خرج علينا الدكتور منير شماعة بكتاب لطيف ظريف "من الإقلاع إلى الهبوط" يروي قصة حياته. وقد قرأت الكتاب وأنهيته في ليلتين متعاقبتين. فمرحلة الهبوط بالنسبة إليّ تعني حسب تعريف غازي القصيبي "مرحلة مبكرة من الخرف" لأنني أصبحت أقوم في بهيم الليل متسللا الى مكتبتي لأقضي الهزيع الأخير منه في القراءة حتى أتوقف للاستماع الى آذان الصبح الجميل الذي تحدث عنه منير وأثره في نفسه وقد قرأت الكتاب في ليلتين متعاقبتين لا لشيء إلا لأنني فتنت به. الكتاب قصة طبيب عرف شدة الحياة ومراس الكفاح والمثابرة والنجاح. هذا ما يخرج به الانسان القارئ لأول وهلة، فالكتاب ببساطة لغته وتواضع اسلوبه يعطيك الانطباع الجيد والصحيح بأن صاحبه رجل متواضع يأسر القارئ بأمانته وصدقه مع نفسه ومع أصدقائه وأساتذته ومرضاه. لقد اعتدت انه عندما يستهويني ما أقرأ - كتاباً أو مقالاً أو قصيدة - اعتدت أن أضع ذلك جانباً لفترة قصيرة ثم أعود الى النص، أقلبه وأستقضي ما تركه من أثر في نفسي. ولكنني عندما انتهيت من قراءة هذا الكتاب، رجعت إليه بعد يومين أو ثلاثة لأستوعب أهم نقاطه، فإلى ذلك التواضع الملموس وتلك الصداقة والأمانة مع النفس ومع الغير التي تبرز في الكتاب ونحن العرب عادة نأخذ كثيراً من الأسرار الخاصة معنا الى القبر، يبقى سؤال لم يجب عليه الكاتب مع أنه موجود في خلال تلك الأسطر... هو... ما هي تلك القوة الخفية التي دفعت منير الى مرحلة الاقلاع؟ لا يجد الانسان في الكتاب أحلام اليقظة ولا تلك الرغبة الجامحة العارمة لكسب المال أو الجاه أو النفوذ أو السيطرة. تحس بأنه رغب في المادة كوسيلة للعيش وتحس أنه بعد أن تحقق له المال، وبعد ذلك الشقاء والحرمان نظر الى المال لا سيداً أو شريكاً بل خادماً يقوم بسد حاجة المعيشة المتواضعة. هناك أيضاً الانتماء والولاء للأرض، كانت أميركا مغرية بكل ما في الكلمة من معنى. هناك الغنى المادي وهناك الغنى العلمي والمستوى المهني. استشهد منير ببيتين من عيون الشعر العربي في كتابه وكأني به، وقد قارن بين بوسطن ورأس بيروت أخذ يردد وبصورة لا شعورية جوهرة من ذلك التراث وهي لزهير بن أبي سلمى: ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يستغن عنه ويذمم لم يترك هذا البيت أمامه أي خيار سوى العودة وليعيش خلال تلك الحرب القذرة ويقاسي الاختطاف والسجن والأذى. يجد القارئ تلك التجربة الفريدة التي لا يعرفها ولا يكترث بها الانسان العادي وهي العلاقة بين الطبيب والمريض. كل فرد منا أصيب في مرحلة من حياته بخلل في وظيفة أو أخرى من جسمه فذهب الى حكيم يتطبب ويتعالج. وكل من شفي منا أحس بذلك الامتنان والشكر لمن عالجه ولكن هذا الشعور ينعكس بصورة عامة على كل من مد يد المساعدة من المعلم الى الشريك الى باني البيت ولكن ما هو شعور الطبيب نحو المريض؟ الكتاب لا يوضح ذلك الشعور بصورة واعية وكأن الكاتب أبى أن يحمل مرضاه منه مشاعره نحوهم ولكن الشعور ملموس في صفحات الكتاب. تحس ان هذا الطبيب لم يعط مرضاه خلاصة علمه وحكمته، بل أعطى كل من ترك عيادته شيئاً ما من نفسه... أعطى صاحب الجاه والسلطان وأعطى الشيال الذي دخل عيادته. التراث العربي أعطى المعلم ما يستحق من التكريم والتقدير. ولكنه لم يعط الطبيب كل ما يستحق. كل فصل من ذلك الكتاب ينتهي باستنتاج أو درس أو خلاصة تجربة في حياة الكاتب ولكن ذلك مع الأسف الشديد لا ينطبق على الفصل الأخير. كنت أتوقع أن ألمس مشاعر منير بعد أن دحرج البرميل من السطح الى القمة، ولكن الكتاب قد خلا من ذلك. هل اكتفى الكاتب بالسعادة وغنى الحياة، وهو يدحرج ذلك البرميل؟ لا أدري؟ ولكن لا أملك إلا أن ألوم رياض الريس الناشر على هذا القصور. فالناشر ليس طابعاً فقط ومصمماً للغلاف ومقوماً للغة، بل هو شريك في تصور وقع الكتاب على القارئ. وحتى يكون القارئ على وضوح مما أعني كان على منير أن يجيب على عدد من الأسئلة التي وردت أو التجارب التي مر بها وكان على رياض أن يسأله عنها. بعد ذلك الانتماء القومي وبدع خيبة 67 ما هي نظرة الكاتب الى مستقبل الأمة العربية والعرب؟ الكاتب ليس حجة في التاريخ والعلوم السياسية ولكن ما هي مشاعره؟ يقال ان أحد مؤسسي الجامعة الأميركية نظر الى خارطة السلطنة التركية فوضع اصبعه على مدينة الموصل وهي وسط بين الامتداد الايراني - التركي وفي منتصف ما عرف بالهلال الخصيب. هل سيتغير تاريخ تلك المدينة أم ستتغير الجامعة الأميركية لو اختير ذلك الموقع!. طرح الكاتب السؤال عن العلاقة بين جو رأس بيروت والجامعة، ولكنه لم يثبت رأيه. ماذا في الكتاب!! عندما تركت فريق الباسي في المحرق الى رأس بيروت لم أحس بالغربة في أول الأمر فقط بل أحسست أنني تركت حياً بدائياً الى حي متمدن راق يعج بالحياة والتمدن والرقي. ولكن رأس بيروت التي وصفها منير لا تختلف عن فريق الباسي. نفس المشاعر، نفس الباعة، نفس البيوت التي لا تقفل أبوابها، نفس الشوارع غير المعبدة ونفس الترابط. وفوق كل ذلك الشعور بالانتماء والعائلة الموسعة. لا تحس ان الكاتب تعب في التفكير أو عسر عليه التعبير. منير يروي ذلك ببساطة وكأن الصورة واضحة هينة لا تحتاج الى تفكير عميق. وهذا ما أشعر به وأنا أفكر في الفريق في المحرق. وأخيراً ما هو تفسير ذلك الشعور بعدم الوسامة؟ لعمري ماذا سنقول نحن اخوانه وأصحابه ومريديه والسؤال الأخير ماذا تغطي تلك السخرية اللاذعة؟ ماذا يغطي هذا المظهر الخارجي الخشن لصاحب الكتاب؟ نحن في البحرين أدرى بالجواب، فنحن عندما نفتح المحارة الدميمة القاتمة، ذات السطح الخشن القاسي، فإننا نجد في داخلها تلك اللؤلؤة الجميلة المشعة بالقيم والوفاء. هذا شعور كل من عرف منير. * كاتب وسياسي بحريني.