بعدما رحلت لميا عن موطنيها الاولين، الكونغو، حيث ولدت، ثم النيجر الذي شهد طفولتها المتقدمة، حلت في لبنان مراهقة. يومها تمنت، وهي ما تزال على ظهر السفنية الزاحفة نحو ميناء عاصمته، أن يصير لبنان وطنها الثالث والأخير: لا لسبب، لحظتها، غير ما كانت بيروت تبثه فيها، وهي ما تزال على ظهر الباخرة، من ألوان وإطمئنان. لم يكن الأمر هيناً بالنسبة لها: ف"لبنانيتها" التي سمعت عنها في المهجر، لم تكن كافية لاستعادة محيط الطفولة وألعابها وصداقاتها. لذلك، وبعد سنوات من السعي، عملت فيها من أجل انتسابها إلى وطنها الجديد، قالت لميا لنفسها بانها تستحقه، فتشبثت به. وعندما بلغت السابعة عشرة من عمرها، كانت فكرة الوطن قد كبرت في رأسها: فراحت تحبه على طريقة الفتيات الصعبة والمتطلبة، والتي لا ترى حرجاً في طلب أي شيء منه. لذلك تذكرت أباها وبعض اخوتها وخالاتها وبنات وابناء خالاتها الذين بقوا في المهجر، وفكرت بأن وطناً بهذه الرحابة لا بد أن يسعهم ويستعيدهم منه. وسنتها، عندما جاءت الاعياد، أرسلت لأبيها بطاقة تلح فيها عليه بالعودة، مضيفة أن ما تتمناه للعام المقبل هو ان لا يبقى أحد من العائلة والأهل "خارج الوطن". بعد هذه البطاقة، تكونت في قرارة نفسها أمنية، اشبه بالنور، بقيت تتذكرها لسنوات. قالت وقتها "عندما يأتي العام ألفين، لن يبقى أحد من عائلتي وأخوتي وأهلي في المهجر". شغفها بالاسفار لم يكن وحده السبب في تأليف أمنية بهذه الغرابة، بل اعتقادها أن الامنيات لا تحتاج الى غير المزيد من السنوات. لكنها لم تكن بذلك تحسب حساب الحرب، التي تسببت برحيل اخوتها الثلاثة، الواحد تلو الآخر، وبعض من ابناء عمومتها وخالاتها، وكذلك الاصدقاء الذين تفرقوا بين القارات، فذبلت ملامحهم وراحت اسماؤهم عن بالها. وقد شهدت أثناء الحرب التحضيرات التي قام بها اخوتها من أجل السفر، بل ساعدتهم في بعضها: من الرحلات المبكرة الى الشام، حيث السفارة الاميركية، والانتظار منذ ما قبل الفجر على ابوابها، ثم المقابلة مع القنصل، والاسئلة التفصيلية، والاجابات المضطربة، ورحلة العودة الى بيروت، تحت القصف، وأغاني وردة الجزائرية المنبعثة من سيارة الاجرة، ثم رحلة مبكرة أخرى الى الشام أيضاً، للحصول على الفيزا، وعودة، وحجوزات، وأخيراً... المطار: آه كم صارت تكرهه ذاك المطار، مطار بيروت الدولي المتروك، وفيه لوعة الحشود، الدامعة عيونها والمرهقة في الوداع وفي مواكبة المسافرين بعيداً... خاب ظنها طبعاً، وفي نهاية كل سنة، مع طقوس بطاقات الاعياد، كان حلمها يعود إليها، فيشتد كربها وتقول لنفسها إنها ربما أخطأت في تقدير رحابة وطنها الاخير، سيما وان بطاقات الاعياد كانت تزداد عدداً طوال سنوات الحرب. لكنها استطاعت في اواسط هذه السنوات ان تعيد إحياء امنيتها، بأن اعتبرت الحرب هذه فاصلاً، سوف يمر، ولا بد يوماً أن يتوقف القتال، فيعود جميع من رحل. هكذا انتظرت لميا نهاية الحرب بشوق وايمان: فكانت تردد لغيرها ولنفسها ما شاع آنذاك، من أن لبنان سوف يعود على ما كان لحظة سكوت مدافع الحرب. وهي جملة أشعلت خيالها، فأنستها أن جديها وخالاتها واخوالها واخاها الكبير، كلهم هاجروا قبل الحرب. وبنسيان هذا الامر، تأجج حبها لوطنها من جديد، وصارت تعامله معاملة دينية: إذ كلما تعرضت، هي واولادها للخطر، زادت تمسكاً به. كانت تعتقد أن بقاءها سوف يكسبها ثواباً، تحقق بفضله حلمها المتزايد صعوبة. وعندما جاء السلام، قالت لميا إن الامر لم يعد يحتاج، فعلاً هذه المرة، الا لبعض الوقت: فراحت في السنة الاولى ترسل البطاقات الى هنا وهناك، داعية اخوتها وابناء خالاتها وعمومتها واصدقاءها الى العودة. كانت لميا آنذاك قد بلغت السابعة والثلاثين من العمر، وهي ما زالت على قدر من الحماس لأمنية مضى عليها عقدان، تنقصها ربما الحكمة التي تثنيها عنها، فتخفف عنها ثقل ما سوف يحصل، خاصة وانه ما ان انقضت السنة الاولى من السلام، حتى عاد من الاقارب والاصدقاء ما أنعشها وجعلها تفكر بأن ما تبقى من الاعوام كفيل باستعادة الجميع. لكن السنتين الثانية والثالثة قللتا من توقعها: فالاصدقاء والاقارب العائدون من المهجر رجعوا إليه. منهم من سلكت هجرته الطريق نفسها، ومنهم من اختار مهاجر أخرى، وبعد ذلك كرت السبحة. ورحل الاقربون: والدتها التي تعبت من ضوضاء السلام، وشقيقتها التي يئست، هي وزوجها من مصادر الرزق المحلية، وصديقتها، موثّقة المكتبات التي لم تتوفر لها أسباب القيام بمهنتها، كلهم حزموا أمرهم ورحلوا. ثم اصابها الاغتراب في عقر دارها، فقال لها ابنها يومآً بأنه راحل الى اميركا، عله يجد فيها ذاته، بلا تدخل من "المذاهب والمحسوبيات والوساطات"، وهي جملة رددها كثيراً، هو ورفاقه، اثناء تحضيره، الشاق ايضاً، لاجراءات السفر المختلفة. هكذا، وبعد مضي سنوات على تجدد حلمها، وجدت لميا نفسها وحيدة في بيروت، لا تعرف ماذا تفعل بحماسها الهالك: كانت تتصور أنها مع بلوغها السابعة والاربعين، سوف تركن الى محيط أليف، تتقاسم مع أناسه الحكايات والنميمة، فيتذكرون وتتذكر، يحتضنها الاطمئنان نفسه، والألوان نفسها التي اوقعتها بحبها له، لحظة رأته، وهي طفلة، على ظهر سفينة زاحفة نحو ميناء عاصمته. لا تعرف ماذا تفعل. وقد بهت حلمها وبعدت ملامحه: أتواسي نفسها وتسلّيها بأن تحمد ربها على بقائها هي في وطنها الاخير؟ ام تطوي اوهامها ولا تتغاضى عن انه مهجور، وعن انها لا تألف ناسه الجدد؟ لكنها كانت تتخلص من حيرتها بأن تقر لنفسها انها هي ايضاً وقعت في شرك الشتات الطويل. وعندما كان يأخذها شوقها الى ابنها بعيداً، فتقلّب صورة قديمة وتشم رائحة ثيابه، كانت تشعر أنها غير قادرة على التعقل... غير قادرة على الاقتناع بجملة قالها أديب كبير ويرددها ابنها على الهاتف، من أن اولادنا ليسوا لنا. لم يكن يعقلها هذا القول، فتسأل نفسها، منصتة الى أعماقها، محاولة ان تفهم سر نفورها من حكمة راسية تفوه بها أديب متنور عرف الشهرة العالمية، وترجمت أعماله الى عشرات اللغات. كانت تقول لنفسها إنها ربما بالغت في تخيل أمومتها، لكنها كلما أعادت التنصت على ذاتها، غمرتها أشجانها وهزال عقلها، فراحت تقول لنفسها انها ربما ليست في مقام هذا العصر. وبعد فترة من الاخذ والرد بين عقلها وقلبها، قالت لميا انها اكتشفت الضالة: فأعلنت لنفسها أن الحِكم التي تحاول اقناعها بغربة ابنها واحبابها ليست سوى طريقة لإخجالها من حلمها وتسخيف عواطفها، فراحت تتساءل عما إذا عرف صاحب القول، جبران خليل جبران، اشياء عن الحياة غير عذابه الخاص ومجده الادبي. هل عرف الغبطة بأن يكبر اولادك بجانبك، وان تكبر انت معهم، أن ينجحوا او يخفقوا، وان يكون لهم ما يلوذون اليه في افراحهم واتراحهم؟ واشياء اخرى كثيرة؟ لذلك أخذ خجلها من عواطفها البائسة يضعف يوماً بعد آخر، وانقلبت الامور، فصار قلبها يفكر عن عقلها، وراحت ترسل المرسال تلو الآخر لجميع قاطني الشتات، خاصة ابنها، الذي روع لحظة وصوله الى اميركا من المسافة الشاسعة الفاصلة بينه وبينها. قالت له: تعال، لعلك تجد ما تشغله هنا... ثم ارسلت في رأس السنة الماضية البطاقات والتمنيات... لكن جوابا من أخيها الكبير أربك إلحاحها، فكتب لها: "عدت الى بيروت منذ سنتين. ليس فقط تلبية لامنية عندك، بل لأنني مشتاق لها بعدما رحلت عنها وهي تُقصَف بالمدافع. لكن اقامتي القصيرة جعلتني افكر بأن لبنان هو من نوع الاوطان التي خلقت لنشتاق اليها فحسب. من حينها ولميا مشغولة بمعرفة الاوطان القريبة منها، تدقق بأحوال ابنائها وتراقب وقفاتهم الحاشدة امام سفارات بلدان الهجرة، لعلها بذلك تخفف عن كاهل وطنها الاخير. فتجد له الاعذار التي تمنع جانبه. وهي اليوم، من شقتها في الدار البيضاء، تلاحظ أن وطنها لم يكن سوى الطليعة في إكراه ابنائه على الرحيل. فما شاهدته في العواصم العربية، وما سمعته عن ابنائها ينذر بتحول قول جبران الحكيم "اولادكم ليسوا لكم" الى طريقة في العيش: ترمي بمواطن الامهات والآباء في تهلكة الاسرار المخجلة، فتحث اشواقهم، وتحولهم الى جيش مطواع من المولّدين المصدرين لابنائهم نحو بلدان الوحشة والصقيع.