في كتابه الأخير "ويأتي القطار" الصادر في سلسلة روايات الهلال، يؤكد محمد البساطي قسماته التي عرف بها منذ أولى مجموعاته القصصية، حتى الآن، وهي سمات تدرجه في ذلك الفريق الأدبي الذي اصطلح في مصر على تسميته باسم أدباء الستينات. سنجد هنا الفضاء الذي ألفناه لديه، فضاء القرية المتوزعة بين قيمها التقليدية الراسخة، وتغيرات الحداثة البطيئة، لكن الفاعلة. في هذا الفضاء ثمة المزارعين، والصيادين، وتجار القطن الصغار، والهامشيين المنسيين، حيث تبدو الحياة بسيطة راكدة، خالية من إغراء الدراما. لكن خلف ما يبدو ركوداً، ثمة حياة موّارة، صاخبة. فقط، تحتاج إلى عين لاقطة، يقظة، خبيرة بالمكان، وتاريخه، وحيوات أفراده، لتصبح جديرة بالقص عنها. وعلى رغم أن قارئ البساطي يلمس فضاءين متجاورين في كتابته، إلا أن هذين الفضاءين يتداخلان في كتابه الأخير. لدينا أولاً فضاء واقعي تخلقه الكتابة من الرصد البصري الدقيق، والإنشداد الى الفكرة السائدة عن الريف، حيث الذات الكاتبة، تمنح من ذكرياتها عن الحياة في القرية، معتدة بالسطح، محاولة تأويله من دون تدخل، يشرح أو يحل، أو يعلق. كأن القص خطاب من دون ذات، يتقصد الابتعاد عن النهنهة العاطفية، ويجفل من الاستعارة والمجاز، ويخلق شعريته من تعاقب السرد، وتدفقه، والتخلص من زوائد التقصي والتعليل، في لغة علامتها مثقلة بالواقع، ودوالها تشير الى مدلولات مادية، ملموسة. في هذا يمكن أن نقرأ نصوصاً مثل "منحنى النهر" و"بيوت وراء الأشجار"، ومن قبلهما "المقهى الزجاجي" و"أحلام رجال قصار العمر" و"الأيام الصعبة". أما الفضاء الثاني، فهو يركز على المناطق الواقعة بين تخوم الواقع ونقيضه، ويجنح إلى العجائبية. وقد برز هذا الفضاء على نحو جنيني منذ روايته القصيرة "التاجر والنقاش"، ودعمه اتصال الكاتب بنتاج كتاب "الواقعية السحرية". في هذا الفضاء يشجب الولع بالانشداد الى الواقع الصلب العاري، بوضوحه الناتئ، ومنطقه العلي، ويوغل الكاتب في اكتشاف علاقة الواقعي بالفنتازي، مطوّحاً بوقائعيته التي كانت تبلغ حد السرف، فيتداخل الواقعي بما ليس واقعياً، وتتبدى الشخوص كأنها تحيا عبر منطق مختلف. في هذا سيتحرر الكاتب من سطوة المتابعة الزمنية لشخوصه، والرصد الدقيق، وتتبدى ذاته التي كان يجهد لإخفائها من قبل. ولعل كتابه الجميل "صخب البحيرة" قد يكون قمة في هذا المسار، لم يبلغها البساطي، مرة أخرى. جاء البساطي من القصة القصيرة التي تعتمد التكثيف في الرصد والوصف والحوار، وتتمحور حول شخصيات قليلة. لذلك حين أصبح مشدوداً الى كتابة الرواية، ظلت قائمة بجلاء مشكلة النوع الأدبي، التي تجعل من نصوصه الممتدة، غالباً، نصوصاً أشبه بالقصة القصيرة، وكانت المشكلة تزداد وضوحاً حين يعمد الى محاولة صنع حبكة لتكون عموداً فقرياً، ينظم الحدث، ويؤسس المعنى. وهو أمر جلي في روايتيه "بيوت وراء الأشجار" و"أصوات الليل" وهما نصان يعانيان من عدم اتقان الحبكة. في "أصوات الليل" ينفتح الكتاب على فضاء بالغ العذوبة، هو حياة عجائز الريف المهملين، وهم يجوسون في ليل القرية، ونهارها، صانعين حياة هي فرق وشظايا، وبقايا حياة، لكن المعرفة الدقيقة بحياتهم، والعين اليقظة الراصدة تخلق من حيواتهم، التي استغنى عنها، حياة مملوءة بالرهافة والشعرية. ولكن الكاتب يصطفي شخصية العجوز بدوية ليخلق حبكة تعتمد الاتصال والتجانس، والنمو الحدثي، ومن هنا تتمزق الكتابة، ونفقد فرادة العالم، وأصالته، لأن الكاتب يبدأ نصوصه مأخوذاً بمشاهد معينة تنطوي في ذاتها على شعرية غير شعرية التشويق والإثارة، ثم يواجه مشكلة تنمية النص، فيعمد الى الحبكة، ويلوذ بملء حياة الشخصية الأساسية قبل ما يظنه طريفاً، من هنا، تبدأ الشخصية في التمزق. الكتاب الأخير "ويأتي القطار" يحقق تقدماً واضحاً في مجاوزة ثنائية "الواقعي" و"الغرائبي" ويتخلص من عسر الحبكة وجثومها من ناحية أخرى، لأن الكتابة ليست موزعة بين نقيضين. وقد يرجع ذلك الى أننا - هنا - مع كتاب يقترب من رواية السيرة الذاتية، حيث المحطات الرئيسية في سيرة الطفل راوي الأحداث، تتطابق مع ما نعرفه عن الكاتب، قروي من شمال مصر، من قرية واقعة في المنتصف بين هدوء الزراعة، واستقرارها، وزمنها الذي يلوح ديمومة مغلقة، وبين إغواء البحر، وسعته، وانفتاحه، وغرابته. ولد الطفل قبيل الحرب العالمية الثانية لأب يعمل معلماً في مدرسة القرية، ثم ارتحل الى القاهرة، ليلتحق بكلية التجارة. وهي المحطات الرئيسية التي نعرفها عن حياة الكاتب نفسه. لكن الكاتب لا يقص سيرته، أي لا يكتب سيرة ذاتية تقيم تطابقاً بين حدث الكتاب وحدث الواقع، وإنما يلتقط بعض عناصر هذه الحياة، ويدرجها في سياق غير وقائعي. تصلنا الأحداث من منظور الطفل الرواية. وفي قص رشيق فيه نفحة سخرية تذكر بأثر شاحب لا يكاد يبين براوي أحداث "أطفال منتصف الليل" لسلمان رشدي، يسرد لنا الكتاب مولد الطفل في ليلة عاصفة حيث "المطر أفسد كل شيء: الرغبات والحطب، الطرقات وشهوة الثرثرة تحت السماء"، تزلق رجل الداية، وتأخذ في الهذيان عن ماضيها وأمها وأبيها، والعفريت الذي يراودها عن نفسها حتى ينالها. وبعد أن تتم مهمتها ويهبط الطفل، تموت. في السرد الواقعي يحرص الكاتب على مشاكلة الواقع، والإيهام بالمشهد. أي يحرص على عدم مجاوزة منطق الواقع، وفكرتنا عنه. ومادامت الأحداث تصلنا من منظور طفل، فيجب الالتزام بهذا المنظور. ولذلك فالقارئ الذي ألف منطق هذا السرد سيؤرقه سؤال عن معرفة الطفل بما حدث قبل مولده وبعده، قبل أن يدرك ما حوله. في القص ما بعد الحداثي ليس ثمة وجاهة للسؤال، لأن طرحه ينبئ عن إيديولوجيا جمالية، تحرص على مبدأ شاكلة النص للواقع، القائم على منطق علي، غائي، وعلى ضرورة الانصياع لهذا المنطق. ومن هنا يطوّح هذا الكاتب بمواصفات القص الحداثي، ويوقع مع قارئه عقداً مخالفاً لهذه المواصفات. هل يمكن القول إن البساطي يوقّع عقداً معنا، ينطوي على لا واقعية أحداث كتابه؟ لا تبنئ قراءة رواية "ويأتي القطار" عن يقين صحيح أن الكاتب لا ينصاع لما صاغه هنري جيمس من وصايا بخصوص وجهة النظر، ومسرحة الحدث، لكن صحيح أيضاً أن كل ما يقصه الكاتب، يمكن وقوعه. ولو سئل الكاتب عن حريته في السرد على هذا النحو، فمن المتوقع أن يرجع ذلك الى طبيعة الحياة في القرية، التي تتيح للجميع معرفة ما يجري فيها. نحن مع كاتب واقعي قد ينزع الى الشطح، ويفارق منطق الواقع أحياناً، لكنه في النهاية كاتب واقعي، يحرص على مشاكلة الواقع، ومن ثم تنطوي كتابته على عناصر واقعية مع عناصر ليست كذلك، إن سطح الكاتب، وتنقيبه عن الطريف والمفارق لا يدمر واقعية الرؤية، ولا يصل الى حد انعدام اليقين في "موضوعية الواقع". على هذا فإن بعض منجزات القص ما بعد الحداثي، وبخاصة لدى بعض كتاب الواقعية السحرية في صيغتها الاميركية اللاتينية، أو في صيغتها التي يتبناها سلمان رشدي، لا تعدو أن تكون عناصر موضوعة في خدمة رؤية أخرى. يقف البساطي على الحافة بين الواقعي والعجيب دون أن يصبح كتابة واقعية سحرية، أعني أن توغله في ما بعد الحداثة، يظل موضع شك. لأن ما بعد الحداثة حين تجاور بين الخطابات، أو تخلط الواقع بالوهم، تشكك في واقعية الواقع، وفي المنطق السائد للتعامل معه، وفي آليات كتابته، وأقصى ما يمكن أن يقال إن اللواذ ببعض إنجازات ما بعد الحادثة، يدرج هذه الانجازات في نسق واقعي، فيرفدها بمياه جديدة، تعالج جفاف الواقع العاري الصلب من دون أن يصل الأمر الى حد تبني ايديولوجيا ما بعد حداثية. ما إن نتوغل في القراءة، حتى نتأكد من النغمة الاساسية التي ستسود الكتاب، فالكاتب يتخفف من إنشداد كاتب السيرة الذاتية الى الواقع، ويلتقط عناصر سردية، ينميها، واصفاً إياها في سياق من السخرية، والمفارقة، والشطح، ومن ثم تضعف الإحالة الى المرجع. الطفل الذي يولد في ليلة ماطرة، يوضع في سياق يركز على المرح والسخرية، برغم اقترانه بموت الداية العجوز، الوسيط الذي جعله يغادر بطن أمه، ويأتي الى الدنيا. ويحقق هذا المرح شعوراً بانعدام رضّة الميلاد، إنه كائن يكتشف ما حوله محدقاً بعينين جريئتين، ويدرج في سياق الكائنات الحيوانية، الجدي والكلب، ومن ثم يقيده أهله بحبل يصنع بكاحله التسلخات، التي تصبح علامته المصاحبة، ويظل هائماً في البيت والزقاق، بمؤخرته العارية، يقود أقرانه في مشاهد فكاهية لمطاردة الأوز، ويصارع أخاه في الرضاعة بعد جفاف لبن أمه، وينجو بمعجزة من يدي الغجرية التي كادت أن تنجح في خطفه، ومن الموت بالحمى، أو الغرق. السخرية من الذات كتابة الطفل على هذا النحو، تشكك في اختبار الكتاب سيرة ذاتية، لأننا نشعر بفنتازية الصورة والسخرية من الذات على نحو يقربنا من قهقهة ما بعد الحداثة التي تسخر من الامتلاء العاطفي، وهو ما تدعمه رحلة الطفل في التعلم والاكتشاف، حيث تصل إلينا أصداء حياته، وهو يتهم بالعبث الجنسي مع أحد أقرانه، ويشارك صبية الكُتاب في ايقاع الألم بعريف الكُتّاب. العنصران السرديان - العبث الجنسي، والعلاقة بالعريف - أيقظا في ذاكرتي العنصرين نفسيهما لدى كتاب آخرين. العنصر الأول ذكرني بقصة يحيى الطاهر عبدالله "الرقصة المباحة"، وفيها نرى والد الطفل الذي ليط به في مشهد الحوار مع أبي الطفل اللائط، حول الحدث. وهو ما نجده هنا أيضاً. في قصة يحيى يوضع الحدث في سياق خرق التابو، ومن ثم يتحول عبث الصغار الى جريمة، نتج عنها قتل الطفل الأول، وطرد الطفل الثاني من القرية، إي إفراده بعيداً عن الجماعة، ليصبح مشرداً، مطروداً، وغريباً "رقصة وسط الغجر مباحة". هنا فضاء وحشي مغلق على نفسه، يرزح تحت وطأة ثقافة مغلقة. لكن الأمر جد مختلف في كتاب "ويأتي القطار"، لأن حدث العبث الجنسي لا يعدو أن يكون كذلك، في سياق لا يرفع الواقعة الى مستوى اقتراف التابو. ومن هنا يكون عقاب الطفل، هيناً، وهو امتناع والده عن محادثته لأيام. ليست النظرة الى الواقعة مختلفة فقط، بسبب اختلاف السياقين، جنوب مصر وشمالها، بل لاختلاف الكتابة أيضاً. فرحلة الطفل في كتاب "ويأتي القطار"، تدعو القارئ لكتابة مرحة، لا تحفل كثيراً بتوليد دلالات ضخمة من أحداث الحياة، ولعل استخدام ضمير المتكلم قد منح الكاتب حرية الحركة بين الأزمنة وانفعال الأبطال، ومكّنه من التعليق المرح على كل شيء، فتخفف الحدث من دلالات الاثم التي يحددها السياق. الحدث الثاني القصير، الخاص بالعريف يلوح ومضة في سياق متقطع، فالعلاقة بين الطفل وعريفه ليست في عمق علاقة الصبي بعريفه في كتاب "الأيام" لطه حسين. في الأيام تؤكد الكتابة على كذب "الكبار"، وفساد المعلمين. أما هنا في كتاب البساطي فالعريف يكاد يصبح مغرياً لكاتب مولع بالطرافة، يلتقط المفارقات، ويضع شخصياته في مواقف تبرز ضعفها وهشاشتها، لكن من خلال سخرية حانية غير عاضة، هل تنطوي الكتابة المرحة هنا على سخرية من المعرفة، عبر السخرية من ممثليها. لدينا هنا صورة الأب المعلم وصديقه قارئ الجريدة، ثم صورة الافندي "المضروب" الشاذ جنسياً الذي يهبط القرية من أجل شبابها المتعلم، الحالم بالانتقال من وضع اجتماعي الى وضع أرقى من خلال التعليم. وعلى رغم شحوب حضور الأب في فضاء الكتاب إلا أن صديقه المعلم يبرز في مشهد دال، جالساً أمام منزله عصراً، وعيناه تتحركان بين سطور الصحيفة التي يطالعها ومراقبة العروس الشابة الواقفة فوق سطح المنزل، المشهد كاشف عن مكانة المعلم الاجتماعية، وجفاف حياته الذي يكشف عن جوعه للأنوثة لكنه أيضاً يمهد للكشف عن عمر الأنوثة القصير في حياة الفلاحين الفقراء، فبعد زمن قصير، سنرى المشهد نفسه تقريباً، لكن الاستاذ يكف عن الاهتمام بالعروس التي لم تعد عروساً، بل مجرد فلاحة فقيرة فقدت نضارتها في العمل اليومي في الحقول. صورة العريف، ثم ثورة الافندي المضروب تتضاد مع صورة المعلم الوطني، الهائم في مدارس القطر لينشر الوعي الوطني والسياسي. هل تمثل الصورتان: الأولى والثانية، سخرية من المعرفة وزيفها، فعلاً، وفي هذه الحالة سيكون المعلم ناقل "الوعي" إشارة الى معرفة أخرى، إن صورة المعلم ناقل الوعي يمكن فهمها على نحو أدق حين نتأمل طبيعة التأشير في هذا الكتاب. فكتابة البساطي المتأخرة تصنع آليات معينة لفتح النص على مرجعه. فالكاتب يكتب تحت وطأة حضور قارئ ضمني يتصوره في لحظة الكتابة، هذا القارئ هو جموع المثقفين "الوطنيين" المصريين الذين يمكن اعتبارهم جماعة مرجعية للكاتب، ومن ثم يحرص على دسّ الرسائل لهم. في "أصوات الليل" تكثر هذه الرسائل، ويسهل تلمسها. حدث المظاهرات العنيفة، الذي يطال كل شيء، يكتب، وكأنه مظاهرات كانون الثاني يناير 1977. اما تدمير العراق في حرب الخليج الثانية، فهو مماثل عبر عودة فلاح مصري من بلد بعيد قضى فيه أربعين عاماً، ثم عاد بزوجه التي تزوحها هناك، مريضاً بعد رؤيته للخراب والحقول التي احترقت ودمرت. المفارقة ان هذا العائد بعد زمن طويل عاد دون ان تترك الرحلة فيه شيئاً. فالإقامة التي طالت، بدت كأنها إقامة ساعات في مكان على بعد خطوة من قريته. هكذا نوغل في رحلة الطفل الذي أصبح حبيباً ثم غلاماً مراهقاً. فبعد اكتشاف الجنس والأبجدية، يموت الأب، لكن الطفل لا يعرى من الحماية فالجد يأخذ دوره، وفيما يشجب دور الأم الشاحب بدءاً، تحضر الأخت امرأة مصغرة، مدربة، قادرة على إدارة دفة الحياة. فالنسوة في كتابة محمد البساطي يمثلن "الوتد" لخيمة الحياة، وحضورهن يفوق حضور الرجال. على نحو ما نرى في شخصية زوجة الصياد في "صخب البحيرة" وشخصية بدرية في "أصوات الليل"، وشخصية الغريبة في "بيوت وراء الأشجار".. إلخ. وفي هذا الفضاء سنلمح أصداء من عالم البساطي الذي نعرفه من قبل، إليجوريات عن الإرث، وتجار القطن، وحياة الصيادين، وحضور الانكليز، وأصداء الكوليرا، والحروب. وفي هذه الكتابة عن الماضي: الطفولة، والمدرسة واكتشاف الجنس والأنوثة، لسنا مع فضاء من الحنين الناتج عن كتابة الذات، والاحتفال بالجسد، كما نجد في بعض قصائد النثر للشعراء الشباب في مصر. فالطفولة ليست فردوساً مفقوداً، يُهفى اليه، او تلوذ الذات بفيئه، وعلى هذا يلوح الراوي مجرد خيط نحيل في نسيج الحياة، التي تتحرك نحو التغير ببطء. فوجود المدرسة وتلاميذها الذين يمضون في أزقتها مذهوين ببعض الكلمات الانكليزية، وحضور الصحيفة، وافتتاح السينما، كلها عناصر تشير الى هذا التغيير. إن افتتاح سينما القرية شبيه بحضور الراديو في "زقاق المدق" علامة على تغيير الحياة. أضف الى ذلك أن هذه العناصر مع غيرها، تؤكد ما في كتابة البساطي، من كشف اجتماعي وسياسي، مما يؤكد في النهاية حرصها على مشاكلة الواقع والشهادة عليه. لكن البساطي يخدعنا حين يومئ إلينا، أنه يسرد سيرة طفل، لأنه يدرك ان حياة بطله لا تحتمل عبء كتاب كامل، لذلك يزاوج بين تدرج الطفل في الوعي، وبين الحياة في قريته. إنه طفل مجنّح توّاق الى التحليق، والشطح واقتناص المفارقات، والطرائف، كما رسمه محيي الدين اللباد على الغلاف الجميل للكتاب، طفلاً بجناحين، مقروناً بطائر محلق، ومحاطاً بخلفية من الزهور والنمنمة الزخرفية. وفي حكايات البساطي عن القرية، وناسها، نجد إننا إزاء عناصر لا يتم استثمارها لاحقاً، وهو أمر طبيعي، لأننا لسنا مع حبكة تنظم الاحداث، وهو ما نجده في الحكايات الجميلة عن خفاجة ماسح الأحذية، والرجل المضروب، والعريس المربوط، وزكريا الذي يبني السينما، حكايات مكتملة، مغلقة، مما يشير الى إشكالية النوع الادبي مرة أخرى. في مثل هذه الحكايات، يدخل البساطي منطقته الأثيرة، التي تنتمي اليها نصوص مثل "منحنى النهر"، حيث عالمه السري الذي يتحقق التجانس فيه، بفعل نهر تحتي غير منظور، ينظم حركة السطح، ويدرج مفردات الواقع الخشنة في سياق يجردها من المباشرة، وقصور الدلالة، وفقر الايحاء، لكن ولع الكاتب بالتوضيح، يجعله يلوذ بحكايات ومشاهد تنهض فقط بدور ملء الفراغات في الأحداث، والخضوع لمنطقة السرد السيري، والحرص على إكمال المشهد. ينتهي كتاب "ويأتي القطار" بتأهب الفلاح للسفر الى القاهرة، ومن هنا جاء العنوان، الذي يشير الى المستقبل الغامض المفتوح، ويمثل فيه القطار علامة على الانتقال، وتبدل المصير. كأن المدينة تظل في وعي أبناء القرى "ندّاهة"، تعد بمباهج أخرى، وتشعل في نفوسهم الرغبة وطء أرضها، ونيل جائزتها. * شاعر وناقد مصري.