في عصر يؤكد الناس فيه أن التلفزيون سحب البساط من تحت أقدام الاذاعة، جاءت شهرة الاذاعية المصرية بثينة كامل، بشكل لم يتحقق لأية اذاعية من بنات جيلها بفضل برنامجها الشهير "اعترافات ليلية" الذي استمر ست سنوات كاملة فاز خلال خمس منها بجائزة افضل برنامج اذاعي عربي يلقى اقبالاً من المستمعين. وظل كذلك الى ان صدر قرار رسمي بوقفه العام الماضي بحجة أن بعض ما يقدم فيه من مواد ينافي التقاليد الراسخة في مجتمعاتنا. "الحياة" التقت بثينة كامل التي تطل الآن عبر شاشات التلفزيون من خلال عملها في قطاع الاخبار، لتروي لنا قصتها مع الاذاعة والتلفزيون واصحاب الاعترافات. كيف كانت البداية؟ - طوال سنوات الجامعة لم أحلم أبداً بالعمل في الاذاعة، فأنا خريجة كلية التجارة قسم ادارة الاعمال، ولم أعشق يوما هذه الدراسة التجارية، لكنني على اية حال كنت ناجحة فيها. وفي الوقت نفسه استطعت ان اعيش حياة جامعية حافلة بالنشاط، الامر الذي أهلني للتعاطي مع نشاطات ثقافية وفنية كثيرة وهي أمور جعلتني افكر في مجالات العمل العام ونتيجة ارتباطي المبكر بزوجي الدكتور عماد ابو غازي المدرس في جامعة القاهرة، بدأ هو في توجيهي ناحية الالتحاق بالسلك الجامعي، وبالفعل حصلت على دبلوم في النظم السياسية من معهد الدراسات الافريقية. وكدت استكمل العمل في هذا الاتجاه خصوصا بعد ان حصلت على وظيفة في الجهاز المركزي للمحاسبات وهو واحد من ارفع الاجهزة الحكومية في مصر وأكثرها اغراءً بالنسبة لخريجي التجارة. وفي تلك الاثناء حدث ان طلبت مني الصديقة ماجدة رفاعة - سكرتير تحرير كتاب قضايا فكرية الآن - التقدم معها لامتحان المذيعات في الاذاعة المصرية ودخلت الامتحان معها من باب المشاركة والفضول والغريب انني اجتزت الامتحان فيما لم تنجح هي في اجتيازه. واللافت اني لم أكن مستمعة جيدة الى الاذاعة المصرية وبرامجها. وكنت اتصور ان المذيع هو مجرد بغبغاء يردد فقط ما يكتب له. بالاضافة الى انني كنت اعتبر اثناء دراستي الثانوية ان أسوأ اللحظات هي تلك التي اضطر فيها للقراءة بصوت عالٍ في دروس المطالعة، لأن خجلي كان يحول احياناً دون اخراج صوتي. وقبل دخول امتحان الاذاعة لم التفت ابداً الى جودة صوتي وصلاحيته للاذاعة بالمعنى الفني. المهم هنا ان اجتيازي الامتحان دفعني الى ترك وظيفتي المحاسبية وخوض مغامرة جديدة في حياتي، لأني شعرت برغبة في مواصلة ما بدأته في الجامعة من اهتمامات ثقافية وفنية اعتقدت ان الاذاعة ستمكنني من الارتباط بها على نحو أعمق. وكيف سارت الامور بعد ذلك؟ - حدث انه قد تم تدريبي مع الاذاعي القدير صبري سلامة. واثناء فترة التدريب تنبأ لي المخرج الاذاعي يوسف حجازي بالنجاح، ولم أعرف على أي أساس جاءت تلك النبوءة خصوصا انني لم أكن قد امتلكت سمة ادائية مميزة. ثم تم تدريبي على يد المذيعة هالة الحديدي وتم توجيهي الى العمل في التنفيذ الاذاعي ضمن المجموعة التي تطلق الصيحة الشهيرة "هنا القاهرة" وتتولى مهمة الربط بين الفقرات وتقديم الاغنيات. وأظن انني بعد فترة وجيزة من العمل بدأت لفت الانظار واستمعت الى عبارات مديح تؤكد "حنو صوتي ودفئه وتميزه". مصر التي لا نعرفها قبل برنامج "اعترافات ليلية" قدمت برنامجاً مميزاً هو "مصر التي لا نعرفها" نال استحسان عدد كبير من النقاد والمستعمين، فما هي قصته؟ - عندما قدمت اول برنامج لي وهو "اصل الحكاوي" بدأت البحث عن اصول بعض المعتقدات والعادات الشعبية، الأمر الذي نبهني الى كنز الدراسات الفلكلورية، لذلك التحقت في المعهد العالي للفنون الشعبية التابع لأكاديمية الفنون. وفي احدى المحاضرات التقطت فكرة البرنامج من الدكتور نبيل صبحي استاذ الانثربولوجيا، وقررت على الفور اجراء مسح اذاعي لمختلف العبارات والتقاليد المصرية. فكان هذا البرنامج الناجح الذي اشرت اليه والذي كشف عن جانب من المسكوت عنه في تاريخنا الى درجة اغضبت البعض، حتى أن احدى المجلات المصرية الكبيرة هاجمتني بعنف بسبب حلقة عن "أدهم الشرقاوي" حاولت فيها نزع الهالة الاسطورية عنه وتقديمه في صورة "لص" لا بطل شعبي. ونجح البرنامج خاصة انه لفت نظري في فترة مبكرة الى فكرة الاعتماد على المواطن العادي ليكون بطلاً للحلقات بدلا من الاعتماد على نجوم هم مستهلكون عادة. وهي الفكرة التي شاعت اكثر في "اعترافات ليلية". وكيف جاءت فكرة برنامج "اعترافات ليلية"؟ - بعد شهور من العمل في التنفيذ طلبت نقلي بناء على رغبتي، الى العمل في ادارة المنوعات مع الاذاعي عمر بطيشة ومن خلال الادارة تقدمت بفكرة "الاعترافات" بناء على اقتراح من الزميلة علا ناصف التي اقترحت عليّ تخصيص حلقة من برنامج آخر كنت اقدمه احيانا باسم "حديث الليل" لتكون حلقة خاصة بالاعترافات وبدأت اعداد عدة مواد خفيفة لتلائم موضوع الحلقة وبعدها تقدمت بفكرة الاعترافات كبرنامج مستقل تقدمت بها على الفور الى عمر بطيشة. برأيك ما المميزات التي جعلت من "اعترافات ليلية" يحتل قائمة افضل البرامج الاذاعية لعدة سنوات والى ان توقف عن البث؟ - عندما بدأت العمل في البرنامج كنت مدفوعة وراء فكرته الشيقة فقط، ولم يدر في خلدي اطلاقاً انه سيأتي الي بكل هذه الشهرة التي تحققت والتي أدين بها لمستعمين ادهشوني بقدرتهم على البوح وهي قدرة كانت فوق الوصف. ويهمني هنا ان اشدد على ان البرنامج اكد لي ان كل ما نقوله عن مجتمعاتنا التي تخشى البوح هو امر غير صحيح. فالواقع اليومي مخالف لأطروحاتنا النظرية، فمن السهل ان نقول الناس ضد المصارحة لكن الحقيقي اننا نحن الذين نخاف من صراحة الناس ونواجهها بأحكامنا المتعجلة ونرفض التعاطي مع اية فكرة جريئة تهدد وضعنا المستقر. ومن ناحيتي اعتقد ان البرنامج نجح لأنه اتاح لنا التلصص على مشاعر الآخرين والبحث عن اشياء مثيرة للشجن. وما ميّز البرنامج ايضا كونه الوحيد الذي قدم اعترافات المستعمين بأصواتهم ودون تدخلات كان من الممكن ان تفقد هذه "الهموم الاعترافية" طابعها العفوي الصادم احيانا. وهل كان لجوؤك نشر بعض هذه الاعترافات في كتب حيلة لمواجهة بعض التعنت الرقابي الموجود في الاذاعة؟ - قبل نشر هذه الاعترافات في كتب، نشرتها في بعض الصحف والمجلات. وفكرة النشر جاءتني من هاجس ان المادة المذاعة كانت دائما محكومة بهامش من الحرية هو أقل من المتاح في سوق النشر التي تتسع لما كان من الصعب اذاعته في اذاعة رسمية. وقد يندهش القارئ حين يقرأ انني كنت اتلقى اسبوعياً اكثر من 200 رسالة خلاف المكالمات الهاتفية. لذلك كان من الضروري البحث عن سبيل لنشر او اذاعة هذه الاعترافات، التي لم تتح لي الفرصة لإذاعتها او نشرها كلها. واخيراً طلب مني الصديق الباحث الدكتور احمد عبدالله مدير مركز الجيل للدراسات الشبابية في مصر تسليمه هذه الرسائل لإعداد بحث علمي حولها للتعرف على نوعية المشاكل التي يعانيها الشباب العربي. بعد مرور اكثر من عام على توقف البرنامج ألا يراودك الامل في امكان استعادته مرة أخرى؟ - لدي ثقة كبيرة في العودة الى العمل الاذاعي ولكن ليس شرطاً أن يكون برنامج "اعترافات ليلية" هو رهان عودتي، لأن صلتي بالناس لا زالت مستمرة، وأشعر أنني احتاج اليهم كما اشعر بحاجتهم لي. لكنني لن اعود الى العمل ابداً في هذا المناخ الذي لم يحترم نجاحي طوال خمس سنوات جعلت اسم الاذاعة المصرية يتردد في اذاعات العالم، وفي وكالات الانباء التي أعدت فقرات كاملة حول برنامجي ونقلت عنه، بل ان شركة "يونيفرسال" العالمية هي الآن بصدد إعداد فيلم خاص عني وعن البرنامج وهذا شيء لا أصدقه حتى الآن. بعد انتقالك الى العمل في التلفزيون يظل السؤال قائما: لماذا لم تقدم بثينة كامل أي برامج في التلفزيون المصري الى الآن؟ - كان لي بعض البرامج ذات الطابع العسكري والتي تمت بالتعاون مع القوات المسلحة ولا شيء بعد ذلك. في المقابل عملت في محطات فضائية عربية فهل حقق لك العمل في تلك المحطات مميزات لم يحققها العمل في اجهزة الاعلام المصري؟ - قدمت عدة برامج في الفضائيات منها برنامج "بيت العيلة" الذي تعاطى مع نماذج انسانية وقضايا اجتماعية مهمة، ولكني لم اشعر بنجاح حقيقي لسبب واحد هو أن برامج المحطات الفضائية مشفرة وليست متاحة لكل المواطنين، ولذلك فإن مردودها اقل مع الناس. وبالطبع استفدت مادياً من العمل في هذه المحطات، وأيضاً الى جانب ذلك كله حققت استفادة فنية من التدريب في العمل امام الكاميرا. على ضوء تجربتك ما الذي يحتاجه الاعلام العربي ليصبح اعلاماً عالمياً بالمعنى الصحيح؟ - الحرية.. فالاعلام الناجح هو الاعلام الحر، وأنا أؤمن بالشفافية والمصارحة وأتصور انها هي وحدها التي ستنتصر في النهاية.