وحده جون ماكين، عضو مجلس الشيوخ في الكونغرس عن ولاية اريزونا، من يستطيع بنجاح استقطاب قسم كافٍ من الناخبين الجمهوريين في ولاية نيو هامبشير، ليشكل تحدياً جدياً لجورج دبليو بوش، حاكم ولاية تكساس، والذي ترجح التوقعات فوزه بترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية. يذكر هنا أن ولاية نيو هامبشير هي المحطة الأولى في سلسلة الانتخابات التمهيدية التي يجريها كل من الحزبين الرئيسيين في الولاياتالمتحدة الديموقراطي والجمهوري على حدة، لاختيار مرشحه للانتخابات الرئاسية التي ينتظر أن تجرى في موعدها في تشرين الثاني نوفمبر من العام المقبل. وأولية نيو هامبشير جعلت منها أولوية لمختلف المرشحين في كل دورة انتخابية، إذ غالباً ما يكتسب الفائز فيها بروزاً اعلامياً وحضوراً جماهيرياً في سائر الولايات، يترجم نحاجاً في جمع المساهمات المالية لحملته، ثم زخماً يمكنه من الحصولر على ترشيح حزبه. فجون ماكين، الذي رصد معظم ما تمكن من جمعه من أموال انتخابية لمواجهة جورج دبليو بوش في نيو هامبشير، يأمل ان لا يخرج عن نمط الفوز الذي تحقق لغيره من بعدها. وعلى الرغم من التفوق الكاسح الذي حققه جورج دبليو بوش في حصد تأييد الشخصيات الحزبية الجمهورية، وفي جمع الأموال الانتخابية متجاوزاً الأرقام القياسية لما سبق، وعلى الرغم من شبه الاجماع في الأوساط الإعلامية والسياسية المختلفة على ترجيح فوزه بالترشيح والرئاسة، فإن امكانية نجاح التحدي الذي يشكله جون ماكين ليست معدومة، بل أن لماكين من المعطيات الموضوعية ما يمكنه من إسقاط بوش، في حال جرى استثمارها بالشكل المناسب. فجون ماكين، في رأي العديد من أصدقائه وخصومه على حد سواء، ليس مجرد رجل سياسي عادي، بل هو نموذج للبطل الذي تصبو إليه المخيلة الجماعية الأميركية. ولد جون ماكين عام 1936، في أسرة تميز أفرادها بالخدمة في سلاح البحرية، إذ بلغ كل من والده وجده رتبة أدميرال. والتحق بمعهد البحرية الأميركية في مدينة أنابوليس، وتخرج منه ضابطاً عام 1958، وشهد معارك عدة في حرب فيتنام، إلى أن وقع في الأسر عام 1967. وأمضى ماكين خمسة أعوام أسيراً في هانوي، تعرض خلالها لشتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، بدءاً بحبس انفرادي في زنزانة ضيقة لفترة تجاوزت العامين ونصف العام. إلا أنه بعد نقله إلى السجن الجماعي، وبشهادة رفاقه فيه، جهد للمحافظة على رباطة جأشه وسعى لتثبيت عزم سائر نزلاء "هيلتون هانوي"، أي أسرى الحرب الأميركيين في الأقبية التي أودعوا فيها. ويذكر البعض منهم انه كان لهم بمثابة القائد عند حاجتهم إلى التوجيه والتنظيم، ورجل الدين في مواجهة الخوف واليأس في وسطهم، والمحدث والراوية ازاء الملل الذي أحاط بهم. وحين عقدت السلطات الفيتنامية والأميركية صفقة تضمنت الافراج عن بعض أسرى الحرب الأميركيين، جرى اختياره في عداد الذين سيفرج عنهم، نظراً إلى منصب والده، إلا أنه رفض مغادرة سجنه إلا بصحبة كافة الأسرى. تحرر ماكين من الأسر عام 1973، وعاد إلى الولاياتالمتحدة حيث نال أوسمة عدة لمسلكيته ومناقبيته في فيتنام، إلا أن الأسر والمعارك كانت أنهكته روحاً وجسداً، وكادت أن تقعده، غير أنه تجاوز محنته، ثم انخرط في النشاط السياسي في مطلع عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان في اوائل الثمانينات، ففاز بالنيابة عن ولاية اريزونا في الكونغرس من 1983 إلى 1987، حين جرى انتخابه عضواً في مجلس الشيوخ في الكونغرس. وتميز ماكين في الكونغرس بالاعتدال والسعي إلى التوافق من حيث المضمون، وبالصرامة والحدة من حيث الاسلوب. وهو لا يجد تناقضاً في هذا الاختلاف، بل يعتبر أن حدّته تعبير وحسب عن حرصه المبدئي على تحقيق الصالح العام. وعلى الرغم من تقديره الفائق لنهج الرئيس ريغان، وهو الخط المحافظ الذي يعتبره منظرو الحزب الجمهوري العامل الأول في نجاح حزبهم في العقدين الماضيين، فإنه لم يتردد في الوقوف إلى جانب بعض الديموقراطيين لدعم مواقف لا تحظى بالاجماع في حزبه، لا سيما منها مسألة التمويل الانتخابي وضرورة إصلاحه ووضع القيود عليه وتفصيل السبل لمراقبته. والواقع ان ماكين "وسطي" على أكثر من صعيد. فهو يعارض الاجهاض، لكنه يرفض أن يجعل من الموقف منه معياراً لتعيين القضاة، كما يرغب المحافظون الاجتماعيون في الحزب الجمهوري. وهو يؤيد الاصلاح الضريبي ويشاطر محازبيه الدعوة إلى خفض الضرائب، لكنه لا يطالب بتحويل كامل الفائض في الميزانية إلى حسم ضريبي. وهو يرغب في تطوير الضمان الاجتماعي وصيانته، لكنه يبتعد عن الصيغ الجذرية التي يقترحها بعض الجمهوريين في إطلاق صندوق الضمان للاستثمار في الأسواق المالية. وهو يطالب بإعادة النظر في الدور الأميركي في السياسة الدولية، لكنه يرفض الدعوات إلى الانسحاب من هذا الدور، بل يصر على تفعيله لا سيما في ما ينعكس على تعزيز القدرة الدفاعية للولايات المتحدة وفي ما يتعلق بمحاربة "الدول المارقة". جون ماكين هو إذن "البطل"، وهو "صاحب المبادئ"، وهو "رجل الوفاق". لكن جون ماكين، بالنسبة للعديد من الأميركيين، هو رجل مجهول، فيما منافسه بوش معروف، باسمه على الأقل. فالاخير لا يزال، في استطلاعات الرأي، يتفوق بوضوح على ماكين من حيث التأييد بشكل عام. ولكن عند مقارنة الانطباع عن كل من هذين المرشحين في أوساط الجمهور المطلع على سيرتهما، فإن نسبة الانطباع الايجابي عن ماكين تتجاوز بشكل ملحوظ نسبته عن بوش. وفي حين يبذل القائمون على حملة ماكين الانتخابية جهودهم لتعريف الجمهور به، أقدمت جهات منافسة على تعميم تقارير وأخبار تشير إلى عدم أهليته للرئاسة، نتيجة اختلال في شخصيته عائد إلى سنوات الأسر وضررها النفسي عليه، أو على الأقل لسوء طباعه، كما يتبين من فورات الغضب التي يشتهر بها. وعلى الرغم من إسراع ماكين في الكشف عن سجلاته الطبية التي تؤكد أنه تمكن من تجاوز عواقب التجربة المرة التي تعرض لها في فترة زمنية قصيرة جداً بالمقارنة مع توقعات الأطباء، فإن من الصعب تبين ما إذا تمكن من تطويق النتائج السلبية الناجمة عن حملة التسريب والتشهير التي تعرض لها. والمستفيد الأول من هذه الحملة هو طبعاً جورج دبليو بوش. والواقع ان بوش بأمس الحاجة في مواجهة ماكين إلى تحصين مواقعه. فماكين مؤهل أن يتفوق عليه ليس بناء على سيرته "البطولية" وحسب، بل أيضاً لعمقه الخطابي وقدرته على تحريك المشاعر والإجابة المستفيضة الدقيقة عن الأسئلة المطروحة، مقابل التلكؤ والتردد والهفوات التي تكاد أن تصبح من السمات الدائمة لصورة بوش. أما ماكين فهو أمام معضلة ازاء التعاطي الاعلامي معه. فالاهتمام به، بصفته المنافس الأوحد الجدي لجورج دبليو بوش، يؤمن له بعض الحضور الذي ينقصه، لكن المنحى الذي يتخذه هذا الاهتمام منذ حملة التسريب، هو منحى "منفسن"، أي أن العرض غالباً ما يبتعد عن جون ماكين المرشح، لينقلب تحليلاً لنفسية جون ماكين الأسير السابق والعوامل الفاعلة فيها. ومجلة "تايم" التي خصصت قبل اسبوعين موضوع الغلاف لماكين، على سبيل المثال، جاءت مفعمة بالنفسنة التي قد تثير في القارئ الأميركي ضروباً متداخلة من التعاطف معه والخشية منه. وقد لا يتمكن جون ماكين من تجاوز هذه النفسنة ومن إعادة توجيه الأنظار إلى مضمون فكره السياسي إلا بعد تحقيقه قدراً من الحضور الانتخابي البارز في معارك الولايات. بهذا يصبح بديلاً ذا صدقية لدى الحزب الجمهوري، بديلا قد ينهي استئثار جورج دبليو بوش به.