جدة – عبدالعزيز الخزام السؤال الذي لا يولد سؤالاً سؤال باطل لن ألوم «الشدوي» لو تَفَقَّدَ صلاحية مبنى مدرسي الطلاب المبتعثون هم فرصتنا الأخيرة لكي نتغير دخل الصحافة بالصدفة، وخرج منها بقوة النظام، إنه الدكتور سعيد السريحي، الذي تقاعد من العمل الصحفي هذا الأسبوع ببلوغه السن القانونية بعد 28 عاماً من العمل الصحفي المثير. هنا حوار مع السريحي الصحفي والناقد، الذي يعتبر علامة فارقة في مسيرة النقد الأدبي السعودي، ونتناول فيه عدداً من القضايا الصحفية والثقافية المختلفة: * قبل أيام انتهت علاقتك الرسمية بالعمل الصحفي، بسبب بلوغ السن القانونية. ما الذي سيبقى بعد تجربة 28 عاماً من العمل الصحفي؟ - ذهب العمر، فمن يعيد لي العمر الذي ذهبا. وبقي ما قدمته من خلال عملي لبلدي، وبقي ما قدمته لأولادي من خلال عملي. وليس في ذهني إلا شيء واحد أنني سأكون حراً من الالتزام تجاه أي جهة أعمل فيها، أو معها. ما الذي سأصنعه بهذه الحرية؟ ليس لدي أي مخطط سوى أنني مسرور بأن أقرأ، وأكتب، وأسافر. * كيف تتصور العلاقة التي ستربطك بالصحافة في الفترة المقبلة؟ - لا أعرف كيف ستكون، ولا مع من ستكون. لا أعرف إلا أنني أصبحت حراً لأتفرغ لمشاريعي المؤجلة. * تغريداتك الأخيرة في تويتر أثارت جدلاً واسعاً في الساحة الثقافية. هل يمكن لنا أن نضعها في سياق الدعوة لإعادة كتابة التاريخ ودراسته؟ - ليست كتابة للتاريخ. الذين يكتبون التاريخ في عصره لا يستطيعون أن يكونوا أمناء ودقيقين معه. هل بإمكاننا نحن على هذه المسافة أن نكتب التاريخ. هي دعوة لإعادة قراءة التاريخ، وإعادة كتابة التاريخ تعني أن نتفهمه حق الفهم. أن ندرك ما يمكن أن يكون مرتبطاً بخطاب العصر. أن ندرك كذلك الفجوات الموجودة فيه. أن نعرضه على العقل. أن نتقبل منه ما يمكن تقبله، وأن نرد منه ما ينبغي رده. علينا أن نقرأ التاريخ كما فعل ابن خلدون، وكما فعل المؤرخون الذين كانوا يدركون أنه ليس مجرد سير ذاتية. * إذن، أنت ترى أن «المحو» أهم من الكتابة. - أحيانا «المحو» أهم من الكتابة، لأن المحو إلغاء لكل ما يمكن أن يعد ثرثرة في القول. المحو هو ألا يبقى من الكتابة إلا ما هو جدير بأن يكتب، وما هو جدير بأن يقرأ. في المكتبة العربية، أصبحت الكتب كإبل مائة لا تجد فيها «راحلة». أصبح بإمكانك أن تتصفح كلاماً مكروراً معاداً، وكلاماً يتحدث صاحبه كثيراً، ولا يقول شيئاً. لو تعلمنا كيف «نمحو» لتخلصنا من تراكم المعرفة، ودخلنا في ما يمكن أن يكون تطوراً نوعياً للعلوم. * ولهذا أنت تطرح الأسئلة، ولا تجيب عنها يا دكتور. - أعتقد أن أسوأ الأسئلة هي تلك التي تمكن الإجابة عليها. السؤال الذي لا يولد سؤالاً هو سؤال باطل. * بعد هذه التجربة الثقافية الطويلة التي قمتم فيها بملء الفضاء العام، أين وجدت المجتمع السعودي بالمقارنة العالمية؟ - لا أدعي معرفة بالمجتمع السعودي، فضلاً عن العالمي. غير أننا نسير بخطى وئيدة، وبطيئة جداً، مقارنة بتسارع التاريخ، وتسارع الحضارات. نحن نتقدم خطوة، والعالم يتقدم مئات الخطوات. ورغم تقدمنا، أشعر أن المسافة بيننا وبين العالم تتسع وتتزايد. ولا أتحدث هنا عن المنجزات المادية بقدر ما أتحدث عن هامش الوعي لدى الإنسان، وإدراكه للعالم من حوله. لذلك رغم تقدمنا، أكرر، تزداد المسافة بيننا وبين العالم. * وهل من الممكن أن يشغلها 130 ألف طالب مبتعث الذين تراهن عليهم يا دكتور؟ - المبتعثون يشكلون تحدياً، وقد أثرت المسألة حينما وجدت في الصحف حديثاً عن توظيف المبتعثين، وكأن لا همَّ لنا إلا أن نوجد لهم الوظائف. قلت إننا لو لم نحصل من ال 130 ألف طالب مبتعث إلا على 130 ألف موظف، فإن ما أنفق عليهم هدر للمال العام. أردت أن أذكر بكلمة قالها محمد حسن عواد عام 1926م حينما كتب مقدمة كتاب «ماضي الحجاز وحاضره» لنصيف. خاطب محمد حسن عواد المبتعثين إلى مصر قائلاً لهم: لا تنشغلوا بالدراسة، انشغلوا بما يمكن أن يجعلكم عارفين بسبب تطور المصريين آنذاك. إذن، نحن نريد من المبتعثين أن يعودوا لنا بروح جديدة تنتمي إلى روح الحضارة والتطور في الدول التي ذهبوا إليها، وليس أن يعودوا إلينا بشهادات تمنحهم وظيفة في هذه المؤسسة، أو تلك الدائرة. أعتقد أن هؤلاء المبتعثين إذا أحسنا الظن بهم، فسيقودون تغيراً نوعياً، هذا باعتبارهم كتلة ثقافية تحمل تفكيراً إنسانياً مختلفاً. أما إذا عادوا كما ذهبوا فأعتقد أن تلك هي فرصتنا الأخيرة لكي نتغير. * بعد زيارتك الأخيرة لأحد المقاهي الثقافية في جدة «مقهى جسور»، وإلقائك لمحاضرة حول الشاعر نزار قباني، قلت إنك قد شاهدت شبابك الذي لم تعشه في وجه كل شاب قابلته في المقهى الثقافي. أريد أن أسألك عن قراءتك لتنوع أشكال وأساليب الثقافة الجديدة للجيل المعاصر؟ - اكتشفت في المقهى الثقافي أن المكان توشي جدرانه الكتب. لم أكن أدرك تماماً هل أنا في مقهى، أم في مكتبة. أدركت في المكان شبابا يتعلقون بالكتاب، ويتعلقون بالقراءة، وبالبحث عن أفق جديد للمعرفة. كان تجمعاً، ولم يكن فرداً، أو اثنين، أو ثلاثة. كان هاجسهم كيف يقرأون، وكيف يفكرون، وكيف يكتبون. لذا كانوا بالنسبة لي أنموذجاً للشباب الذين نتطلع إليهم، وأسفت كثيراً بعد ذلك أن يتم إغلاق هذا المقهى الثقافي، وكأنما نحن نغلق باباً من أبواب المعرفة، المعرفة العلنية التي تمكن متابعتها وتشجيعها ومراقبتها كذلك. * هل أغلق بسبب المحاضرة التي ألقيتها؟ - أغلق بعد أسبوع من المحاضرة. والمحاضرة ليس فيها شيء، فأنا أعرف ماذا أقول. وهي موجودة على الإنترنت، ولو كان فيها شيء لسئلت عنه. * هذا يقودنا إلى انتقادكم من علي الشدوي حول تحولكم للكتابة عن قضايا لا تجيدونها، فانطبق عليكم مفهوم المثقف من حيث كونه فضولياً يهتم بأمور لا تعنيه مطلقاً؟ - في هذه المسألة ربما اختلط على أخي علي الشدوي أن ما نكتبه بناء على فرص العمل، أو بناء على متطلبات العمل في الإعلام. ينبغي أن يؤخذ في هذا الإطار تماماً، كما لو أننا نلوم أخي علي الشدوي (يعمل مشرفاً تربوياً في إدارة التربية والتعليم بجدة) حول تفقد صلاحية مبنى من مباني المدارس لكي يقول إنه صالح للتعليم، أو غير صالح. ثمة متطلبات للعمل نقوم بها في إطار العمل، كأن نكتب تحليلاً سياسياً، أو قراءة لقضية اجتماعية، لكنها ليست هي الهم الثقافي الذي نسعى إليه. * في هذا السياق، ألا ترى أننا في حاجة إلى أن يعود مثقف «مدينة الأدب» إلى الواجهة؟ - المسألة لا تحددها أن نريد، أو لا نريد. المسألة تحددها حرية المنابر الثقافية. إيمان القائمين على المنابر الثقافية، وأعني بها الأندية الأدبية، وجمعية الثقافة، والصحافة، والقنوات الفضائية، إيمانها ب«مدينة الأدب» كما ينبغي لها أن تكون، وليس لمجرد أن تكون واجهة للتسلية، أو لاجتذاب المشاهدين للقنوات، أو لرفع العتب لما يعطى لهذه الجهة، أو تلك، من دعم، أو ما يعطى لهذا الشخص، أو ذاك، من مساحة للنشر. حينما يؤمن القائمون على هذه الواجهات الثقافية برسالة الأدب، فأعتقد أن مدينة الأدب ستعود إلى الواجهة. * كثيرون استغربوا عودة السريحي إلى نادي جدة الأدبي في هذا التوقيت بالذات! لماذا عدت إلى النادي يا دكتور؟ - حينما أعلن عن تأسيس الجمعية العمومية لم أسجل اسمي. شعرت بشيء من الأسى حينما أحتاج بعد هذا العمر كله إلى أن أكتب طلباً لكي ينظر فيه كما ينظر في طلب طالب تخرج هذا العام من قسم اللغة العربية. ربأت بنفسي عن أن ألتمس انضمامي لهذه الجمعية، غير أن الأصدقاء الأفاضل في الإدارة الجديدة منحوني ثقة، فدعوني، ولست بمن يدعى فيصد. منحوني ثقة أن أصبحت مسؤولاً عن رئاسة تحرير مجلة «علامات». ثم تداولت معهم في تكوين جماعة نقدية باسم «حلقة جدة للنقد»، ووجدت منهم تفهماً وقبولاً، فتكونت حلقة جدة للنقد، وهي من الأصدقاء محمد ربيع الغامدي، وعلي الشدوي، وحسين بافقيه، وبكر باقادر، وسعيد السريحي، الذين يعتبرون المؤسسين لهذه الجماعة. اجتمعنا أربع مرات، وتخلف عنا من الأصدقاء بكر باقادر، وحسين بافقيه، فلم يحضرا أيا من جلساتها، وانضم لنا أصدقاء آخرون يشاركوننا الهم نفسه، وستصدر ورقات الجلسات الأربع في العدد المقبل من مجلة علامات. إذن، عدت إلى نادي جدة، لأن ثمة من دعاني، وأنا أدين له بهذه الدعوة، وأشرف بإجابتها. * في عصر ال«فيس بوك» و«تويتر»، هل ترى ثمة تغيراً في دور المثقف في بيئتنا المحلية؟ - هناك توسيع لدائرة المتلقي. ومن شأن هذه الدائرة أن تمنح المثقف فعالية أكثر لخطاب شرائح مختلفة لا تنحصر في مكان، ولا جنس، ولا تنحصر كذلك في اختصاص. إضافة إلى ما تنعم به هذه القنوات من تفاعلية تمكن المتلقي من أن يكون مشاركاً في صناعة المعرفة، سواء برفضه لما يقال، أو بقبوله، أو مناقشته. إذن، هذه الوسائل حققت توسيع دائرة التلقي، وتفعيل دورة المتلقي. أعتقد أنها هي الوسيلة الأمثل الآن لتحريك الفكر، وليس تكوين اتجاهات فكرية. الشذرات التي يمكن بثها يمكن لها أن تشكل حراكاً فكرياً يقود في ما بعد إلى قراءات معمقة ودراسات موثقة يمكن لها أن تشكل فكراً، أو اتجاهات فكرية. * ومن يقوم بهذه الدراسات الموثقة؟ - المؤسسات الثقافية، وحركة التأليف والنشر، وما إلى ذلك. * التغيرات الهائلة التي تحدث في المجتمع المحلي لم تصل بالشكل المأمول إلى الحرم الجامعي. في رأيك، لماذا يستمر غياب الجامعة عن المجتمع؟ - الجامعة في وضع ملتبس. لا نستطيع أن نصفها بالبعد. دعني أستشهد بما يلي: محمد الثبيتي الذي ظل معزولاً من قبل المؤسسات الثقافية، سواء تمثلت في أنشطة الجامعات، أو في أنشطة الأندية الأدبية، والثبيتي هو الذي قدم حتى الآن ثلاث رسائل علمية عن تجربته الشعرية. هل بإمكاننا بعد ذلك أن نقول إن الجامعة معزولة. أعتقد أن الجامعات الآن أصبحت أكثر انفتاحاً على الحركة الثقافية. الجامعات تعاني فقط من تباين المناهج فيها، ففي الوقت الذي تنفتح فيه على كثير من المناهج، لا تزال السيادة لمناهج تقليدية. إذن، الجامعات أصبحت أكثر اتصالاً، وظل في بعض جوانبها وأروقتها من هو منفصل عما يجري حوله في الساحة الداخلية، أو في الحركة الثقافية العربية عموماً. * الشاعر سعيد السريحي، أين هو؟ - لا أعرف. إن لقيته فأخبرني. هو يأتي حينما يعن له أن يأتي، ويذهب حينما يعن له أن يذهب. لا أسأله متى يأتي، ولا يخبرني متى سيجيء. أعتقد أحياناً كثيرة أنه انتقل إلى رحمة الله، ثم أفاجأ به يخرج من الشباك. لا أعرف أين هو. إن قابلته فأخبرني. * ربما يحضر قريباً في ديوان شعر؟ - لا أعتقد، لأنه يحمل قصائده معه حينما يغادر، ولا أكاد أمتلك ورقة واحدة مما كتبه. * أخيراً، ما الذي تشتغل عليه الآن؟ - هناك كتابان أنجزا، ولا أفكر الآن إلا بالنشر. أحدهما عن العشق والجنون، وقد نشرت بعض ورقاته في الصحافة، وألقيت بعض ورقاته في محاضراتي، وكان آخرها محاضرتي في كرسي عبدالعزيز المانع في جامعة الرياض. أما الكتاب الآخر فهو يوشك أن يكون تجميعاً لخمسة أبحاث بعد إعادة النظر فيها، ووصلها ببعض عن «أيديولوجيا الصحراء»، وهو محاولة لقراءة كيف تأسس الأدب في المملكة العربية السعودية، بدءاً من كتاب «من وحي الصحراء»، حتى كتاب «ثقافة الصحراء».