«لو أن مسافراً في ليلة شتاء» ليس مجرد عنوان لرواية بصيغة شاعرية بل ما هو مناقشة فنية رائعة لإشكالية العلاقة بين القارئ والمؤلف والمترجم والناشر والحكومات الديكتاتورية وتاريخ الفن الروائي والقدرة على إعادة إنتاجه. تطرح الرواية الكثير من الأسئلة حول الأطراف المشاركة في العملية الإبداعية. وهي العلاقات التي قرر الساحر إيتالو كالفينو الوقوف أمامها في رائعته «لو أن مسافراً في ليلة شتاء» الصادرة أخيراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة، ضمن سلسلة «المئة كتاب» بترجمة حسام إبراهيم، لنجد أنفسنا أمام تجليات عدة لكاتب لا ينفد ما في جعبته من روايات تجيء في إطار عمل روائي واحد، كما لو أنه كان يقيم تحدياً مع غيره من الكتاب الكبار أن يقدموا عشرة أعمال في رواية واحدة، إلا أننا نكتشف أنه في نهاية النص يرفع قبعته تحية للنص الإنساني الخالد «ألف ليلة وليلة». ومن ثم يمكننا اعتبار «لو أن مسافراً في ليلة شتاء» محاورة مبهرة للنص الألف ليلي في قدراته المدهشة على الحكي وجذب القارئ، محاورة لتقنيات شهرزاد التي استطاعت أن تؤجل الحكم عليها لأكثر من ألف ليلة، عبر قص مئات الحكايات بآليات وحلول فنية لم يملك القارئ آنئذ حيالها سوى الصمت والتجول معها من عالم إلى آخر. وهو ما سعى إليه كالفينو في روايته هذه عبر انتقالاته إلى أكثر من عشرة عوالم مختلفة لا يربطها خيط واحد سوى رغبة القارئ في معرفة سر الكتابة وطرائق صناعة المؤلف لعوالمه المتباينة. في هذه الرواية، يبتكر كالفينو حيلة بسيطة كي يجمع في إطارها أكثر من عشر قصص، كل منها من عالم مختلف متباين، كل منها ليس سوى مجرد بداية، مجرد فصل أول من رواية، وكلما وقع القارئ في غرامها فقد النص وتحتم عليه أن يبحث عنه كي يكمله، لكنه في كل مرة يجده نصاً مختلفاً يبدأ في قراءته من جديد حتى إذا وقع في غرامه فقده بطريقة أو أخرى، هكذا حتى يصل في نهاية الرواية إلى عوالم تكاد في إثارة حكيها أن تتوازى مع فكرة السندباد البحري لدى شهرزاد. بنى كالفينو حكايته على سراديب تشبه بنية القص الألف ليلي، حيث شهرزاد الراغبة في تشويق مليكها من أجل معرفة بقية الحكاية، لكن حيلته جاءت بأُطر واقعه الحديث بما فيه من دول ومؤسسات وأجهزة استخبارات ومؤلفين معروفين ومترجمين يتربحون من صوغ قصص على ألسن المؤلفين المشاهير. يرى كالفينو أن للكاتب تصوره عن العالم الذي يختلف عن تصور المترجم للكلمات والسياقات التي يقرأ فيها النص، كما أن للناشر رؤيته في تقديم نصوص ذات عوالم وتشويقات معينة، وربما استخدم الناشر اسم مؤلف أو مترجم بعينه لتسويق كتاب لا علاقة لأي منهما به. أما القارئ فهو يستقبل الحكاية كرسالة ملهمة لأفكاره، ووفقاً لرغباته من الكتاب وثقافته المؤهلة لمعرفة مغزى الحكاية، أو مستوياتها الفكرية. أما القارئ المثالي من وجهة نظر كالفينو فهو الذي يعتبر النص محفزاً لإعادة تخيله للعالم، ومن ثم فهو لا يرغب في الالتقاء بأي من عناصر العملية الإبداعية، سواء كان المؤلف أو الناشر أو المترجم، مفسحاً لخياله القدرة على تصورهم وفقاً لموقفه من العالم الذي يعيشه في خياله. كالفينو لا يقدم رؤاه على أنها عمل تنظيري، بقدر ما هي طرح إبداعي يشتبك فيه القارئ مع المؤلف ومع المترجم، فكل منهم هو بمثابة من يصيغ الوجود وفقاً لتصوره، إذ إنه المنتج الحقيقي للنص، ومن سبقوه في هذه العملية ليسوا سوى أدوات مساعدة على حضور العالم. المرتكز الأصيل في الأهمية يكمن في مدى قدرة النص على تحفيز قارئه نحو إعادة صوغ العالم وفقاً لتصوره هو عن هذا العالم. لكن الصعوبة في طرح هذه الرؤى تكمن في أنها لا تجيء من خلال عمل فلسفي عن العلاقة بين منتجي النص الإبداعي، لكنها تأتي من خلال القدرة على صدم القارئ نفسه، ثم التغلب عليه في وضعه ضمن سياق لا يمكنه فيه التوقف عن القراءة أو الشعور بالملل. من هنا قدم كالفينو نصاً مغايراً لكل ما طرحته الرواية الكلاسيكية بأنواعها المختلفة، جاعلاً رهانه على أن النهايات المفتوحة تترك عالماً مدهشاً في مخيلة قارئها، أكثر من تلك التي لا تخرج عن كونها حياة أو موتاً. وهكذا كان التحدي الذي سعى كالفينو لمواجهته هو كيفية جذب القارئ وتحفيزه على استكمال العمل على رغم تغير الرواية لأكثر من عشر مرات خلال القراءة. سعى كالفينو الى حل هذه المعضلة عبر ما يمكن تسميته السرد التخللي للنص ذاته، هذا السرد الذي يكون بمثابة خيط رفيع مشوق يدفع القارئ الى معرفة ما الذي ستنتهي عليه هذه الحجرات المتوالية في تلك المغارة المظلمة من الحكي. ولم يكن هناك غير ذلك القارئ الذي انشغل تارة بحب شريكته «لودميلا» التي كانت على علاقة بالمترجم المزيف للنصوص، ثم المؤلف الذي تخلص من القارئ ليتفرغ لحب «لودميلا». وعبر كل علاقة تتكشف من هذه العلاقات كانت تجيء النصوص العشرة (لو أن مسافراً في ليلة شتاء، خارج بلدة مالبورك، الميل من شرم الهاوية، بلا خوف من ريح أو دوار، ينظر من أعلى في الظل المحتشد، في شبكة من خطوط تتشابك، في شبكة من خيوط تتقاطع، على بساط من أوراق منيرة بالقمر، حول قبر فارغ، أي حكاية قابعة هناك تنتظر نهايتها)، هذا الخيط الرفيع الذي تخلل تلك الكيانات ليربطها ببعضها البعض بناه كالفينو مثل لغز، سعى القارئ سواء بطل النص أو متلقيه في الواقع إلى معرفة حله. لكن هذا القارئ بعد التعرف على أن الهدف لم يعد يهمه حل اللغز، بل الاستمتاع بتلك العوالم التي يمر بها من خلاله، كما أصبح مهيأً لتلقي المزيد من الإدهاش سواء عن عالم الهنود في «حول قبر فارغ» الذي يذكرنا برائعة خوان رولفو «بدرو بارامو»، أو عالم الرأسمالية التي تقضي على نفسها بنفسها في «شبكة من خيوط تتقاطع»، أو عالم الثوار في ظل حكم ديكتاتوري شمولي كما في «بلا خوف من ريح أو دوار»، أو غيرها من بدايات الروايات التي لم تكتمل، والتي بدت كما لو أنها بدايات كان مخططاً لها أن تصبح أعمالاً كبيرة في تاريخ كالفينو (الطريق إلى أعشاش العناكب، قلعة المصائر المتقاطعة، الفيسكونت المشطور، الحواديت الإيطالية، مدن لا مرئية، السيد بالومار)، لكنه جمعها في عمل واحد ليصبح رواية الروايات، على ما قال الشاعر والمترجم رفعت سلام في كلمته على الغلاف الخلفي للكتاب.