ربما يتذكر الذين من جيلي، جيل السبعينات وماقبله، كيف كانت المدارس الثانوية وكيف كانت الجامعات. كيف كان الطلاب في الخمسينات وبداية الستينات يسقطون وزارات ويفرضون قرارات. في تلك الفترة كانت الثانويات والجامعات مدارس فكرية وسياسية، منها يتخرج الزعماء السياسيون والقادة الطلابيون، ومنها يتخرج الشعراء والفنانون والادباء الكبار. كان يكفي لزعيم طلابي في الجامعة ان يهتف مسقطاً زعيماً ما او قرارا سياسياً غير مقنع حتى تتبعه الناس جميعاً. وكانت الجامعة منتدى ثقافياً وسياسياً الى جانب كونها مكاناً للتعليم ونيل الشهادات العليا. في بوفيه الجامعة في تلك الايام كانت تتخذ القرارات المصيرية للوطن، وكانت تقرر الندوات والمحاضرات. بمرور الزمن ومع الاقبال الكبير على الدراسة في الجامعات والمعاهد فقدت الجامعة، وقبلها الثانوية، هذا الدور الريادي، وصارت اشبه بالمدارس الابتدائية التي تعلم الف باء الدنيا. ومن يزر الجامعات السورية هذه الأيام لا يرى منها سوى تلك الاعداد الهائلة من الطلاب تدخل وتخرج دون صداقات حقيقية ودون مواقف من الحياة. طلاب مهمشون لا هم لهم سوى الحصول على الشهادة الجامعية ثم الجلوس في بيوتهم انتظاراً لوظيفة او عمل ما بعيد بعداً كاملاً عن تحصيلهم العلمي. في المعهد العالي للفنون المسرحية يختلف الأمر فطبيعة المعهد وقوانينه التي تحدد عدد الطلاب وطبيعة الدراسة فيه تعطي احساساً للمرء بانه في جامعات ايام زمان مع الفارق في الحرية التي تطورت كثيراً ما بين الخمسينات والستينات. الى جانب ان بعض الطلاب في الكليات الاخرى والذين لهم اصدقاء أو اقارب في المعهد المسرحي ينظرون بعين الحسد الى طلاب المعهد لان لهم اسلوبهم المختلف في الحياة والدوام والعلاقات الاجتماعية. بداية أصرح بأنني عندما فكرت ان اقيم اتصالاً اولياً مع طلاب المعهد كنت اتوقع ان اخرج بتحقيق فيه الكثير من الاختلاف والكثير من الجرأة والتنوع. ولكنني أصبت بخيبة امل وانا اضع اللمسات الأخيرة لهذا التحقيق. وهذا ليس متعلقاً بالطلاب فهم في النهاية ابناء واقعهم ومجتمعهم. وانما بحسن نيتي الشخصية، والتي اسست على معرفتي بأن مجموعة منهم وفي اليوم الذي تلا القصف الاميركي على العراق تحمسوا وتوجهوا نحو السفارة الاميركية للاعتصام امامها. يومها تدخلت الادارة فارسلت مندوباً عنها اقنع الطلاب بالعودة عن عملهم فعادوا الى المعهد، ثم وبعد ايام كانوا في طليعة المتظاهرين الذين احرقوا العلم الاميركي. وكذلك كانوا من المتحمسين لتأييد مارسيل خليفة في الدعوى المضللة المقامة ضده حيث قاموا بالتعاون مع معهد الدراسات الفرنسي بتنظيم حفل غنائي تأييداً له فغنوا اغانيه ثم رفعوا عريضة الى السلطات اللبنانية حملها طلاب من المعهد الى بيروت. كما شارك بعضهم في الاعتصام التآزري مع مارسيل يوم محاكمته التي اجلت بعد وصولهم الى بيروت. مثل هذا السلوك ينبئ بنوع مختلف من الطلاب، ينبئ عن وعي سياسي، وعن تفكير حيوي وسريع، ومع ذلك الوعي الذي كنت اتوقعه. ولكن بكل الاحوال هو بداية، ونرجو ان تعمم. في المعهد عدد طلاب قليل مابين العشرين والخمسة والعشرين طالباً في الصف، دوام الزامي، تفقد، هذا يعني ان هناك مجموعة من الطلاب تعيش مترافقة فترة زمنية طويلة نسبياً في اليوم الواحد وفي السنة الدراسية وعبر سني الدراسة كاملة. هذا بحد ذاته دفعني للتفكير بالتحدث معهم ومعرفة ما يدور بخلدهم، والمقارنة من ثم بين طلاب هذه الايام وطلاب تلك الايام السعيدة الغابرة. جلست معهم، تحادثنا تناقشنا ولأنني كما قلت لهم ارغب بتوجيه اسئلة نابعة من همومهم فقد وضعت اسئلة لها علاقة بما تحدثنا به. كان يحيط بي عدد لا بأس به منهم ومعظمهم حكى عن همومه، مشكلاته الخاصة والعامة، معاناتهم داخل المعهد في الاسرة وامور اخرى كثيرة صغت منها اسئلة تلقيت على اثرها اجابات موسعة منهم استنتجت منها اشياء كثيرة. أولاً، ليست الظروف الخارجية مثل عدد الطلاب وطريقة الدوام والحياة الاجتماعية المنفتحة هي التي تصنع جامعة حقيقية وطلاب حقيقيين يشبهون طلاب ايام زمان وانما اشياء اخرى كثيرة ليست متوفرة للطلاب النموذج. ولا مجال لذكرها هنا. ثانياً، الهموم التي تثقل كاهل الطلاب مختلفة على اختلاف امزجتهم، ولا هم موحد لهم سوى ما يخص دراستهم ومستقبلهم المهني. ثالثاً، هم مبعدون قسرياً عن العالم بالمعنى الواسع للكلمة لا علاقة لهم بالسياسة ولا بما يجري من حولهم، فسؤال حول العولمة التي هي حديث العالم اليوم اربكهم ولم يعرفوا شيئاً عنها او قاربوها بطريقة توحي بمعرفة بعيدة لها. مع ذلك هم طلاب مختلفون لهم همومهم، تطلعاتهم، انتظاراتهم لما سيجري في المستقبل هل سيتحولون الى نجوم كبعض من سبقوهم من زملاء ام سيلهثون خلف دور صغير في مسلسل تلفزيوني يسد رمقهم ويسكت جوعهم. هذا بالنسبة لطلاب التمثيل اما طلاب النقد فلهم انتظارات اخرى احلام بأشياء قد يجهلونها هم. غائمة في احلامهم ولكنهم ينتظرون. من يتحمل مسؤولية كل ذلك، الوضع الاجتماعي الاقتصادي السائد، الاسرة، المدرسة، الجامعة التي وصلوا اليها أخيراً. ليس هذا هو هدفنا، ولن نستطيع اعطاء اجابات عنهم فلنعد الى اجابات الشريحة التي تحدثنا معها وهي قد تمثل حسب اعتقادنا هؤلاء الطلاب فهم من سنوات الدراسة الأربعة ومن قسمي النقد والتمثيل. حول المستقبل ومذا سيفعلون نقداً وتمثيلاً حيث لا مسرح في سورية ولا صالات عرض تفسح لهم العمل جاءت الاجابات متناقضة احياناً، تحمل الامل يقول عدنان ازروني نقد سنة ثانية "في ذهن كل منا مشاريعه الخاصة ومع النظر اى عددنا لا بد ان تتقاطع بعض هذه المشاريع نحو القيام بعمل الفعل.. و تقول سويم عبدالغني تمثيل رابعة"اذا اقتنعت بانه لا يوجد مسرح وصالات كافية ولا عروض قيمة فمن الافضل لي ان انسحب من المعهد انا من الذين يحلمون بانه في يوم من الايام سيعيش مسرحنا ولكن علينا ان نحارب من أجل ذلك"، وهناك اجابات حملت التشاؤم الشديد ولكن معظم الاجابات كانت تحمل قدراً كبيراً من التصميم على المتابعة والعمل الدؤوب. عن سؤال حول الهموم داخل وخارج المعهد جاءت الاجابات مختلفة ومتعددة فلكل همه الخاص ومشكلاته الخاصة التي لا مجال للبت فيها ولكن كان هناك شبه اجماع على ان هناك بعض الاساتذة غير المنصفين والذين يتصرفون على هواهم. محمد ياسر الايوبي ثانية نقد له وجهة نظر قد تمثل بشكل او بآخر هموم معظم اصدقائه "هناك الكثير من الهموم التي تشمل الفردي والعام، بدءاً من المعوقات الكثيرة في طريق التعبير عن الذات بوضوح الى مشاكل التأقلم مع الحياة العامة. الى محاولة الحفاظ على شفافية وحماس سن الشباب، وحتى الحلم بالتأثير لخلق عالم افضل". عن سؤال حول العلاقة بين الزملاء والزميلات لم تكن هناك اجابات واضحة فمع ان أي زائر للمعهد يرى كماً من الحرية المبشرة بين الطلاب، تجد خلف اجاباتهم نوعاً من التشاؤم والخوف من التعبير عن حقيقة ما يكنون من مشاعر تجاه زملائهن او زميلاتهم كل حسب جنسه. في اجابة هيمى نعيم اسماعيل ثالثة تمثيل تجسيد لمعاني اجابات اصدقائها "علاقتي ممع زملائي جيدة جداً داخل الدفعة ولكن خارج دفعتي أي السنة الدراسية انا دائماً متوجسة ولا اعلم لماذا. ربما لاننا تربينا ان الممثلة دائماً مجال حديث الآخرين. ولكن مع ذلك لدي اصدقاء رائعون وأحرار بمعنى حرية التفكير والحرية من العقد. وهذا فيما اعتقد ميزة معهدنا". في الثقافة هم مثقفون عموماً فليس بينهم من لم يقرأ ولم يطلع ولكنها ثقافة ناقصة، لم تشكل لديهم وعياً كافياً للحياة كما ان وعيهم السياسي ناقص نقصاً كبيراً فحين طرحنا سؤالاً عن العولمة لم نجد لديهم فهماً كافياً لها، تضارب في الفهم وحماس احياناً لها دون وعي بما قد تصل بهم والى اين تقودهم. أخيراً كان هناك سؤال صعب حول التغيير، ما هي مشاريعهم ليغيروا الواقع الذي هم نتيجة حتمية له ايضاً لم نجد افكارا واضحة لديهم، كل لديه همومه الخاصة ومشاريعه الخاصة ولكن لم يبد ان لدى بعضهم مشاريع كبيرة للتغيير وللعمل على اكتشاف الذات والبحث عن مكامن الخطر الحقيقية. يقول عمرو سواح ثانية نقد"تكمن المشكلة اساساً، مشكلة التفكير بالتغير او الاقدام عليه، بمستوى التفكير السياسي والثقافي الذي يحكمنا فبقدر ما يتطور وعينا السياسي بقدر ما نكون قادرين على الفعل. لذلك ارى ان الخطوة الاولى في هذا الاتجاه هي تطوير فهمنا لما يجري حولنا والقراءة المعمقة في السياسة والثقافة عموما، لنصبح قادرين على التفكير الصحيح بالدرجة الاولى". خلاصة القول ليست الواجهة التي يختبئ خلفها المعهد، الحرية الخارجية طبيعة الدوام، نوعية العلاقات الاجتماعية هي التي يمكن ان تصنع معهداً مختلفاً، المعهد موجود ضمن منطقة جغرافية تعاني منذ فترة من ازمة وعي، من ازمة اقتصادية تشل تفكير اسر الطلاب وتنعكس عليهم، لاشك بان لكل منهم طموحه ولا شك ان هناك رغبات داخلية اكيدة في فعل شيء ما ولكن دون تنظيم ودون قرار بفعل شيء مشترك ومنظم وقد كانت تلك العثرة الاولى التي صرح بها الجميع نحن نحتاج لعمل مشترك لنقابة تمثلناولكن في الوقت نفسه ليس هناك حس بالعمل المشترك، جميعهم يشتكون ولكن لا احد يقدم على فعل شيء.