على رغم "أزمة الخرائط" بشأن الانسحاب الثاني بين السلطة الفلسطينية وحكومة ايهود باراك، تواصلت مفاوضات الحل النهائي، وعقد الوفدان الفلسطيني والإسرائيلي برئاسة ياسر عبدربه وعوديد عيران، خلال أقل من شهر، ست جولات من المفاوضات، طرح خلالها كل طرف رؤيته لجدول الأعمال، وتلى مفهومهه لأسس إنهاء النزاع وحل قضايا الحدود والقدس واللاجئين والاستيطان والمياه والأمن والعلاقة المستقبلية بين الجانبين ومع الجوار. وتبادلا سيلاً واسعاً من الأسئلة، واستطلعا الحدود الدنيا والقصوى لموقفيهما. وباشرا لقاءات رسمية وغير رسمية بحثت فيها أسس وقواعد "اتفاقية إطار" تكون مرجعية لمفاوضاتهما اللاحقة ولعمل اللجان المتعددة التي سيجري تشكيلها. وتواصلت خلال الفترة ذاتها، بوتيرة أخف، مفاوضات أخرى برئاسة الوزير صائب عريقات والسفير عيران، على خط مستقل بشأن استحقاقات المرحلة الانتقالية التي لم تنفذ بعد. وبصرف النظر عن تفاصيل اطروحات الطرفين في الخطين، ومدلولات تعيين باراك رئيس طاقم المفاوضات بدرجة سفير، واستبعاده شمعون بيريز ويوسي بيلين وحاييم رامون وشلومو بن عامي عن المفاوضات، فقد تم التأكيد في الخط الأول على أن مفاوضات الوضع النهائي ستقود إلى تنفيذ قراري مجلس الأمن الدوليين 242 و338، وتمسك الوفدان بتفسيرين مختلفين للقرارين، وبمواقف متناقضة بشأن مفهوم التسوية النهائية وانهاء النزاع التاريخي بين الشعبين. واتفاق على عدم تأجيل بحث أي قضية من قضايا الحل النهائي. ويأمل الطرفان، على رغم تعارض وتناقض مواقفهما، انجاز الصيغة النهائية ل"اتفاقية الإطار" خلال شهرين، حسب الجدول الزمني الذي حدده اتفاق شرم الشيخ بناء على إلحاح باراك. ويحاول الجانب الإسرائيلي الإيحاء بأن هذه المفاوضات تسير بصورة طبيعية وتتقدم تدريجياً إلى الأمام، وان آفاق التوصل قبل منتصف شهر شباط فبراير المقبل ل"اتفاقية الإطار" واقعية ورحبة، وبالإمكان ايجاد صيغة ترضي الطرفين. ولم يبدد الجانب الفلسطيني هذه الأوهام، بل كرسها بالقول: "الامكانية قائمة إذا صدقت نوايا الطرف الآخر". وكأن عنوان رسالته لا يكفي لقراءة مضمونها مسبقاً، ومواقفه لا تزال مبهمة، وما يجري في الخط الثاني لا يكفي لتوضيحها! وموقف باراك العملي والطازج من بؤر الاستيطان، حديثه وقديمه، لا يدل على شيء، ولاءاته الشهيرة مطروحة للاستهلاك المحلي. أما عن الخط الآخر قضايا المرحلة الانتقالية، فلم يتفق الجانبان في أربع جولات على تنفيذ أي قضية من قضاياها الكثيرة والمهمة، مادياً ومعنوياً للفلسطينيين ولإعادة المصداقية لعملية السلام التي فقدتها بين صفوفهم. ولا يزال الجانب الإسرائيلي يصر على التفرد في تحديد مناطق الانسحاب، ويتهرب من إعادة احتساب مساحاتها قياساً على مساحة الضفة الغربية كاملة، ومن اجراء أي تعديل في الخرائط التي قدمها للجانب الفلسطيني. ويرفض علناً وقف مصادرة الأراضي وتجميد الاستيطان والدخول في مفاوضات جدية حول "تنظيم عودة النازحين"، ويرفض الالتزام بوضع أي سقف زمني للاتفاق حولها، ويماطل في بحث تنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحاب المقررة في 20 كانون الثاني يناير المقبل وتعادل 1.6 في المئة من مساحة الضفة والقطاع "الاصلية"، حسب نصوص اتفاق واي ريفر، وجرى تأكيدها في بروتوكول شرم الشيخ. ويرفض أيضاً الدخول في مفاوضات جدية حول المرحلة الثالثة شبه المنسية من الانسحابات التي نص عليها اتفاق طابا، والتي تفرض انسحاب الجيش الإسرائيلي من كل أراضي الضفة والقطاع باستثناء مدينة القدس والمواقع العسكرية المحددة والمستعمرات بحدودها القائمة في ذلك التاريخ. ويتهرب من الالتزام بإطلاق سراح بقية المعتقلين، وفتح الممر الآمن الشمالي، وفتح شارع الشهداء في الخليل، وتنفيذ أكثر من 30 استحقاقاً آخر يتحدث عنها يومياً الوزير صائب عريقات. اعتقد ان تركيبة الوفد الإسرائيلي لمفاوضات الحل النهائي، ومواقفه من القضايا المطروحة على الخطين الانتقالي والنهائي تتقاطع مع مواقف المتطرفين الإسرائيليين، ولا تنسجم "ظاهرياً" مع رغبة باراك وإلحاحه الشديد، كما ظهر في قمة شرم الشيخ، على تحديد فترة عام واحد ل"التوصل إلى اتفاق شامل حول كافة مسائل مفاوضات الحل النهائي"، والتوصل خلال الخمسة أشهر الأولى إلى "اتفاقية إطار لمفاهيم هذه المسائل". ويحرص الوفد الاسرائيلي على استمرار المفاوضات والاتصالات بكل أشكالها ومستوياتها وتحاشي تأزيمها، ويحاول خلق انطباعات دولية واقليمية زائفة حول مجرياتها. وسيظل يماطل في تعديل خرائط الانسحاب وفي تنفيذ الانسحابات الأخرى التي نصت عليها الاتفاقات، بانتظار "قبول الفلسطينيين غداً ما يرفضونه اليوم"، ووصول الوزيرة أولبرايت إلى المنطقة قريباً ودعمها موقفه. ويعتقد باراك منذ كان رئيساً للأركان بأن إطالة المدى الزمني للانسحابات من الأرض، يسهّل على القيادة الإسرائيلية استمرار التحكم في إيقاع المفاوضات، ويوسع من قدرتها على الضغط على القيادة الفلسطينية وابتزازها، ويحد من قدرتها على تحدي الاطروحات الإسرائيلية. واظن أنه سيواصل اتباع هذا التكتيك خلال الشهرين المقبلين، وسيستخدم ورقة الانسحابات ومعها ورقة الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة في المساومة حول صيغة "اتفاق الإطار" التي يجري العمل على إعدادها. ويعتقد ان بإمكانه في قمة شباط فبراير المقبلة تضمينها نصاً يؤكد على انتهاء النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. وانتزاع موافقة فلسطينية على نص آخر يشير بصيغة أو أخرى إلى اجراء تعديلات في حدود 1967 وتبادل الأراضي، يمكّنه قضم مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية وتجميع المستوطنات فيها وضمها لإسرائيل. إلى ذلك، يخطئ المفاوض الفلسطيني إذا اعتقد ان موقف باراك بشأن عدم انطباق قرار مجلس الأمن 242 على الضفة والقطاع ناتج عن جهل بنصوص الاتفاقات الدولية، ونقص في المعلومات، وعدم تدقيق ببنود الاتفاقات الفلسطينية - الإسرائيلية وآخرها اتفاق شرم الشيخ الذي أكد على تنفيذ هذا القرار. وأيضاً إذا اعتقد بأن المعركة حوله قد حسمت لصالحه، وان باراك سيلتزم بقرارات الشرعية الدولية وبنصوص الاتفاقات التي وقعها هو ومن سبقه من رؤساء حكومات إسرائيل بمفهومها الفلسطيني، والتي نصت على "ان مفاوضات الحل النهائي ستقود إلى تنفيذ قراري مجلس الأمن الدوليين 242 و338". اعتقد ان مجريات المفاوضات في الشهر الأخير، وبخاصة على خط قضايا المرحلة الانتقالية، تفرض على القيادة الفلسطينية إعادة النظر في تكتيكها التفاوضي، لجهة إيلاء مفاوضات قضايا المرحلة الانتقالية أولوية على مفاوضات الحل النهائي، وتسليط الأضواء السياسية والإعلامية على مواصلة حكومة باراك اجراءات أحادية الجانب تجحف بمفاوضات الحل النهائي، وتفردها في تقدير مناطق الانسحاب، وتتناقض مع منطلقات عملية السلام وأهدافها. وإذا كانت القيادة الفلسطينية قد قبلت، لاعتبارات تتعلق بالعلاقات الفلسطينية - الأميركية والأوروبية، الدخول في مفاوضات الحل النهائي قبل انتزاع الاستحقاقات الانتقالية، فمن الخطأ الفاحش قبول ربطها بالتوصل إلى "اتفاقية الإطار"، ورهن تنفيذها بالتقدم في تنفيذ هذه الاتفاقية. ولعل من المفيد التذكير بأن قرار القيادة الفلسطينية بفصل الوفدين تم على خلفية اعطاء أولوية لانتزاع الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها اتفاقات المرحلة الانتقالية، وقطع الطريق أمام تكتيك باراك الهادف إلى دمجها بالمرحلة النهائية، وليس لتسليط الأضواء على مفاوضات الحل النهائي و"اتفاقية الإطار" لا ضرورة لها طالما لم يلتزم باراك بما وقع عليه. إلى ذلك، اعتقد ان دعم المفاوض الفلسطيني في نضاله من أجل انتزاع هذه الحقوق الوطنية المهمة، يفرض ليس فقط خفض وتيرة مفاوضات الحل النهائي، بل وأيضاً ربط متابعة البحث في بنود "اتفاق الإطار" بمدى التزام الجانب الإسرائيلي بتنفيذها، و"تمَتْرُس" وفد مفاوضات الحل النهائي في خندق الدفاع عن الأرض الفلسطينية في مواجهة زحف الاستيطان، والتمسك بضرورة إزالة كل البؤر الاستيطانية التي أُنشئت بعد اتفاق واي ريفر، حتى لو دخلت المفاوضات في أزمة فعلية، وتوترت العلاقات بين الجانبين. فاستقبال الوزيرة أولبرايت بأزمة حقيقية مع الجانب الإسرائيلي حول تنفيذ جميع قضايا المرحلة الانتقالية، خير من استقبالها بأجواء توحي بأن كل شيء على ما يرام، ومفاوضات الحل النهائي تبشر بالخير وتسير بهدوء وانتظام، وآفاق التوصل إلى "اتفاقية الإطار" رحبة، خصوصاً أن المفاوضات على الخطين مرشحة للدخول بعد زيارة أولبرايت في اجازة قسرية فترة شهر رمضان، وستسير طيلة فترة الأعياد والاحتفالات ببدء الألفية الثالثة من دون رعاية أميركية، وكسباً للزمن لا بد من انجاح خطوة القوى الشعبية في قطاع غزة بمقاطعة منتوجات المستوطنات، وتعزيز صمود العمال الذين استجابوا لنداء وقف العمل فيها، والقيام بإجراءات مماثلة في الضفة الغربية. * كاتب وسياسي فلسطيني.