اهل القمة من متنسمي نشوة الابداع والسبق، وان جاؤوا من آفاق مختلفة، الا انهم يبقون من بعض الوجوه، اصحاب دعوة واحدة. فكمال الشاعر الذي ودعه بالامس الأردن ولبنان والعرب، كصاحب دار الهندسة وأحد اكبر رجال الاعمار والاستشارات الفنية في المنطقة ومن اكابرهم في العالم، حمّل نفسه الدعوة ذاتها ازاء العالم المتقدم التي كان قد اعتنقها المخرج السينمائي اللبناني المصري العالمي الشهرة يوسف شاهين، وهي التنافسية. ليس المهم ان تكلف نفسك بأن تكون مع الغرب او ضد الغرب، بل المهم ان تتوفر في انتاجك صفة التنافسية معه. فليس عربياً كبيراً في اي مجال من المجالات، من لا يملك في مواجهة انتاج العالم المتقدم صفة التنافسية هذه التي لا تغني عنها لا العدائية الغضوب ولا الالتحاقية الذيلية. تتميز مدينة بيروت في طليعة ما تتميز به ببعض الجامعات ذات المستوى الرفيع، كالجامعة الاميركية والجامعة اليسوعية اللتين يعود اليهما الفضل في ادخال المقياس العالمي لأذهان نخب وطلائع مستنيرة تحرص على ان تكون في مدينة بيروت بالذات، مؤسسات تعيش فكرياً وعملياً مستويات هذا العالم، وتحاسب نفسها على هذا الاساس، فهي من هذا العالم في تطلعاته ومقاييسه، وليست فيه جغرافياً فحسب. وانطلاقاً من ذلك، قامت في بيروت المؤسسة الشهيرة المعروفة بدار الهندسة برئاسة مؤسسها الفذ، فقيد الأردن ولبنان والعرب بالامس، الدكتور كمال الشاعر الذي قضى بعد ان كان قد اقام في بيروت بالذات اول مؤسسة من نوعها في المنطقة. والواقع ان دار الهندسة اضافت كثيراً الى سمعة لبنان النهضوية في محيطه، على نحو ما فعلت في لبنان من قبل بعض الظواهر الاخرى، كالصحف والمجلات والنقابات ذات الدور الطليعي الرائد في الحياة العربية العامة الاهلية والرسمية. وقد كان الاصطياف في لبنان الجبل منذ زمن مبكر، سبباً لأن تتجمع في ربوعه وليس في العاصمة بيروت فقط، نخب ثقافية واجتماعية لبنانية مهاجرة وعربية بارزة، تجيء اليه موسمياً لتنعقد فيه الحلقات الراقية وتتم اللقاءات والاحتفالات في مصايف لبنان ومدنه بتدبير عربي ومحلي وغير تدبير، وكلها مشحون بنفس غير محلي بالمعنى الضيق، مفتوح دولياً على العرب والعالم. كان العربي متوسط الدخل انذاك، الذي لا يتيسر له المجيء الى لبنان ولا يتعرف عليه بشكل مباشر، يعتبر نفسه محروماً من معرفة الكثير مما في العالم العربي من متع وفرص وطيبات واختراقات ادبية وسياحية معولمة قبل عصر رواج هذه الكلمة. كان لكل جهة من جهات الجبل اللبناني زوارها. فمن لا يزور من الاخوة العرب لبنان، وخاصة في الصيف، زيارات مبرمجة وطويلة، يكون قد فوت على نفسه فرصة، لا في معرفة لبنان فحسب، بل في الاتصال بواسطته بعرب ايضاً غير لبنانيين. وليس في لبنان الآن شيخ مسن، سواء في الجبل او المدينة، الا ويذكر تلك المناسبات الجامعة التي كانت تقدمها له زيارات العرب لوطنه. وقد لعب بعض اللبنانيين ممن كانوا يبنون صداقات مع اخوة عرب من ديار مختلفة، دوراً كبيراً في تقوية العلاقات الاخوية بين لبنان وعالمه العربي، بل ان من الزوار العرب من اصبح يعرف لبنان وخصائصه اكثر من اللبنانيين، والعكس بالعكس. ونادراً ما كانت القرى الجبلية، لاسيما قبل تمدد العاصمة بيروت جنوباً وشمالاً وعمقاً باتجاه الجبل، تخلو من مترهبين للادب وشعراء موهوبين. ففي قرية المريجات مثلاً، اول قرية جبلية من جبل لبنان القديم وانت صاعد اليه من البقاع، كنت تلقى بيت قيصر المعلوف، صاحب قصيدة عليا وعصام الشهيرة، وبعد خمسين متراً، تلقى بيت اللبناني الاديب المهاجر الى مصر، ابن المريجات، فيليكس فارس، مترجم كتاب الفيلسوف الالماني نيتشه "هكذا تكلم زاردشت"، ذي العلاقة بالترويج لمجيء النازي الى المانيا وبداية عصر هتلر ذي الشعبية الواسعة في ارض العرب والشرق. كانت شخصيات سورية ومصرية وعراقية تتواعد من موسم صيف الى آخر لتتلاقى في هذه القرية المسيحية الدرزية التي كانت تجهز نفسها من عام الى عام لاستقبال كبراء عرب كالشاعر العراقي معروف الرصافي او بعض شعراء المهجر من آل المعلوف او غيرهم من افذاذ لبنان ومهاجره. كان اول ما يقال للعربي الآتي الى المريجات من الشرق عبر البقاع: انتبه! انت الآن تخطو الخطوة الاولى في جبل لبنان!. كانت للكلمة هذه رنة في اذن كل من يسمعها من الاخوة العرب. فلبنان في نظرهم آنذاك هو جبل لبنان، صاحب النداء الاول في نهضة الامة العربية. ولم تكن كلمة الانعزالية قد ولدت بعد، متوجهة للتقليل من شأن الجبل اللبناني ودوره في تاريخ العرب والامة. فيليكس فارس وقيصر المعلوف، الاسمان الكبيران في تاريخ لبنان الادبي والشعري، لم يشهرا لبنان بالطبع كما شهره زائره امير الشعراء احمد شوقي، المصري العربي، صاحب المعرفة الادق والاكثر علمية في فهم البسيكولوجيا اللبنانية. فهو الذي قال في زحلة وناداها: يا جارة الوادي، طربت وعادني ما يشبه الاحلام من ذكراك سابقاً متفوقاً في امتداحها على شعرائها العباقرة. كما ان شوقي هو الشاعر الذي بز بين الشعراء كل عالم بيسكولوجي بإنصافه بني معروف بقوله الدقيق دقة الفن والعلم: وما كان الدروز قبيل شر وان أُخذوا بما لم يستحقوا ولكن ذادة وقراة ضيف كجلمود الصفا خشنوا ورقوا قد قال احد النقاد ان شوقي بلغ في ذلك الزمن من دقة الحرفة في بعض ما قاله من الشعر في لبنان، ما لم يترك به شيئاً ليقوله سعيد عقل في مسقط رأسه زحلة، ولا ترك شيئاً لأمين نخلة ليقوله في مواطنيه وبني قومه دروز الشوف. وهنا، لا بد من الاستطراد الى القول ان بعض ما قاله الشعراء العرب من مصريين وسوريين وفلسطينيين ومغاربة في لبنان وجماله الطبيعي وحيوية مجتمعه، لا يرقى اليه ما كان قد قاله فيه بنو قومه عن وطنهم، فقد كان لبنان دائماً من المواضيع المشوقة للقرائح العربية. وحين حدث مؤخراً ان انتقل الى رحمة الله، رجل البناء والعمران والعلم، الأردني العربي الشهير، نزيل لبنان لمدة طويلة ، الدكتور كمال الشاعر، شعر لبنان انه هو لا غيره، اول المصابين. فمن لبنان اطلق الأردني والعربي الكبير، الدكتور الشاعر، اول مؤسسة للاستشارات العمرانية في العالم العربي، المعروفة محلياً ودولياً وعالمياً بدار الهندسة. منطلقاً من التقدير بأن أحد اهم ما يحتاجه العالم العربي في تطوره العمراني والحضاري، دار استشارات هندسية عربية، جاعلاً من هذه المؤسسة ظاهرة انتماء للعصر الذي يعيشه العرب مسبوقين، وربما أيضاً مسوقين للحاق بالزمن الذي هم فيه، من غير ان يكونوا في طليعته. وقد مر لبنان بأحداث وحروب داخلية كانت تدمر فيه ولا تعمر، بل كان يبدو أحياناً للكثيرين انه لا يوازي قدرة لبنان على التقدم، الا قدرته على تخريب كل خطوة كان اهله وعبقريتهم قد انشآها له. ولعل فضل الأردني الكبير، بل العربي الكبير كمال الشاعر، انه أنشأ تلك المؤسسة التي تترجم واقعياً وعلمياً معنى كلمة "لبنان بلد طليعي" في المنطقة. فلبنان لا يجوز، كما كان يقول الشاعر، ان يستمر كما هو، يهدم بيده ما يكون قد بناه بيده الاخرى. ليس المهم ان نكون مع الغرب او ضد الغرب، بقدر ما المهم ان نكون مثل الغرب في عقله المؤسساتي وفي ادائه، وان نكون مثله تنافسيين، لا تابعين بالضرورة، ولا خصومة. وهذه الرسالة حملها الينا كمال الشاعر كما حملها الينا كل مدرك لروح العصر ولأهمية التنافسية في الاداء، سواء السياسي او العمراني او الادبي، او النظري العقائدي. ما قاله لنا كمال الشاعر، في ما بنى واسس من مؤسسة استشارية، قاله لنا بلغة اخرى وفي مناسبات اخرى، كبار آخرون حملوا رسالة تقول انه ليس المهم ان ننتج كمياً، سواء في العمران او الفن او الادب، بقدر ما هو مهم ان نكون تنافسيين في انتاجنا، منتمين الى حركة العالم. كل الكبار من فاهمي العصر والحريصين على كرامة امتهم ومستقبل شعوبهم، سواء في العلم او في الفن، او في سائر معالم الحضارة، ادركوا اولوية التنافسية في مستوى الاداء المطلوب على سائر المواصفات المتاحة ولكن المدمرة، كالضدية العمياء للغرب او الالتحاقية العمياء ايضاً له. ما قاله لنا فقيد الأردن ولبنان والعرب كمال الشاعر ، كرجل اعمار وبناء وتقدم في شروطه على نفسه وعلى انتاج دار الهندسة التي انشأ، بأن يصر دائماً وفي كل حال، على القدرة في منافسة المؤسسات الغربية العالمية بادائها وخدماتها، كان قد قاله ايضاً منذ سنوات راحل كبير ايضاً، وان في مجال مختلف، هو المخرج السينمائي العالمي، والفنان اللبناني السوري المصري يوسف شاهين، الذي كان قد اعلن منذ سنوات في خطبة له في تنورين، تكريماً لابنها الشهير المهاجر الى مصر اسعد داغر، انه ليس المهم ان ننتج افلاماً نقيضة لافلام الغربيين، ولا افلاماً مماثلة، بل المهم ان يمتلك الانتاج السينمائي العربي الصفة التنافسية، وهذا ليس مستحيلاً، بل هو مطلوب كبديل وحيد عن اليأس والشلل والشك بالذات.