يطلق الكاتب الجزائري محمد أركون على نفسه في كتابه الجديد، "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي"، الصادر مؤخراً عن "دار الساقي"، في ترجمة وتعليق لهاشم صالح، تسمية "الباحث-المفكر"، تمييزاً له عن أقرانه من الدارسين في شؤون الفكر والتاريخ الإسلاميين. وهي تسمية يريد منها تمييز عمله البحثي عما يقوم به المستشرقون تحديداً في المجال عينه، والذين ساق سابقاً ويسوق في كتابه الجديد أقوالاً في ممارستهم لكتابتهم تُظهر تمسكهم بالتوثيق بما في ذلك جمعهم للمواد وتحقيقها ونشرها ودرسها درساً "فيلولوجياً"، من دون التفكير، أو التدخل النقدي في هذا المتن. وهو يعلن بنفسه اختلافه مع طريقة عمل عدد آخر من الدارسين ممن يكتبون بالعربية، من أمثال محمد عابد الجابري وحسن حنفي وعبدالله العروي وغيرهم، ولكن من دون أن يوضح كفاية هذا التمييز الذي يرد في حاشية في إحدى دراسات الكتاب. وما كان يحتاج أركون الى مثل هذا التمييز وغيره للتأكيد على تمايز دراسته عن غيرها، إلا من باب أنه يتحقق من رواج طرق أقرانه، وقلة حظوظ دراساته أو نصيبها من الرواج عينه. وهو رواج يتيحه من دون شك، وفي المقام الأول، سهولة المقترب "المدرساني" والتصنيفي الذي يقوم به غيره، فيما تسعى طريقته إلى نقد متعدد الأوجه والتجذر النقدي ما لا يجعلها موضوعاً لقبول أو لاستعمال ميسر لعدد كبير من الدارسين والجامعيين. وهذا ما يفسر، من جهة ثانية، إقبال أركون الشديد على الشرح والإيضاح والتنبيه والتمييز والتأكيد، وهو ما يدعمه كذلك، وإن بشيء من التوسع والتكرار أحياناً، عمل المترجم والمعلق هاشم صالح في تعليقاته التي لا تخلو منها صفحة واحدة من الكتاب. وهذا الجهد الشرحي، التربوي في نهاية المطاف، يغالب المنحى البحثي المحض في بعض مواضع الكتاب، بل يبدو الكتاب أشبه بكتب عدة، بل بعد طرق متباينة ومتداخلة في التأليف والسجال في آن. فأركون يعين ويرسم لكتابته، لممارسة فكره، مجالاً، بل رتبة يرى منها إلى الإشكاليات والمجال لا يتنطح لها أحد، اليوم، بهذا الاقتدار والتوسع والتتبع، وهي أنه يتابع شؤون الفكر الإسلامي في غير لغة، ومجال إسلامي، وفي غير بلد وثقافة، سواء في النطاقات الأوروبية والأميركية، أو العربية والإسلامية. وتمثل كتبه أكثر فأكثر مثل قراءة تتبعية ونقدية تفحصية في آن لكل ما يصدر من مجهودات قيمة جديرة بالمتابعة والنقد في عدد واسع من اللغات، حتى أن المراجع التي يشتملها هذا الكتاب، مثل عدد من سابقيه، يمثل للقارىء مثل مكتبة نقدية للجديد المتمير في الدراسات الإسلامية. وهذا السعي في السجال يحتل قسماً من الكتاب، من فقرات واسعة من دراساته، ويوظفه أركون ل"موضعة" خطابه في دورة التداول، هنا وهناك، ولتمييزه عن خطابات غيره بما فيه نقدها طبعاً كذلك. إلا أن للكتاب غرضاً آخر يتمثل في جهد آخر، وهو النقد المستمر للبنية "المعطِّلة" في الفكر الإسلامي، في قديمه وراهنه كذلك، حيث أن تعطله يعود إلى أسباب مختلفة، منها "امتناع" التفكير أو "استحالته" في العهد القديم، ومنها عدم التجرؤ على القيام بذلك في العهد الراهن. ويقوم أركون بمساع لافتة في تشغيل، أو تحريك "رواكد" هذا الفكر، أو في الكشف على بعض آلياته، ومنها الآلية التي ينهض عليها عنوان الكتاب، ولا تختصر الكتاب، كالقول بإن المساعي التأصيلية الحالية "مستحيلة" طالما أنها ترتكز "إلى إدعاء بإمكان التأصيل لحقيقة ما"، سواء أكانت دينية، أم علمية، أم فلسفية، أم أخلاقية وسواها. وتحول دون إمكان التأصيل، حسب أركون، مستويات متعددة: منها ما يمكن التفكير فيه للمتكلم، وهو متعلق بتمكن المتكلم من اللغة التي يستعملها، وبالإمكانيات الخاصة بكل لغة اختارها المتكلم. كما يتعلق التأصيل كذلك بما "يسمح به الفكر والتصورات والعقائد والنظم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها أو يخاطبها المتكلم وبالفترة التاريخية من فترات تطور تلك الجماعة". كما يتعلق التأصيل "بما تسمح به السلطة القائمة في المجتمع أو الأمة اللذين يتضامن معهما المتكلم". وتتعلق إمكانات التأصيل بمستوى آخر، هو "ما لا يمكن التفكير فيه بسبب مانع يعود إلى محدودية العقل ذاته أو انغلاقه في طور معين من أطوار المعرفة"، وقد يكون بسبب ما تمنعه السلطة الدينية أو السياسية أو الرأي العام، ومنه قضية سلمان رشدي. غير أن أركون ينحو في كلامه هذا منحى آخر، إذ يضيف إلى الأسباب هذه سبباً آخر، وهو "تقليدية" الفكر واعتياداته وسلوكاته في هذا المجال، إذ تراكم في مجال الفكر الإسلامي متن هائل من المواد والمواقف والسلوكات التي تحصره في نطاق ضيق، مكرور، ومتجمد، وامتنع فيه بالتالي سبيل القراءة المجتهدة والمتحررة. ويقود هذا الكلام أركون إلى الحديث، من جهة، عن "تعدد الأصول"، لا عن وحدانيتها مثلما يذهب العديد من الكتاب أي التأكيد والتثبيت، وإلى الحديث، من جهة ثانية، عن "تاريخية الأصول"، أي كونها مدعاة لقراءة متبصرة ضمن الشروط التاريخية لتكونها وتفاعلها والتجاذب حولها. هكذا يتحقق أركون من وجود مسافة تاريخية ومعرفية بين ما خلفه لنا المجتهدون القدامى عن الأصول من كتابات وأحكام والمشروطة بالنصاب المعرفي لزمانهم، أي أنها قابلة للمراجعة والدرس وبين ما يسعى الأصوليون الحاليون إلى تثبيته على أنه عود على بدء، أو تتمة طبيعية للتأصيل القديم. وهي مهام متعددة يجملها أركون في قوله التالي: "ان تطبيق المنهاج النقدي التفكيكي على ما أصَّله العقل في الماضي، أو ما يواصل تأصيله تقليداً فقط للموروث غير المفكك، لن يؤدي إلى نفي الموروث مبدئياً أو هدمه، أو جهله والإعراض عنه، أو الخفض من قيمته ودوره التاريخي. شتان ما بين المشروع الاستقرائي الاكتشافي الحفري التقديري الإنصافي المستنطق للمسكوت عنه والمزيل عنه لأنواع التلبيس والحجاب، الذي يعمل من أجله العقل المنبثق، وبين الخطابات الإيديولوجية الأصولية والعلمانوية والشعبوية والقوموية والخصوصوية والإيمانوية والتاريخوية وغيرها من البنيات الطاغية على جميع المجتمعات المعاصرة، حتى أصبح المتقدمون والمتأخرون والغالبون والمغلوبون والأغنياء والمحرومون يعانون جميعاً من الفوضى الدلالية أو المعنوية المنتشرة". غير أن هذه الآلية المذكورة لا تختصر الكتاب، إذ بدا لنا أن عنوان الكتاب الفرعي، "نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي"، يناسب أكثر دراسات الكتاب في مجموعها، طالما أن أركون يعمل على إعادة نظر جذرية في التاريخ هذا، وبعضها جديد تماماً في كتاباته هو وكتابات غيره كذلك. فنراه يعود إلى مسارات ووقائع متعددة، بأدوات علوم اجتماعية ولغوية ومعرفية متعددة، لكي يبين لنا الاستمرار والقطيعة في غير حقبة أو مجال فيه. إلى هذا فأنه يبرز لنا - وهذا هو الأهم - عمليات التحوير والتعديل والتنميط والتدوين المتأخر عن الواقعة والانتقال من الشفوي إلي الكتابي وغيرها من العمليات الجارية في غير عهد ونطاق التي تظهر لنا الشغل المتمادي على هذا التاريخ، وعلى تكريس مدونة عنه على أنها "النص". وهو ما يسميه أركون ب"التشكل التدريجي للاعتقاد بواسطة اللمسات البسيطة، أو الإضافات، أو التصحيحات، أو التجذيرات للمواقف، أو التنازلات، أو القطيعات". وتُبرز هذه النظرات إلى التاريخ بعض ما خفي علينا منه، بأثر من هذه العمليات المتمادية والمستمرة، إذ يسعى أركون إلى إذابة التراكم المتجمع فوق طبقاته، وما منع بروز تقاطيعه علينا، أي حقيقة تشكله التاريخي. هذا يصح في النزول القرآني كما في إعداده في "مصحف"، وهذا يصح في "المصحف" وبنائه الترتيبي للسور كما في تدبير تفسير له خفيف بل معدوم الصلة بالوقائع التاريخية نفسها وبمعاني العبارات ودلالاتها في السياق الاجتماعي نفسه، وغيرها من المسائل التي تنير العلاقات المعقدة، لا المبسطة والميسرة، التي نشأت بين هذه المتون المختلفة ولا سيما في عمليات "تشريعها" و"تثبيتها" ومجهودات أعداد من المسلمين في غير مجال ومتن وطور. هكذا يُجري أركون، وفق هذا المنظور، قراءة لسورة "الحجرات" يتحقق فيها من الدلالات المناسبة للفظي "الايمان" "والإسلام" فيها. وهي دلالات تبين لنا وجود تعارض بل توتر صراعي في هذه السورة بين رؤيا للإنسان والمجتمع تقاوم التغيير وبين جهد تربوي، صبور وخير، يعتني برفعة الوضع البشري وتغييره. وفق هذا التفسير يتأكد أركون من أن معنى "إيمان" في هذه السورة هو "الإخلاص والوفاء"، أي الإخلاص لعهد أو اتفاق يربط بين جهتين أو طرفين، وأن معنى "إسلام" هو "الطاعة"، أي تقديم الطاعة لفئة اجتماعية - سياسية ودينية كانت في طور التأسيس" وأما الصيغة الفعلية "آمن" فتعني ضمان الأمان للطرف الآخر، أي عدم الإخلال بالعهد الذي أخذناه على أنفسنا تجاه الطرف الآخر. ويُظهر أركون، وفق المسعى عينه، أن معاني اللفظ "التوبة" ويعدنا بقراءة قريبة، تاريخية، لسورة "التوبة" لا تعني الندم، بل شيئاً آخر وفق الأرضية الاجتماعية المستهدفة من قبل هذه السورة، وهو "الاستسلام المرفق بمهلة تكتيكية أي الدهاء الذي يتيح ممارسة سلطة مكتسبة أو مضمونة منذ الان فصاعداً في ظل الهيبة العليا التي تكسب القلوب". يبدي أركون أسفه في اكثر من موضع في كتابه لأن هذه القراءة "التفكيكية" لا تنعم بعد بممارسين لها، لا في المجال الاستشراقي ولا العربي أو الإسلامي، وهو الوجه الآخر لنقده الذي يطلقه في اكثر من اتجاه في الدراسات الإسلامية. إلا أن هذه القراءة ليست متاحة، وربما غير مرغوبة من بعضهم، عدا أن تمكن أركون منها، منذ كتابه "قراءات في القرآن"، ليس بخاف على الدارس والباحث: هذا ما دشنه أركون، وهذا ما يقوى عليه، وما ينتظره منه عدد من الدارسين في مجال "التفكيك" تحديداً، على لزوم السجال والشرح والتعليق الذي يجريه هنا وهناك، ففي مثل هذا المسعى خروجنا الفعلي من عهد "الأسطرة" المثبتة عن تاريخنا، وإمساكنا بأسبابه الفعلية.