يلتقي أربعة أو خمسة من الأسماء المعروفة في الساحة الأدبية في أحد مقاهي الدرجة الأولى ليشربوا فنجان الثقافة اليومي متأففين من الدنيا وما فيها محتجّين على الاضطهاد الذي يمارس ضدهم، وفي الساعات الأخيرة من الليل ينسحبون الى منازلهم يعانون من اللامبالاة التي يعاملهم بها المجتمع. وفي الجانب الآخر تحاول فئة أخرى البحث عن الثقافة وفئة أخرى تتكلم عن الثقافة، ويستمر ضجيج الأصوات ولكن نادرون هم الذين يملكون المبادرة لإرساء نتاجات حقيقية تدخل الحقل الإبداعي بمزيد من الوهج المفترض في الشأن الأدبي. وقد أصبح الحديث عن ثقافة عمانية غائبة قضية يعزف عليها الكثيرون من كتاب الأعمدة والمقالات لكن لا أحد يجرؤ على الحديث عن مثقفي بارات خمس نجوم أو مثقفي الكراسي الذين يمسكون العصا من النصف فهم مع المثقف ومطالبته وهم مع كرسي الوظيفة ومتطلباته. في أوائل الثمانينات دارت حوارات كثيرة بين المثقفين العمانيين حول أهمية وجود اتحاد للكتاب يجمع شملهم تحت مظلة معروفة واختلفوا مع الجهات المعنية على الإسم، وبعد اشهار قانون الجمعيات اجتمع بعض المثقفين للمطالبة بجمعية تكون لهم أسوة بجمعيات المعاقين والجمعيات الخيرية إلا أن طلبهم ضاع وسط ظروف غامضة وخصوصاً مع توقيع أسماء معروفة إلا أنها مختلف عليها من معظم الشباب المثقف الجديد بسبب رغبة تلك الأسماء المعروفة في الهيمنة والتمسك بكل وسائل الدعاية مثلما هي متمسكة بكراسي المسؤولية التي يرى بعض المثقفين أنها أضرت بالثقافة العمانية أكثر مما نفعتها. والى الآن لا يزال المثقف العماني يحلم بإسم يجمعه مع الآخرين ليمارس دوره في التحاور والالتقاء وأيضاً تنظيم النشاطات والفعاليات إلا أن البعض متخوف من خلاف المثقفين أنفسهم حول من له حق التواجد أو الإلغاء. ولا يشذ المثقفون العمانيون في هذا الجانب عن نظرائهم في الدول العربية إلا أن استباق المخاوف يجعل من العملية دائرة مغلقة على نفسها ولا يمكن عبرها تبين شيء معين أو واضح، مع وجود سلبية المثقف نفسه التي تسهل له جلسات النميمة في المقاهي والبارات والجلسات الحميمة مع الشلة كلاماً كثيراً، بينما تبقى الإنتاجية مرحلة ثانوية وان وجدت فهي صراع مع الذات أو مع الآخر أو الدخول في غيبوبة اللغة مع ظهور صرعات الحداثة وما بعد الحداثة. وفي هذا الإطار لا يمكن تجاهل المثقفين التقليديين الذين بات لهم التواجد الأوضح على رغم ما يعانونه من غياب التجديد والطرح اللازم في ظل التطور المعرفي واللغوي والأسلوبي. في عمان تحيل النادي الثقافي مبنى جميلاً على هضبات أرقى مناطق العاصمة مسقط، وهو عام بعد عام يتنازل عن تلك الهالة الكبيرة التي حققها قبل سنوات حين دعى أساطين الثقافة العربية كنزار قباني وأدونيس وسليم الحص رئيس الوزراء في لبنان ومحمد الماغوط وآخرين، ولكن يبدو أن تلك الاستضافات خضعت للأسماء القائمة ضمن نشاط النادي وحيويته علماً أن الأسماء القائمة على ادارته تكاد تخلو من الأسماء الفاعلة في الثقافة ويحسب له تنظيمه هذا العام مهرجان الخنساء الذي جاء بجهود أو الحاح من الشاعرة العمانية سعيدة الفارسي رئيسة أسرة الكاتبات العمانيات المنتمية الى النادي ودار كلام كثير حول وجود تلك الأسماء الكبيرة سناً أكثر من الحضور الشعري. وفي مكان آخر من مسقط يقبع المنتدى الأدبي الذي أعدّ خصوصاً للثقافة التقليدية العتيقة وقد اكتفى في السنوات الأخيرة بتنظيم مسابقات ثقافية سنوية أحجمت عنها الأسماء المتحققة ثقافياً بسبب الجوائز التي قال عنها البعض أنها "لا تسمن ولا تغني من جوع". عبر هاتين المؤسستين يبدو العمل الثقافي المؤسسي غائباً أو مغيباً وكثير ما يشير المثقفون الى الجمعية العمانية للفنون التشكيلية التي حققت للفنان التشكيلي والرسام والنحات والمصور أكثر مما يحلمون به كونها تابعة لديوان البلاط السلطاني وهي بمبناها الفخم ومعارضها التي تتكرر كل شهر وبجوائزها القيمة وبمشاركاتها الداخلية والخارجية طرحت تساؤلاً أكبر عن هذا الكاتب العماني الذي يخضع دائماً لحسابات الميزانية السنوية وأمزجة مجالس الإدارات المتعاقبة على أبرز مؤسستين ترعيان الثقافة. ويقترح بعض المثقفين تحويل النادي الثقافي الى جمعية أو اتحاد أياً كانت الأسماء تكون ادارته منتخبة من المثقفين أنفسهم وبرأيهم أن الثقافة فضاء شفاف لا يحتاج الى أسماء شخصيات لامعة لديها مشاغلها التي ليس من بينها حتى حضور اجتماع مجلس الإدارة وهو يتأجل كثيراً بسبب غياب معظم الأعضاء ومشاغلهم. من هموم المثقف العماني الأخرى قضايا النشر والتوزيع مع غياب مؤسسات نشر قادرة على الرهان على هذا الكاتب الذي يعاني أول ما يعاني صعوبة الحصول على ثقافة وتجارب جديدة مع حالة الهدوء في الساحة الثقافية ليعاني بعد ذلك مشكلة التواصل مع القارىء ويمكن هنا تمييز ثلاث فئات: 1 - مؤلفون لديهم المال ولكن يعوزهم العمق الثقافي اللازم لإصدار مطبوع يحسب لمصلحة الثقافة العمانية لا عليها، وهذه الفئة هي الأكثر تواصلاً مع الإصدارات إذ تمتلىء المكتبات بالكثير من هذه الإصدارات الهزيلة. 2 - فئة أخرى تمتلك فكراً لكنها بالمقابل لا تملك المال اللازم لمغامرة شبه خاسرة مع الكتاب في ظل تراجع عدد القراء وأيضاً لتأثير الفئة الأولى سلباً على المستويات الأخرى فيخسر الجيد القليل معركته مع الهزيل الأكثر وبالتالي فإن النكوص الى الانتظار يبقى الخيار الوحيد أمام هؤلاء. 3 - الفئة الثالثة هي التي ناضلت مع دور نشر عربية وتحملت الكثير من المصاعب لنيل صك البراءة بالنشر في تلك الدور المتوزعة على بيروت والقاهرة وعمّان، ولكن ظلت مشاكل توزيعها في الداخل قائمة، أما بسبب النسخ القليلة الممنوحة للمؤلف أو حسابات المكتبات المحلية التي تبالغ في نسبة الربح وقد تكون معذورة في ذلك. وعلى غرار معظم المثقفين العرب يقاسي الكاتب العماني من مشكلة الرقابة وان اختلفت نسبة الرقابة بين قطر وآخر. وهي على رغم أهميتها تتحول أحياناً الى مطالبة الكاتب بارتداء مسوح المصلح الاجتماعي كي لا يكتب إلا ما هو أخلاقي وبعيد عن التأويلات التي يمكن اسقاطها من أصغر رمز الى أكبر رمز. وعلى رغم المرونة الكبيرة التي أبدتها دائرة المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام العمانية في التعامل مع ابعض الإصدارات التي رأى البعض أنه كان من الواجب أن لا يسمح لها، غير أن المثقف لا يزال يطالب بأكثر من ذلك بسبب تركيبته التي ترفض كل أنواع الوصاية أو تقليم الأظافر. وتظهر هنا حالات الاختلاف حتى بين المثقفين أنفسهم، الحداثيين والتقليديين، أو بين فئة وأخرى تبعاً لتركيبتها الدينية والاجتماعية لتحديد المسموح والممنوع. وقد انتهج بعض الكتاب العمانيين قاعدة خالف تعرف فركزوا على المختلف من الأشياء التي قد تمنع في أية دولة وكانوا يتوقعون مسألة مصادرة كتبهم إلا أن دخولهم الى مرحلة مفهوم المصادرة وما تحويه من لفت للأنظار جعلهم يركزون على هذا الجانب. عبر رصد سريع للإصدارات العمانية التي برزت عام 99 يُلاحظ ذلك الكم الضعيف الذي يتكدس في مخازن المكتبات لغياب الدعاية والإعلان عن هذه الكتب لتموت ببطء كسابقاتها ولوجود هامش ثقافي صغير بالمقارنة مع غيره فإن معظم الحريصين على اقتناء ذلك الإصدار يحصلون عليه اهداء من المؤلف الذي ينساق تحت رغبة توقيعه للإهداء الى توزيع اصداره بالمجان لأنه يدرك أن ذلك الشخص لن تقوده قدماه الى مكتبة وبالتالي فإن الأمر يأتي من باب "مُكره أخوك لا بطل. في عصر الأنترنيت والفضائيات هل يستسلم هذا المثقف ليعتاد شرب الكباتشنو على طاولة مقهى والاحتفاظ بحقه في شتم المخالفين له أم أن دماءه تسير دائماً باتجاه الحبر، ليخلق من تلك الاشتعالات اشتغالاته التي لا تنتهي ومن تلك الفلسفات الهامشية فلسفاته العميقة تجاه الأشياء؟! هذا المثقف القابع في آخر طرف في الوطن العربي هل يظل لديه أمل في الغد الذي هو في محبرته خيوط سواد وعلى ورقته مساحة مدهشة من البياض؟ عليه الكثير أن يتحمله، أولها ذاته، وليس آخرها كتابة تاريخه المرحلي والتفكير في تسجيل أحداث ضياع اندلس العرب الأخرى التي كانت على ضفاف الساحل الأفريقي.