يستجمع المفكر الجزائري محمد أركون في كتابه الجديد "قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟" الصادر حديثاً عن "دار الطليعة" بالتعاون مع مترجمه هاشم صالح، ثلاثة مساعٍ كتابية معروفة في كتبه المتفرقة، وهي البحث المنهجي، والتفكير الحر واجراء الحوارات. وهي مساعٍ كتابية إذ أنها تتوسل في علاقاتها بموضوعاتها تبادلات وقيوداً، أو قواعد لكل نوع منها. فما يتيحه الحوار هو غير ما يقتضيه الشغل الأكاديمي، وما يسمح به التفكير الحر أو التأملي في شواغل راهنة هو غير ما يتيحه التوثق الدقيق في البحث. وجديد الكتاب، بداية، هو انصراف أركون الى الحديث عن "العقل الديني" من دون ان يكون حديثه هذا انصرافاً عن مشروعه التأسيسي المستمر فيه منذ نيف وعشرين سنة، وهو "نقد العقل الإسلامي". إلا ان التركيز على هذا الشاغل الجديد لا يعني، في هذا الكتاب، بلورة له، أو تعييناً أشد له عما كانت عليه أقوال أركون السابقة في ضرورة النظر الى قضايا الفكر الديني، أياً كانت، مسيحية أو إسلامية وغيرها، ضمن المنظور النقدي التاريخي: فما نعايشه إسلامياً عرفته أو تعرفه الى هذا الحد أو ذاك، في هذا النطاق أو ذاك، حالياً مجتمعات أوروبية قبلنا، وما توصلت الى معالجته كتابات "تنويرية" أوروبية في مدى القرنين، الثامن عشر والتاسع عشر، هو ما ينقصنا في بلادنا وفي ساحاتنا الفكرية. ويكفي أركون للتدليل على بعد المسافة هذه في الإشارة الى المحاولة "المتواضعة" التي أجراها المفكر المصري نصر حامد أبو زيد لتوفير قراءة بلاغية للنص القرآني والضجة العارمة التي اصطحبتها وأدت الى "نفي" أبو زيد من بلاده. إلا أن الأبين في كتاب أركون الجديد هو أنه يعتني في صورة لافتة، ولأول مرة بهذه القوة، بموقع خطابه هو، وحاله الشخصية هو تحديداً، في السجال حول قضايا العقل الإسلامي. لا يكتفي بالنظر الى قضايا الخطاب، بل الى مفاعيله في البيئات الثقافية، بل في الجماعتين في هذه الحالة الإسلامية والأوروبية، أي الى ما تحدثه كتابته، أو لا تحدثه، من أفعال مأمولة أو متوقعة، هنا أو هناك. وينطلق أركون، في وعيه لذاته ولآثار خطابه، من النقطة المفصلية التي شكلتها مقابلته في جريدة "الموند" الفرنسية، بعد صدور "الفتوى" ضد سلمان رشدي، وما أثارته مواقفه فيها من ردود، فورية أو لاحقة، أوجدت أركون في غربتين، أو تحقق من حصولهما هذه المرة في صورة علنية. ففي تلك المقابلة تحدث أركون عما أجازوا لأنفسهم النطق باسم "المقدس"، وإدارة أموره، بل رقاب المؤمنين، في نقد لافت ل"الفتوى الخمينية": إلا انه لم يغيب كون هذا السجال يندرج في سياق "هجومي"، قديم ومتجدد، ضد الثقافة المحلية، الجاهلة والمحتقَرة، من الثقافة المهيمنة، العالمة والمتجبرة. هل اختار اركون، حينها، أن يقف الى جانب أبناء جلدته، كما يقولون، ظالمين أو مظلومين؟ لا بالطبع، بل اختار في صورة نقدية أن لا يغفل عن حقيقة ما أدى اليه نشر هذا الكتاب، وتفاعلاته: التحكم برقاب المؤمنين، من جهة، وتجديد وضع الثقافات الإسلامية في وضع اتهامي، تشكيكي، من جهة ثانية، وبأقوى وسائل الإعلام، من دون أن تكون للثقافات هذه، أو لمثقفيها، لا القدرة الفكرية ولا الإعلامية، على الرد المناسب. لذلك يتحدث أركون في الكتاب عن "غربتين" وعن البيئتين، الأوروبية بل الفرنسية تحديداً والإسلامية بل العربية تخصيصاً، إلا أن الغربتين مختلفتان، على ما نظن، ولا تتساويان أو تتوازيان. فالغربة الأولى فكرية، إذا جاز القول، تنهل من نقد أركون الدائم والمستمر، بل من تبرمه، من حال الدراسات الاستشراقية في فرنسا بخلاف ما يسوقه من مديح عما هي عليه في المانيا. وهو نقد يشدد على انصراف هذه الدراسات الى منزع "مدرساني" "سكولاستيكي" يكتفي بسبله القديم من دون أن يطبق على المتن الإسلامي ما حققته الدراسات والمناهج الجديدة في أوروبا، بل في فرنسا نفسها، من خبرات وسبل في النظر التجديدي. وهو ما يتضح بجلاء في هذا الكتاب في دراسة لافتة خص بها أركون المؤرخ الفرنسي الراحل كلود كاهين، وهي دراسة تحكي في صورة بحثية تقدير أركون لمجهودات الراحل بقدر ما تحكي أيضاً، وبعبارات مكشوفة أحياناً، تذمر أركون، بل نفاذ صبره من وقوف هذا المستشرق الكبير وغيره أيضاً أمام سياجات منهجية ومعرفية طالما تقيدت بها هذه المدرسة الاستشراقية عموماً. غربة فكرية، إذن، وهي من "عاديات" الجدل الفكري طبعاً، لولا أنها في هذه الحالة تغتذي أيضاً من حسابات أخرى، قوامها شعور أركون الذي لا يوضحه كفاية في كتابه بأن حصول المعارف وتقدمها في أمم الغربية بعينها لا يعني بالضرورة وقوفها الى جانب العدل والحق. وهو ما يتمثل، على سبيل المثال، في انصراف أعداد من الباحثين الفرنسيين أو الغربيين عموماً الى كتابات استهلاكية عن الظاهرة "الأصولية" تعزز مثلما تغتذي من مواقف أوروبية تقضي بربط الإسلام بالعنف دوماً. أما غربته الثانية فمغايرة، على ما نعتقد، إذ أنها تنطلق من حسابات وموازين أخرى: ففي كتابه الجديد يتحدث أركون، في صورة قلما لجأ اليها في السابق، عن ارتباطه بأمته وبلاده ارتباطاً "مصيرياً" و"قدرياً". وهو تصريح "عاطفي" طالما غاب عن كتابات أركون "الرصينة" فيما مضى، الا انه يعين، في المقام الأول، استهدافات أركون "الاستثمارية" في الجدل الفكري. يعلن أركون في صورة تفصيلية، هذه المرة، عن مشروعه في "نقد العقل الإسلامي"، ويجدد تأكيده عليه، بل ينتقد مشروعات غيره، ولا سيما مشروع محمد عابد الجابري الذي يعده في خانة "الاستهلاك الإيديولوجي" للتراث، وذلك في كلام وتصريحات توحي بوجود "خطة" بينة لذلك، ولا تخلو أحياناً من تدابير احترازية أو "تكتيكية"، إذا جاز القول. فلأول مرة يصرح أركون بما اختطه لنفسه منذ عدة سنوات، وهو الاستمرار في مشروعه النقدي الجذري، ولكن من دون التعرض الصريح بل "الجارح" لنطاق الممنوعات الإسلامية، على الرغم من ملامسته إياها في غير موضع في كتابه هذا، أو في ما سبقه وهي خشية لا تتأتى من "حسابات" شخصية أو من التهديدات العنفية التي تطاول المفكرين الجسورين، التي يذكرها في كتابه، بل من قناعة بأن مفكراً، حتى من عيار أركون، لا يقوى وحده على احداث "الثورة" ثورة "الحداثة" التي أنجزتها المجتمعات الأوروبية قبل مفكريها على مدى أكثر من قرنين. غربة أركون في هذا المجال تحكي على طريقتها تعويله أو طلبه الصريح للتأثير الأقوى والأفعل في أوساط البيئة التي تحدر منها، والتي يأمل في إحقاق حقها بأدوات العلم. في غربته الأولى يتحقق أركون، إذا جاز القول، من انفصاله المتزايد عن البيئة الفرنسية، وفي غربته الثانية يتحقق من نقص، بل يأمل في فعل أقوى لكتاباته، غير حاصل كفاية بعد، في بيئته العربية: ما العلاقة بين الغربتين؟ أهذه أدت الى تلك، أم أنهما غربتان أشبه ب"الأوعية المتصلة"؟ ما مقدار اسهام التجربة الشخصية، أي وضع الفكر في التداول وعلى محك البشر والمثقفين، في تطوير الفكر نفسه وتعيين نقلاته؟ ما مقدار إسهام الفكر نفسه، في عدته المجردة وفي توفير نسقه المخصوص، في تطوير الفكر نفسه، وجعله يفوز بمساحات أوسع في التداول الاجتماعي؟ وهناك أسئلة أخرى عديدة يثيرها كتاب أركون الجديد، الذي يغتذي من زخم قوي في تتبع القضايا ومطارحتها، ومن جرأة في عرضها، تضع هذا الكتاب مثلما تضع قضايانا في صلب العصر ومشاكله. إلا أننا في هذا الكتاب نتعرف، لأول مرة بهذا القرب، على صورة "نفسية" لأركون، أو على مكابداته في خيارات الفكر والإقامة، طالما افتقدناها في كتاباته السابقة. وهي صورة تظهره في موقع المثقف الذي يطالب بالتأثير الفاعل في جماعته، لا في موقع الدارس الرصين وحسب. وهذه الصورة تتحدث عن مفاعيل الخطاب الأركوني، أو عن سلاسل من "سوء الفهم" التي تطاوله وهو ما يقوم هاشم صالح بشرحه والتعليق عليه في هذه البيئة أو تلك، وهي هنات تصيب أي خطاب، على ما نعرف، لا بل هي في صميم عملية تلقيه، ولا تعوض في أية حال عن انتاج الخطاب الأركوني نفسه: ففي غير دراسة وموضع، في هذا الكتاب كما في غيره، يتحدث أركون عن مشروعات، أو يرسم أطراً وتحقيبات لها، أشبه بصيغ توجيهية للباحثين، أو بخطط مؤجلة تنتظر... أركون تحديداً.