اليافي وعائشة التيمورية وسيد حجاب، ويوقف الباحث أبكر جزءاً كبيراً من الكتاب لجمع نصوص الموال وأشعار المجس الحجازي ويماني الكف سواء ما جاء باللغة الفصحى أم ما كتب باللهجة العامية الحجازية والمصرية والعراقية، أما الباب الرابع فقد حصره على المقامات التي تُغَنى عليها الصهبة كمقام البياتي ومقام الحجاز ومقام المايا ومقام السيكا ومقام الجهاركاه ومقام النهاوند. ويبدو لمتصفح الكتاب الجهد الكبير والتقصي الدقيق والمتابعة الحثيثة التي قام بها المؤلف ليخرج هذا السفر الضخم رغم ندرة المصادر وقلة المراجع ورحيل أقطاب هذا الفن، إلا أنه قد خرج للمتلقي بصورته المرجوة والتي كان ينتظرها عشاق هذا الفن الأصيل وهو ما جعله مرجعاً مهماً لمن رام أن يعرف فن الصهبة من كافة جوانبها.