الكتابة تقنية واستراتيجية للتعبير. تحاط عمليتها بتاريخ من القراءة وطموح جامح من طرف الكتاب للاستقلال عن تأثيرها. جينيالوجيا الكتابة عوالم من الكلمات والأسرار، من التجلي والإضمار. وفي إطار تدوين تاريخ الكتابة وسيرة الكاتب. اقتربنا من مجموعة من الأدباء والأديبات، ففتحوا لنا قلوبهم في هذه الحوارات الشيقة. ما هو نصك الأول المنشور؟ وكيف تنظر إليه الآن؟ كان ذلك عام 1988، وأول ما نشرته كان مجموعة من القصائد القصيرة بعنوان جامع هو «أوهام صغيرة»، وهو العنوان الذي وسم مجموعتي الأولى أيضا..، وهي «أوهام صغيرة» لأن الكبيرة منها ودعناها في مساءات صيفية من عام 1982 حين رأينا، عبر التلفاز، ملء العين انهياراتنا الباذخة تنقل إلينا مع غموس الخبز والإدام. كان سقوط بيروت آنذاك ختاما لمرحلة. حين كان مشهد الأجساد أو ما تبقى منها يكحل أعيننا الأكثر بلادة وتواطؤا مع شروط الراهن. عندها أحسست بأنه لم يعد لي أو لمن جايلني إلا أن يجرد حساباته ببطءٍ وبأقل قدر من التأفف والانفعال ماضيا في قطيعة لا تحتمل الفخر ولا المذمة، مع أوهام حملناها كما تحمل الصورة الزائفة للعالم وهم المعايشة والمعرفة اليقينية للواقع. ما هو المنبر الأول الذي نشرت فيه وكيف كان إحساسك؟ كان ذلك بالملحق الثقافي لجريدة اليوم بالدمام، كنت قد تسللت إلى صفوف المشاركين في تحرير تلك الصفحات عبر القيام بترجمة قصائد ومواد أدبية من الإنجليزية، وتلقيت العديد من الملاحظات الإيجابية على لغتي وأسلوبي في الصياغة مما شجعني على إظهار ما أكتب، وكان هنالك احتفاء من الأصدقاء حيث رافقتها تلك الدهشة أمام النص المنشور، وأمام تلك الحالة التي يتحرر فيها النص من مؤلفه ويصبح الكاتب بين عشية وضحاها واقفا في صفوف المتلقين للنص الذي كتبه. كانت أحاسيس دفعتني إلى أن أنظر بجدية أكبر إلى الكتابة والنشر. ما هو الكتاب الذي حفزك على الكتابة؟ هنالك كتاب أثير على قلبي: وهو رواية بعنوان «عقد لأجل سيرمينازي» للكاتب الداغستاني أحمد خان أبو بكر، والرواية تحكي الاكتشافات الأولى لمعنى الحياة والحب في سياق قصصي يدور في وسط تقليدي غني بالتراث الحرفي، ذلك التراث الفني والجمالي الذي يظهر تارة في الوصف السردي للمكان والشخوص، وتارة في التشبيهات والمجازات اللغوية المدهشة التي يأتي بها بكل خفة ومرح، أبطال الرواية في أحاديثهم. والرواية عموما تنتصر للعاشق الذي يقدم لحبيبته هدية هي عبارة عن الحكاية ذاتها. ما هو الكتاب الذي تمنيت كتابته؟ هي كتب كثيرة، ربما بينها كتاب «مدن لا مرئية» للكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو، فيه خيال غير اعتيادي، يأخذ فكرة المدينة إلى أقصى حدود التجريد، فيكون وصفه لها قابلا لأن يكون لمدينة من عمق التاريخ أو من القرون الوسطى أو المستقبل البعيد، هنالك هندسة في السرد تشبه هندسة المدن نفسها، وهنالك الصفات الإنسانية، خيرها وشرها، تقدم في هيئة مدينة أسطورية، هنالك بالتأكيد أثر من أجواء ألف ليلة وليلة التي هي أيضا كتاب أثير لدي. من هو الكاتب الذي يتجول في عروق كتابتك؟ كثيرون يجرون في دمي: ماياكوفسكي عاشقا للحياة ومصابا بالحمى، نيرودا واصفا للجمال وللطبيعة، درويش صادحا بالنرجس، بورخيس مرتحلا في كتاب أو أسطورة. ما هو الكتاب الأول الذي نشرته؟ هو مجموعتي الشعرية الأولى «أوهام صغيرة أو التي تراود الموهوم في الحمى»، التي صدرت عن دار الجديد اللبنانية عام 1995. ما هي ظروف النشر التي رافقته؟ كانت تلك مرحلة ذيوع قصيدة النثر في السعودية، وظهور العديد من شعراء قصيدة النثر الذين مثلوا صوتا جديدا في المشهد الأدبي السعودي انزياحا فنيا وثقافيا عن بعض سياقات الجدل ضمن ثنائية الحداثة والأصولية الثقافية. وتوافقت تلك الفترة مع تألق تجربة دار الجديد اللبنانية في نشر بعض أجمل النتاجات الأدبية العربية في نموذج ملفت لصناعة الكتاب من التحرير إلى الصف إلى الإخراج.. كان ذلك مما أعطاني الخيال والحماس لنشر كتابي الأول. ماذا تكتب الآن..؟ أحب أن أحلم حول حياتي الماضية، أتذكر حلما وليس حقيقة، والبحث عن ما يمنح الماضي طعما أو صفة.. أبحث عن الصيغة اللغوية.. أبحث عن فهم ووضوح أكثر.. هل تفرض على كتابتك نوعا من الطقوس؟ الخلوة: أي الترحال خارج اللحظة هذه..، إذن خلوتي هي حركة في الزمن، حيث يكون الإنسان الذي أمامي في المرآة، هو سليل كل الحضارات، كل الانتصارات والمآسي، والخفة أيضا. ما هو المكان الذي تحب أن تكتب فيه؟ مكان فيه أصوات تأتي من بعيد، قد تكون موسيقى طبيعية أو بشرية، أشعر وكأني التلميذ الذي يؤدي اختبارا والعالم كله بانتظار النتيجة. ما هو تعريفك للكتابة؟ وصف للأشياء، ذلك الوصف الذي يمر بلا شك على تعريفٍ لمفهوم الصفات ذاتها، أي أن تصبح الصفة شيئا قابلا للوصف.. هنالك دائما فكرة دائرة في ما أكتب، أحب أن أنتهي بقصيدتي حيث بدأت. تلك هي. هل حقا الأدب في خطر؟ لست متأكدا من ذلك. المعاني الكبرى كالأدب تتغير أيضا، الخطر ربما سيكون الخطر ناجما من السرعة، وقصر النفس، وسطحية الانتباه وهي الصفات التي تتميز بها وسائل التواصل الإبداعي الآن. ماذا علينا أن نفعل من أجله؟ علينا أن نكتب فقط، وسيكون مفرحا لو كان ما نكتبه أفضل من الصمت، وسنكون محظوظين لو كان ما نكتبه شمعة أو وردة في يد قارئ. هل تحب أن توجه تحية شكر لشخص ساعدك في مشوارك الأدبي؟ أدين لأشخاص كثيرين من الأهل والأصدقاء ممن رعوا لدي حب المعرفة والقراءة والتأمل. وكل من منحني لفتة اهتمام، أو فتح لي نافذة على الذائقة. هل لديك أمنية أدبية تحلم بتحقيقها؟ مجرد النص القادم، القصيدة الأجمل، الأحلى، لحظة الاكتشاف أو التركيب أو استلال فكرة من أخرى، أو تداعي الأفكار.. رحلة في فردوس النص القادم. غسان الخنيزي شاعر سعودي من مواليد 1960 بالقطيف. من بين أبرز شعراء قصيدة النثر العربية.. له : أوهام صغيرة، أو التي تراود الموهوم في الحمى. اختبار الحاسة، أو مجمل السرد.