في مطلع تشرين الثاني نوفمبر الماضي، تقدم نائب فلسطيني في الكنيست الاسرائيلي بمشروع قانون ينص على "مساواة الجماهير العربية في اسرائيل حسب القيم التي يجب أن تتحلى بها دولة ديموقراطية ومتعددة الثقافات، ومعاقبة كل من يخالف هذا القانون ويمارس التمييز ضد هذه الجماهير". وعندما بلغ المشروع مرحلة النظر من جانب مستشاري الكنيست القضائيين اقترح هؤلاء بكل بساطة واستخفاف للعقل أن تستبدل عبارة "ومتعددة الثقافات" بكلمة "ويهودية" فيكون الشطر الاوسط من القانون "حسب القيم التي يجب ان تتحلى بها دولة ديموقراطية ويهودية". لم يلاحظ قضاة الكنيست الذين يفترض انهم عدول، التناقض الصارخ بين مفهومي الدولة اليهودية والدولة الديموقراطية، وانه لو جازت المصاهرة أو الجمع بين هذين المفهومين لما كانت للعرب من حاجة لمثل هذا القانون اصلا، فالدولة التي تعلن بالقانون انحيازها أو انتماءها لارومة قومية بعينها، بينما تعرف أنها تضم في تضاعيفها أناساً لهم قومية اخرى مميزة لايمكن دحضها أو نكران وجودها، إنما تفصح عن طبيعة تمييزية ترقى احيانا الى العنصرية القحة. وتعود فضيحة هذا التمييز في الحالة الاسرائيلية إلى نص اعلان الاستقلال وقيام الدولة ذاته قبل واحد وخمسين عاما. فذلك النص الموشى بالركاكة القانونية لم يتمكن من ستر عورة النزوع العنصري لهذه الدولة، حين ناقض آخره أوله. فقد تحدث واضعوه في البداية عن اسرائيل كدولة لليهود داخل البلاد وفي المنافي، ولكنهم ناشدوا في نهايته "السكان العرب" المشاركة في بناء الدولة على أساس المواطنة التامة القائمة على المساواة والتمثيل المناسب في جميع مؤسسات الدولة الموقته والدائمة. ومع ذلك فإن هذا النص على فجاجته يسمح للنائب الفلسطيني وصحبه بمنازعة النظام الحاكم على بينة اقوى بكثير من التي يرجون الكنيست ان يمنحها لهم. والفكرة هنا أن اعلان الدولة يضمن لهم حقوق المواطنة المتساوية في صلبه، وبهذا فان المعاملة التمييزية التي اضطلعت بها قوانين الكنيست خلال العقود الماضية، جاءت كلها بالمخالفة مع ذلك الاعلان، وهو ما يعرف في الدول المحترمة بعدم دستورية القوانين. هناك تناقص آخر في نص الاعلان يمكن التشهير به من النواب الفلسطينيين في الكنيست والمفاوضين الفلسطينيين ايضا. وموضعه تلك الفقرة التي تبدي فيها دولة اسرائيل استعدادها للتعاون مع الاممالمتحدة وممثليها لتنفيذ قرار التقسيم واتخاذ الخطوات الكفيلة لتحقيق الوحدة الاقتصادية "لأرض اسرائيل بكاملها" فذلك القرار لم يشر اطلاقاً إلى أرض اسرائيل بالمفهوم الصهيوني ولا بغيره، وانما الى تقسيم فلسطين واقرار قيام دولة يهودية لم يسمها. وعلى كل حال، فان هذا الخلط القانوني والمفاهيمي الذي يحويه اعلان قيام اسرائيل، نظرياً يهون كثيرا مقارنة بما اضطلعت به قيادة هذه الدولة بعد ذلك من الناحية العملية. فممارسات اسرائيل العنصرية والتمييزية موثقة لدى كل الجهات المعنية بشرعة حقوق الانسان والمواطن بدءا من الاممالمتحدة نزولا الى منظمة بتسليم وحلقات ما يسمى بالمؤرخين الجدد في تل ابيب. ولهذا يبدو من المستهجن بعض الشيء أن يبدد النواب الفلسطينيون في الكنيست جهودهم القانونية والسياسية بالرغبة في فضح عنصرية هذه الدولة والتعريض بلا ديموقراطيتها. ترى هل يحتاج هذا الهدف الى مزيد من الامثلة والنماذج بعد كل الانتهاكات التي اقترفتها اسرائيل بحق الفلسطينيين داخلها وبحق العرب والفلسطينيين خارجها وكذا بحق بعض اليهود في الداخل والخارج فضلا عن القانون الدولي؟ ليس هنا في هذا الموضع الغمز في قناة المباريات القانونية التي يخوضها نواب فلسطين 1948 وقواهم السياسية داخل الكنيست وخارجه، من اجل مزيد من الكشف عن عنصرية الدولة اليهودية ومحاولة دفعها بوسائل النضال المدني الى حوزة الديموقراطية السلمية. غير ان جدوى هذا المدخل القانوني السياسي منفرد أمر مشكوك فيه، في دولة تأخذ بالايديولوجية الصهيونية. دولة يعتبر العصيان القانوني والسياسي سمة لصيقة بها منذ لحظة اعلان النشأة الاولى. يقول النائب العربي صاحب المشروع المومأ اليه، انه قد يلجأ الى المحكمة العليا الاسرائيلية في حال شطب مشروعه في الكنيست وكأن هذه المحكمة براء من الايديولوجية الحاكمة للدولة. ان الدول العنصرية تنتج مؤسسات على شاكلتها ومن صنوها. ومن المعروف ان محكمة اسرائيل العليا احد حراس ايديولوجية الدولة في مفهومها الصهيوني وليست حارساً قضائيا وحقوقيا لكل من أراد النيل من هذا المفهوم، ولن تعجزها الوسيلة للمرور بسلام من الاحراج الديموقراطي الذي يتطلع اليه البعض. لقد فعلت ذلك في قضايا اخرى كثيرة، بحيث كانت احكامها تأتي على مقاس الارادة السياسية للنظام الحاكم وايديولوجيته. ولمن يسأل عن البديل الاكثر جدوى، فإن منهج السعي الى اعادة تفعيل منظور وحدة القضية الوطنية الفلسطينية، مازال يحظى بصدقية عالية. فليس بلا مغزى ما لحق بهذه القضية من أضرار بعد تجزئتها الى قضايا منمنمة: فلسطيني 48 و67، فلسطيني الضفة وغزة، فلسطينيالقدس، فلسطينيي الملاجئ الذين يوصفون خطأ بالشتات. وهناك مخاوف تتلصص على استحياء من حدوث اختراق آخر، لنصحو ذات صباح على قضية لمسيحيي فلسطين ومسلميها، فالتذاكي الاسرائيلي قائم على هذا المحور، وليست قضية الناصرة ببعيدة. تقديرنا أن تغيير سياسة اسرائيل لا يتأتى بإحراجها أمام الخلق من مدخل لا ديموقراطيتها إزاء الفلسطينيين تحت السيطرة منذ العام 1948 أو 1967. لكنه ممكن حين تستشعر نخبتها الحاكمة بأنها مقبلة على أداء ثمن مادي يتجاوز التقريع الذي تعايشت معه مطولا ونجحت في امتصاص تداعياته اولا بأول. * كاتب فلسطيني.