ساد الاعتقاد أنّ جمهور الإذاعة في سبيله إلى التقلص مع ازدهار البث المرئي وانتشار القنوات التلفزيونية العامة أو المتخصصة في الأخبار والدراما والسينما خلال عقود صارت الصورة فيها هي الأكثر جاذبية. وفعلياً، سحب الإعلام المرئي البساط من تحت أقدام نظيره المسموع، لا سيما مع هجرة نجوم الإذاعة إلى شاشات التلفزيون. لكنّ الألفية الجديدة شهدت صحوة للإعلام الصوتي من جديد، صاحَبَتها هجرة عكسية لنجوم الشاشة الصغيرة إلى الميكروفون. وجاءت الباكورة عبر تأسيس إذاعة «نجوم إف إم» في العام 2003، التي حظيت بجماهيرية كبيرة، خصوصاً بين قطاع الشباب، فاستقطبت وجوهاً تلفزيونية كيوسف الحسيني الذي كان أحد مؤسسيها أيضاً، والتحق بها مزيد من الوجوه التلفزيونية بينهم مريم أمين وشريف مدكور وإبراهيم عيسى، فيما قدمت مذيعة التلفزيون المصري شافكي المنيري خلال رمضان الماضي برنامجاً عبر أثيرها. وما لبثت أن انتقلت المنيري إلى إذاعة «در ار إن» التي أعلن تدشينها منذ أيام، لينضم إلى الإذاعة الوليدة أيضاً نجوى إبراهيم وبوسي شلبي وهبة الأباصيري وخيري رمضان. فيما انطلقت النسخة المصرية من إذاعة «إنيرجي» منذ شهور قليلة، لتنضم إلى نسخ ممتدة في أكثر من عشرين دولة. ولم تغب الدولة المصرية عن تلك الطفرة في الإعلام المسموع، ففي العام 2009 خلال عهد وزير الإعلام السابق أنس الفقي، نم تأسيس شبكة الإذاعات المتخصصة ومنها «راديو مصر» و «ميغا إف إم»، إضافة إلى إذاعة «راديو هيتس» التي ضمت إلى أثيرها منذ شهور الإعلامي أسامة كمال ليقدم برنامج «من غير سياسة». وعلى الأثير ذاته، تقدّم مذيعة قناة «إكسترا نيوز» أسماء مصطفى برنامج «في بيتها»، كما تقدم مذيعة «أون تي في» السابقة مارينا المصري أحد برامجها. بينما استقدمت إذاعة «9090» عدداً من الوجوه التلفزيونية منهم الإعلامية سناء منصور ومذيعة التلفزيون المصري معتزة مهابة، ونجم «دي إم سي» رامي رضوان، ومذيع البرامج الرياضية إبراهيم فايق وغيرهم من نجوم التلفزيون. أما عمرو أديب فاتجه إلى الإذاعة في صورة مبتكرة عبر عرض برنامجه «كل يوم» المذاع على فضائية «أون إي» من خلال «نغم إف ام»، حيث تتداخل الموجات الإذاعية مع الصورة التلفزيونية. وعلى الأثير ذاته، تقدم مذيعة «سي بي سي» مفيدة شيحة برنامج « شكل للبيع». انتشار المحطات الإذاعية والتنافس بينها وحصدها الملايين من المستمعين نظراً الى سهولة متابعتها عبر الهاتف النقال أو خلال قيادة السيارة لا سيما أثناء المسافات الطويلة التي غالباً ما يتخللها زحام شوارع القاهرة. يبدو أن نجومية مذيعي الشاشة الصغيرة كانت دافعاً لتلك الإذاعات بغية الاستفادة من شهرتهم لمصلحة الراديو. وعلى صعيد آخر، ربما راودت هؤلاء الإعلاميين رغبة ما في الانصراف عن الشاشات عمداً أم قسراً، فوجدوا ضالتهم وراء الميكروفون. عن هذه القضية، تحدثت الإعلامية سناء منصور ل «الحياة» واستدلت بتجربتها الشخصية في التحول من التقديم الإذاعي إلى التلفزيوني بقولها: «في الماضي، قدمت برامج تلفزيونية لم أكن راضية عنها بغية استغلال نجومية التلفزيون لمصلحة الإذاعة، فحين كنت مذيعة في الإذاعة وأتصل بأحد المسؤولين وأقول له سناء منصور يستغرق وقتاً حتى يعرفني، ولكن بانتقالي إلى التلفزيون صرتُ ما إن أعلن عن شخصيتي، حتى يعرفني على الفور وهو ما استثمرته لمصلحة برامجي المسموعة دون المرئية، لأن التلفزيون كان ثانوياً بالنسبة اليّ». وأوضحت أن «الاستعانة بالوجوه التلفزيونية لا سيما أولئك الذين لم يعملوا في الإذاعة أبداً، يكون غرضه تجارياً لجذب المستمع، وفي أوقات سابقة كان النجوم الحقيقيون للتلفزيون هم مذيعو الإذاعة المصرية، فهم المؤسسون الأصليون لماسبيرو، وما لبث أن التحقت أجيال إذاعية جديدة بالتلفزيون كنت بينهم مع زينب سويدان ودرية شرف الدين». وترى منصور أن المذيع التلفزيوني يستفيد هو الآخر بانتقاله إلى الإذاعة موضحة: «يكتسب خبرة جديدة هي الخبرة الإذاعية، لا سيما أن الإذاعي يصنع كل شيء لنفسه ويكون «قائد الأوركسترا» الكاملة، كما يمكن أن تُحسّن طريقة الأداء والثروة اللغوية ومخارج الألفاظ، فالإذاعي لا يصل إلى الجمهور عن طريق الشكل والأناقة أو الحضور الشخصي بل يعتمد على الصوت فقط، كي يجذب المستمع فيحلّق معه بأفكاره، فلا يمله أو يهرب إلى تردد آخر». وأضافت منصور: «يكتسب المذيع التلفزيوني عند الانتقال إلى الإذاعة شريحة أخرى من الجمهور. ثمة أشخاص يستمعون الى الإذاعة ويشاهدون التلفزيون على حد سواء، لكنّ قطاعاً كبيراً منهم لا يشاهد التلفزيون مكتفياً بالإذاعة، وقد لا يتابعون بالضرورة مذيعين بعينهم، وإنما ينتقون مذيعاً يتمتع بالثقافة والحضور، لا سيما أنّ مؤهلات غالبية مستمعي الإذاعة أكثر عمقاً عن مشاهدي الشاشات، إذ يبحث دائماً عن الثقافة واستعمال خياله سواء خلال الاستماع إلى البرامج أو المسلسلات». وشددت على أن الأزمة المرورية هي أحد أسباب انتشار المحطات الإذاعية بقولها: «كلما استمر التكدس المروري في مصر، ازدهرت الإذاعات واستمرت منافساً خطيراً للتلفزيون، فالفترة ما بين الساعة الثانية ظهراً حتى الساعة الخامسة والنصف عصراً يكاد ينعدم جمهور التلفزيون لا سيما بين فئة الطبقة العاملة والموظفين، الذين صاروا من جمهور الإذاعة، وهؤلاء هم من سحبوا السجادة من تحت أقدام التلفزيون». وتابعت: «تتحول الحظوة في فترة الظهيرة وما بعدها للإذاعة، لأن الجمهور الذي ينصرف إليها ليس فقط من شريحة مالكي السيارات ولكن أيضاً مستخدمي الحافلات وسيارات الأجرة، ما كرس انتشار الأغنية الشعبية، لأن هناك فئة ذات ذوق مختلف طفت على السطح، وثمة شرائح اجتماعية أخرى بينها الطبقة المتوسطة اضافة الى موظفين يستقلون المواصلات العامة وسيارات الأجرة». وتحدثت منصور عن تجربتها خلال رئاستها إذاعة الشرق الأوسط بقولها: «بدأت تلوح معالم الزحام في شوارع القاهرة، ووعيت لهذا الأمر مبكراً في بداية التسعينات، فخصصت فترة الظهيرة والعصر لتقديم 20 برنامجاً قصيراً بدلاً من فقرة «ما يطلبه المستعمون» التي صارت مسائية، وجعلت مدة برامج فترة الظهيرة دقيقتين لكل برنامج وتتخللها أغنية كي لا يصاب الجمهور بالملل، وغطت كل مناحي الحياة سياسياً واقتصادياً وترفيهياً واجتماعياً وثقافياً وقانونياً وعلمياً وطبياً كي يتابعها المستمع في سيارته أو في طريق عودته من العمل من دون ضجر». واتفق المذيع رامي رضوان مع منصور أن الإذاعات تحاول استغلال نجومية مذيعي التلفزيون لكنه يراه شأناً متكرراً ومتبادلاً بين الإذاعة والتلفزيون، مضيفاً أنّ «ثمة قنوات تلفزيونية تستعين هي الأخرى بمذيعي الإذاعة اللامعين والذين تحظى برامجهم بمتابعة جماهيرية في محاولة للاستفادة منه عبر الشاشة الصغيرة». وبسؤاله حول اتجاهه إلى تقديم برامج إذاعية قال مذيع «دي إم سي» رضوان ل «الحياة»: «جاءت تجربتي الأولى في «راديو مصر» عبر برنامج «كلام وسط البلد»، وراقني الأمر جداً لكنني اعتذرت عن الاستمرار لظروف ما، ثم سنحت لي فرصة العودة مرة أخرى إلى موجات الإذاعة عبر راديو 9090، حيث أقدم برنامجاً أسبوعياً باسم «تفرق»، أحاول خلاله تناول المشكلات الاجتماعية للمواطنين وطرح حلول لها». ويرى المذيع الشاب أن الإذاعة تستمد قوتها عبر عنصرين، أولهما هو التطوير الهائل والمستمر في المحتوى بفعل المنافسة بين الإذاعات المختلفة، والسبب الثاني أن الجميع يقضي أوقاتاً طويلة في الشارع بسبب التكدس المروي في الشوارع المصرية، ومن ثم أصبحت الإذاعة عنصر التسلية المتاح. واختتم رامي رضوان: «لا يمكن القول إن البرامج الإذاعية تصل إلى قطاع مختلف من الجمهور لا يهتم بمشاهدة الجمهور، لأنه يتسنى متابعة البرامج التلفزيونية عبر المواقع الإلكترونية أو «اليوتيوب» التي تتيح للجمهور الاطلاع على الحلقات المختلفة من دون تقيد بالوقت إذا فاته مشاهدتها بفعل مشاغل العمل».