الحادية عشر والنصف ليلاً بتوقيت بيروتودمشق، بعد يوم طويل من المواقف المهدّدة بتوجيه ضربة عسكرية لسورية، تغنّي فيروز: "آه يا شام... لبنان حبّي غير أني لو توجّع الشام تغدو حبّي الشام".. ينتهي بث الإذاعات اللبنانية الواحدة تلو الأخرى، "بالغار كُلّلت أم بالنار يا شام"... تُنهي برنامجاً على إحدى الإذاعات اللبنانية. وتستمر فيروز بالغناء على إذاعة أخرى، وثالثة ورابعة... وصلات فيروزية تمهّد عادة لليل هادئ. تباغتني ذكرى صديقي السوري الذي كتب أنه صدم لأننا في لبنان لا نستمع إلى فيروز بقدر ما يتسمعون إليها في سورية، وأنه "إذا اندثرت سورية ... سيندثر هذا التقليد". أين هو الليلة ليسمع الإذاعات اللبنانية؟ الليلة، تبدو فيروز "ناطقة باسم الشام"، كأنها تريد أن تقول شيئاً، أن تنعي شيئاً فيها... فيهم... فينا... كأنها تدق طبول الحرب بصوتها!.تجتاحني رغبة قوية للصراخ، لا للغناء معها. فيروز تغنّي... وأنا أصرخ. أصرخ على آلاف سقطوا سدى، على مفجوعين، على هاربين، على ضائعين، على لاجئين، على نازحين خائفين هناك، على صامدين، على أشخاص باتوا أعداداً وأسماءهم تفصيل... أصرخ على يامن الذي لم يخرج من الشام إلاّ لحضور حفلة ل"أميمة الخليل" في بيروت قبل أربع سنوات، ويصرّ على البقاء في شقة تهتزّ طوال الوقت على وقع القصف... على ما تقوله منال عن الأدرينالين الذي يعيشون عليه يومياً في دمشق وعلى زجاج سيارتها الأمامي الذي تحسبه شاشة سينما ترى من خلال مشاهد خيالية... أصرخ على تخاذلنا لسنتين ونصف، على كل ما كتبناه في العالم الافتراضي ظنّاً منّا أننا نشارك في التغيير... على كل وقفات إضاءة الشموع التافهة... على اعتصامات بلا جدوى... صراخي يعيد أليّ ألمي حين طاول حزام ذلك "الشّبيح" في شارع الحمرا كتفي وهو يضرب أحد الناشطين اللبنانيين، مردّداً عبارته النابية "بدّك حرية يا أخو..."، يداهمني ألم كتفي من جديد. الليلة تشبه ليلة غزو بغداد. مع فارق أنّي الآن أكبر سنّاً، وتعيش في منزلنا عائلة عراقية لاجئة هي ليست سوى عائلة خالتي وأولادها الذين هربوا من موت محتّم في العراق... خالتي التي بقي أولادها عراقيين، ليس فقط لأنها لا تستطيع منحهم الجنسية في "وطن النجوم"، بل أيضاً لأنهم يشعرون أنه لم يبقَ من وطنهم سوى جنسية والكثير من الألم والذكريات عن بلد جميل عاش أبناؤه تحت السيف بوئام ومحبة. الليلة تُقرع طبول الحرب في كثير من عواصم العالم، ولا يزال المسؤولون السوريون يواصلون الحديث عن "الوقت المناسب" للكثير من الأشياء من بينها إثبات "براءة" نظامه من قصف الغوطتين... الليلة ستكون ليلة الأرق الأولى في حياتي، أنا التي أنام واقفة أحياناً... الليلة ستسمح لي أمّي أن أستعير اكتئابها الذي لم تشف منه، أو ترفض أن تشفى منه منذ سنوات... الليلة سأعد صواريخ "الكروز" بدل النجوم... في محاولة يائسة للنوم!.