الكتاب: محاضرات في الإبداع الكاتب: ايتالو كالفينو ترجمة: محمد الأسعد الناشر: إبداعات عالمية - الكويت - 1999 نهاية ألفية أم بداية ألفية؟ نواجه الآن فيضاً من الكتابات التي تتنبأ بنهاية العالم مع نهاية الألفية الثانية. ويدفعنا هذا إلى التساؤل: ما جدوى أي شيء ما دام العالم سينتهي؟ وهل العالم سينتهي بالفعل؟ وبفعل مَن؟ هل كارثة طبيعية أم صناعية؟ هل سيصطدم بالأرض أحد الكواكب أم ستنطلق الصواريخ النووية لخطأ في الكومبيوتر؟ ولا يخلو الموقف من ظلال أسطورية، وقلق وجودي تجاه الانتقال من قرن إلى آخر ومن ألفية إلى اخرى. قلق وجودي مصدره وصول الانسان الى مرحلة تشوشها شديد وتحدياتها سافرة. فلم يعد ثمة فرح بالعلم او بالتكنولوجيا أو ثورة المعلومات والاتصالات. ولم تنجح الأفكار التي يطرحها المنادون بالعولمة أو الباحثون عن طريق ثالث، أن تحل محل الشيوعية والرأسمالية والأممية، ووسط كل هذا ما زال الناس يمارسون حياتهم بروتين مدهش، لا تشغلهم النهاية لأنها سر، لا قُدرة لأحد على الإطلاع عليها. هكذا يثبت الناس أن الحياة مستمرة حتى توقفها، ويجب ألا نوقفها لنتأمل نهايتها أو نبحث عن حلول لها. وحتى الآن ما نعرفه - ببعض اليقين - اننا مقبلون على ألفية جديدة ستجعل كل ما على الأرض لا ينتمي إلى القرن الماضي فحسب، بل إلى ألفية مضت. ولا نعرف هل سيعترض طريقنا شيء أم سنستمر لفترة أخرى، نسعى بجدية لاكتشاف جوهر الحياة والحقيقة والنهاية. وصايا للألفية المقبلة لو اعتقد كالفينو أن العالم سينتهي بنهاية الألفية الثانية، هل كان سيكتب مثل هذه الوصايا؟ بالطبع لا. وتستمد هذه الاجابة معقوليتها من الالتزام الدلالي بكلمة "وصايا" التي تشير بالضرورة الى وجود آخرين توجه إليهم وترشدهم. وإذا تحررنا من دلالة كلمة "وصايا" قد ينفتح أمامنا احتمالان: الأول ساخر، والثاني رثائي. ساخر من فكرة الوصايا تشير إليه من تفوق وقدرة على الكشف والنفاذ. ساخر من الثنائيات والحدود والتباس الوعي تجاه هذه القيم وتغيرها. أما الرثاء فهو لعصر دهسته المادية والثورة الصناعية بآلاتها العملاقة وبالانتباه الى كل مُتجسد ونفعي. ويكتسب هذا الرثاء قيمة تبشيرية عند استشرافه الألفية المقبلة، فهو يرى ضرورة استعادة قيم الخفة والدقة والوضوح، خصوصاً بعدما أكد العلم أهمية هذه القيم. فلم تعد جاذبية نيوتن هي المسيطرة وإنما اصبحت الذرات والالكترونات والفوتونات. ولم تعد الحركة في "الزمن تُقاس بالدقائق والثواني بل بالفيمتو ثانية =1 على 15 جزءاً من الثانية. وتتجلى النهاية بوصفها مفارقة في تجربة كالفينو التي أنتجت هذا الكتاب. فهو عبارة عن محاضرات كان يُعدها طوال ما يزيد على عام من أول كانون الثاني/ يناير 1985 وحتى ايلول/ سبتمبر من العام نفسه. واستغرق بعض الوقت بحثاً عن عنوان لهذه المحاضرات، حتى استقر على هذا العنوان: "ست وصايا للألفية القادمة"، وبالإضافة إلى المحاضرات الست، ثمة تخطيطات لمحاضرة أخرى "في بداية ونهاية الروايات". وفي التاسع عشر من ايلول 1985، توفي كالفينو عن عمر يناهز 62 عاماً إثر نزيف مفاجئ في الدماغ، توفي قبل أن يُكمل وصاياه للألفية المقبلة. ست وصايا أدبية يقول كالفينو إن الألفية الموشكة على الانتهاء شهدت مولد وتطور لغات الغرب المعاصرة، والآداب التي استكشفت الممكنات التعبيرية والإدراكية والتخيلية لهذه اللغات. وكانت أيضاً ألفية الكتاب، بمعنى أنها شهدت ابتكار الشيء الذي ندعوه كتاباً بشكله المألوف الآن. وقد يكون من علامات نهاية ألفيتنا أننا نتساءل مراراً وتكراراً عما سيحدث للأدب والكُتب في ما يُدعى ب"ما بعد عصر التقنية الصناعية". ويشير إلى أنه لن يميل الى الاستغراق في هذا التأمل لثقته في مستقبل الأدب، فهناك اشياء لا يمنحنا اياها سوى الأدب بوسائل ملائمة له. وبناء على هذا يخصص هذه المحاضرات لقيم أو مميزات أدبية معينة مثل "الخفة - السرعة - الدقة - الوضوح - التعددية". وينطلق في ذلك من إدراكه أن عالم اليوم انتبه إلى دور وقيمة اللامتناهي في الصغر مثل رسائل الحمض النووي في الخلية D.N.A، نبضات الخلايا العصبية، الجسيمات الذرية. ويشير الى ذلك بقوله إن الثورة الصناعية الثانية - على خلاف الأولى - لا تُقدم لنا الصور الماحقة مثل: الطواحين الدائرة أو الحديد المصهور، ولكنها تقدم لنا وحدات قياس سعة تخزين المعلومات، أو معالجة التخزين في الحاسوب - المسماة "البتات bits"، بفيض من المعلومات يرحل في نطاق الدوائر الكهربية على هيئة نبضات كهيربية. الآلات الحديد لا تزال موجودة، إلا أنها تطيع أوامر "البتات" غير الثقيلة. وأول القيم التي يتناولها كالفينو هي الخفة. ويرى أنها قد تجلت بوضوح ومباشرة عظيمين في رواية "ميلان كونديرا" المعروفة باسم "خفة الكائن التي لا تحتمل". فهذه الرواية تأكيد على ثقل العيش الذي لا سبيل الى مقاومته، هذا الثقل المتضمن في الشبكة المكثفة للبُنى العامة والخاصة التي تطوقنا بإحكام أكثر فأكثر. ويُشير إلى أن أهم شيء تكشف عنه هذه الرواية هو أن كل ما نختاره ونمنحه قيمة في الحياة بسبب خفته سرعان ما يكشف عن ثقله الحقيقي الذي لا يُطاق. ولا يستطيع الإفلات من هذه الوطأة سوى الوعي بتوقده وذكائه. ويتناول بعد ذلك "الشامان" وبطل الحكايات الشعبية بوصفهما مثالين على توغل قيمة الخفة في الوعي الجمعي وما ينتجه من أساطير ومعتقدات، وكيف يتحول الحرمان الى خفة، ويجعل الطيران ممكناً الى عالم تشبع فيه الحاجات بشكل سحري. أما القيمة الثانية فهي السرعة. ويتبلور موقف كالفينو تجاهها في هذا القول اللاتيني القديم الذي اتخذه شعاراً شخصياً وقت شبابه: "أسرع بتمهل"، ويستشهد على ذلك بقصة صينية رائعة عن تشانغ تزو ذي المهارات المتعددة، ومن بينها الرسم. وذات يوم طلب منه الامبراطور رسم سرطان بحري، فقال تزو إنه في حاجة إلى خمس سنوات وبيت ريفي و12 خادماً لإنجاز الرسم. وبعد خمس سنوات لم يكن بدأ الرسم. وقال تزو أنا في حاجة الى خمس سنوات أخرى، واستجاب الامبراطور. وعند نهاية السنوات العشر تناول تشانغ تزو ريشته، وفي لحظة وبضربة فرشاة واحدة رسم سرطاناً بحرياً. السرطان الذي لم يسبق لأحد أن شاهد ما هو أكثر كمالاً منه على الإطلاق. وعند تأمل القول اللاتيني والقصة الصينية يتضح أن كالفينو يرى أن لا صحة للزعم بأن السرعة والبطء متضادان، كما سبق وأشار إلى هذا بالنسبة إلى الخفة والثقل. وتتناول المحاضرة الثالثة قيمة الدقة. ويبدأ بمثال دال وهو الريشة بوصفها رمزاً للدقة عند قدماء المصريين. ومعروف عن الريشة انها خفيفة، وأنها في الهواء على رغم سرعة حركتها فإنها تبدو متمهلة متهادية. وهكذا فهي رمز اجتمعت فيه ثلاث قيم الخفة - السرعة - الدقة. ويحدد كالفينو ثلاثة عناصر يجب توفرها لتحقيق الدقة: 1- خطة محددة ومحسوبة جيداً للعمل المعني. 2- استحضار صور بصرية واضحة وحادة لا تُنسى. 3- لغة محددة قدر الإمكان من حيث اختيار الكلمات والتعبير عن حدة الفكر والمخيلة. ويعلن كالفينو عن قلقه من استخدام اللغة بأسلوب عشوائي، وتقريبي ومهمل دائماً، إلى درجة أنه يحاول التحدث بأقل قدر ممكن من الكلمات، ويفضل على ذلك الكتابة لما توفره من قدرة على المراجعة. ويرجع "كالفينو" الوباء الذي اصاب لغة ومخيلة الجنس البشري الى أسباب مختلفة منها السياسة والايديولوجيا والتماثل البيروقراطي. ولكن أخطرها على الاطلاق رتابة وسائل الإعلام التي تحول العالم الى صور تتضاعف طوال الوقت حتى تتحول الى "غيمة" لا تلبث ان تتلاشى من دون أن تترك أثراً في الذاكرة. ومن هنا تأتي أهمية قيمة الوضوح بالنسبة إلى المخيلة البصرية واللفظية. هذا الوضوح لا يتنافى مع الدقة بالطبع ولا يتماثل مع السطحية كذلك. فالوضوح هنا هو القدرة على إدراك العلاقة بين البصري واللفظي، وكيف يمكن أن يؤدي أي منهما إلى الآخر. وفي هذا يقول كالفينو: "علينا التمييز بين نمطين من السيرورة التخيلية: تلك التي تبدأ بالكلمة وتصل الى الصورة البصرية، وتلك التي تبدأ بالصورة البصرية وتصل الى تعبيرها اللفظي". ويعني المعرفة التي تحض على الكتابة والإبداع والاكتشاف، ومثال ذلك قراءة فلوبير لأكثر من 1500 كتاب ليكتب روايته "بوفار وبيكوشيه"، تلك الرواية التي سبق ووصفها - طامحاً - بأنها كتابة من العدم. والوجه الآخر لهذا الطموح هو ما قاله غوتة أخطط لكتابة رواية عن الكون. الكون والعدم، المعرفة ولعنة المعرفة، الحياة والنهاية، لن نستطيع التوصل الى أي من الأطراف الثانية "العدم - اللعنة - النهاية"، إلا إذا حاولنا ان نفهم الكون ونسعى خلف المعرفة ونتورط في الحياة. وبعد الانتهاء من القراءة، سرعان ما يتضح للقارئ أن المحاضرات خمس وليست ستاً، وهكذا فثمة محاضرة غائبة، فهل لهذا دلالة؟ هل المحاضرات الغائبة هي مساحة من "البياض والفراغ والشساعة والعدم" تجسد النهاية بفداحة تجعلنا لا نملك إلا مزيداً من التورط في الحياة. ويطلق على هذه السيرورة "سينما المخيلة الفكرية". ولا تقل وظيفتها أهمية عن وظيفة الخلق الفعلي للصور المتتابعة كما ستسجلها آلة التصوير. وهكذا نستطيع استنتاج أن الوضوح المشار إليه هنا يتعلق بالتقنية كما في السينما، أي أنه مجموع الوسائل التي تسعى الى تحويل الكلمات والأفكار الى صور متتابعة جميلة ونقية ومتقنة الصُنع لدرجة تمكن المشاهد من التواصل معها. وتتناول المحاضرة الأخيرة "التعددية" واحداً من المواضيع المهمة في هذا العصر المعروف ب"عصر المعلومات"، وهي مسألة "المعرفة الموسوعية" اللازمة للكتابة بعامة، وكتابة الرواية بخاصة. ولا يعني هذا السعي الى امتلاك المعرفة واستهلاكها وانما يعني البحث الدائم عن المعرفة والشعور بنقصان رصيدها تجاه متغيرات العالم ومستجداته، ويعني المعرفة التي تحض على الكتابة والإبداع والاكتشاف، ومثال ذلك قراءة فلوبير لأكثر من 1500 كتاب ليكتب روايته "بوفار وبيكوشيه"، تلك الرواية التي سبق ووصفها - طامحاً - بأنها كتابة من العدم. والوجه الآخر لهذا الطموح هو ما قاله غوتة أخطط لكتابة رواية عن الكون. الكون والعدم، المعرفة ولعنة المعرفة، الحياة والنهاية، لن نستطيع التوصل الى أي من الأطراف الثانية "العدم - اللعنة - النهاية"، إلا إذا حاولنا ان نفهم الكون ونسعى خلف المعرفة ونتورط في الحياة. وبعد الانتهاء من القراءة، سرعان ما يتضح للقارئ أن المحاضرات خمس وليست ستاً، وهكذا فثمة محاضرة غائبة، فهل لهذا دلالة؟ هل المحاضرات الغائبة هي مساحة من "البياض والفراغ والشساعة والعدم" تجسد النهاية بفداحة تجعلنا لا نملك إلا مزيداً من التورط في الحياة.